الشيعة في العصرين : الأُمويّ والعباسيّ
الشيعة في العصرين : الأُمويّ والعباسيّ
لا نأتي بجديد إذا ذهبنا إلى القول بأنّ الهجمة الشرسة التي كانت تستهدف استئصال الشيعة والقضاء عليهم قد أخذت أبعاداً خطيرة ودامية أبان الحكمين الأُموي و العباسي ، فما أن لبّى الإمام دعوة ربّه في ليلة الحادي و العشرين من رمضان على يد أشقي الأوّلين و الآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، وهو يصلّـي في محراب عبادته ، حتّى شرع أعداء الإمام وخصوم التشيّع إلى التعرّض الصريح بالقتل و التشريد لأنصار هذا المذهب و المنتسبين إليه ، وإذا كان استشهاد الإمام علي يؤلّف في حدّ ذاته ضربة قاصمة في هيكلية البناء الإسلامي ، إلاّ أنّ هذا لم يمنع البعض ممّن وقفوا موقفاً باطلا ومنحرفاً من الإمام عليّ في حياته من التعبير عن سرورهم من هذا الأمر الجلل ، كما نقل ذلك ابن الأثير عن عائشة زوجة رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حيث قالت عندما وصلها النبأ :
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى * كما قرّ عيناً بالإيـاب المسافـرُ
ثمّ قالت : من قتله ، فقيل : رجل من مراد ، فقالت :
فإن يك نائياً فلقد نعاهُ * نعيُّ ليس في فيه الترابُ
فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعليّ؟ فقالت : إنّي أنسى ، فإذا نسيت فذكّروني . . .!! .
الشيعة في العصر الأُموي
أمّا معاوية فلا مناص من القول بأنّه أكثر المستبشرين بهذا الأمر ، حيث
إنّه قال لمّا بلغه : إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه .
ثمّ أنشد :
قل للأرانب ترعى أينما سرّحت * وللظباء بلا خوف و لا وجلِ
في الجانب الآخر نرى أنّ الإمام الحسن الابن الأكبر للإمام عليّ ووارثه ينعى أباه بقوله في مسجد الكوفة : «ألا إنّه قد مضي في هذه الليلة ، رجل لم يدركه الأوّلون ، ولن يري مثله الآخرون . من كان يقاتل وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله . والله لقد توفّي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع فيها عيسى بن مريم ، وأُنزل القرآن . ألا وإنّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله»
ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته ، وكان أوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري ، ثم تتابع الناس على بيعته ، وكان أمير المؤمنين قد بايعه أربعون
ألفاً من عسكره على الموت . فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل _ عليه السلام _ . فبايع هؤلاء ولده الحسن ، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه ، تجهّز هو و الجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً . وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية
بيد إنّ الأُمور لم تستقم للإمام الحسن لجملة من الأسباب المعروفة ، أهمّها تخاذل أهل العراق أوّلا ، وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً و التفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم و المناصب ، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً . وإنّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين ، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً . كما أنّ قسماً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً . إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الإمام إلى قبول الصلح مع معاوية تحت شروط خاصّة تضمن لشيعة عليّ الأمن والأمان ، إلاّ أنّ معاوية وبعد أن وقّع على صلحه مع الإمام الحسن لم يتردد من الإعلان عن سريرته بكل صراحة ووضوح على منبر الكوفة : إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ـ وإنّكم لتفعلون ذلك ـ ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون ، ألا وإنّي قد كنت منَّيتُ الحسن أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشىء منها له.
وكان ذلك التصريح الخطير ، والمنافي لأبسط مبادئ الشريعة الإسلامية ،
يمثل الإعلان الرسمي لبدء الحملة الشرسة والمعلنة لاستئصال شيعة علي و أنصاره تحت كلّ حجر ومدر . وتوالت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأُمويّة ، فلم يكن للشيعة في تلك الأيّام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان . وهذا هو الذي نستعرضه في هذا الفصل على وجه الإجمال ، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة كان معجزة من معاجز الله سبحانه ، كما يتوضّح له مدى الدور الخطير الذي لعبه الشيعة في الصمود والكفاح والردّ على الظلمة وأعوانهم منذ عصر الإمام إلى يومنا هذا . وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية .
۱ ـ رسالة الإمام الحسين إلى معاوية :
« أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى ، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي ، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أُريد لك حرباً ولا خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين حزب الظلمة وأعوان الشيطان الرجيم . ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين ـ إلى أن قال ـ أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في زياد أنّه على دين عليّ كرّم الله وجهه ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها الله عنكم بنا منّة عليكم ، وقلت فيما قلت : لا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة وإنّي لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها ، وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأُمّة محمّد . وإنّي والله ما أعرف فضلا من جهادك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي ، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني . وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية ما بدا لك ، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وإنّي لأرجو أن لا تضرّ إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك
فكدني ما بدا لك ، واتّق الله يا معاوية ، واعلم أنّ لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، واعلم أنّ الله ليس بناس لك قتلك بالظنّة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعيّة و السلام».
ولعلّ المتأمل في جوانب هذه الرسالة والمتدبّر لمفرداتها يدرك وبوضوح مدى الدور المنحرف الذي وقفه الأُمويّون وعلى رأسهم معاوية في محاربة أنصار مذهب التشيّع وروّاده ، كما تتوضح له الصورة عن حجم المحنة التي مرّ بها الشيعة إبّان تلك الحقبة الزمنية .
ولكي تتوضّح الصورة في ذهن القارئ الكريم ندعوه إلى قراءة رسالة الإمام محمّد بن عليّ الباقر _ عليه السلام _ لأحد أصحابه ، حيث قال :
« إنّ رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا . ثمّ تداولتها قريش ، واحد بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتّى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غدر به وأُسلم
ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء
أهل بيته ، وهم قليل حقّ قليل . ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم وقتلوه .
ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نستذلّ ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن _ عليه السلام _ ، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين _ عليه السلام _ ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتّى أنّ الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحبّ إليه من أن يقال : شيعة عليّ ، وحتّى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع ».
بل وإليك ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة :
كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة عليّ بن أبي طالب ، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه فطلبه زياد ، فأتى الحسن بن عليّ ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته ، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره ، فكتب الحسن إلى زياد : «من الحسن بن عليّ إلى زياد ، أمّا بعد : فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فحبستهم ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فابن له داره ، واردد عليه عياله وماله ، فانّي قد أجرته فشفّعني فيه» .
فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة ، أمّا بعد : فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت سوقة ، وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيّته كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي و رضاً منك بذلك ، وأيم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك ، فإنّ أحبّ لحم علىَّ أن آكله اللّحم الذي أنت منه ، فسلّمه بجريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه ، وإن قتلته لم أقتله إلاّ لحبّه أباك الفاسق ، والسلام ».
« كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرّضهم على لعن عليّ أو البراءة منه ، فملأ منهم المسجد والرحبة ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف».
وعن المنتظم لابن الجوزي : أنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم ، فجمعهم حتّى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من
عليّ ، وعلم أنّهم سيمتنعون ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم.
بيان معاوية إلى عماله :
روى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة!! : «أن برأت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته» فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر ، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة عليّ _ عليه السلام _ فاستعمل عليها زياد بن سميّة ، وضمّ إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيّام عليّ _ عليه السلام _ ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة . وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك ، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء و الحباء و القطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل و الدنيا ، فليس
يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه . فلبثوا بذلك حيناً .
ثمّ كتب إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة; فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب و شيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله!!
فقرأت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لاحقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتّى علّموه بناتهم و نساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه . وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره .
فلم يكن بلد أشدّ بلاءً من العراق ، ولا سيّما الكوفة ، حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ _ عليه السلام _ ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه . فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون
والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويتقرّبوا من مجالسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل ، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها .
وقال ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّ _ عليه السلام _ فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض .
ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين _ عليه السلام _ وولّـي عبد الملك بن مروان ، فاشتدّ على الشيعة ، وولّي عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ،وأكثروا من الغضّ من عليّ _ عليه السلام _ وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتى أنّ إنساناً وقف للحجّاج ـ ويقال إنّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً ، وانّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج . فتضاحك له الحجّاج ، وقال : للطف ما توسّلت به ، قد ولّيتك موضع كذا .
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر ، قال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم بما
يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم.
ضحايا الغدر الأُموي
لعلّ المرء يصاب بالذهول وهو يتأمّل أسماء الصحابة والتابعين ذوي
المنازل الرفيعة والمكانة السامية و الدور الجليل في خدمة الإسلام وأهله ،
كيف سقطوا صرعى بسيف الأُمويّين لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة عليّ _ عليه السلام _ ، ومن هؤلاء :
۱ ـ حجر بن عديّ : الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (٥۱هـ ) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة ، وفرية ظالمة ، كان يراد منها قتله وتوجيه ضربة قوية لشيعة عليّ وتصفيتهم .
يقول المسعودي :
« في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عديّ الكندي ـ وهو أوّل من قتل صبراً في الإسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها ، فلمّـا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :
ترفّع أيّها القمر المنير * لعلّك أن ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب * ليقتله ، كذا زعم الأمير
ويصلبه على بابي دمشق * وتأكل من محاسنه النسور
ثمّ قتله مع أصحابه في مرج عذراء بصورة بشعة يندى لها الجبين ، وهي مذكورة في جميع كتب التأريخ ، فراجع .
۲ ـ عمرو بن الحمق : ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الإمام الحسين سيّد الشهداء بأنّه : «أبلت وجهه العبادة» . قتله معاوية بعدما أعطاه الأمان .
۳ ـ مالك الأشتر : ملك العرب ، وأحد أشرف رجالاتها وأبطالها ، كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية . قتله معاوية بالسمّ في مسيره إلى مصر بيد أحد عمـّاله .
٤ ـ رشيد الهجري : كان من تلاميذ الإمام وخواصّه ، عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى ، فقطع يديه ورجليه ولسانه ، وصلبه خنقاً في عنقه .
٥ ـ جويرية بن مسهر العبديّ : أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة .
٦ ـ قنبر مولى أمير المؤمنين : روي أن الحجّاج قال لبعض جلاوزته : أُحبّ أن أُصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فقالوا : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من
مولاه قنبر . فبعث في طلبه ، فقال له : أنت قنبر؟ قال : نعم ، قال له : ابرأ من دين عليّ ، فقال له : هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟ قال : إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك ، قال : أخبرني أمير المؤمنين : أنّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ . فأمر به فذبح كما تذبح الشاة
۷ ـ كميل بن زياد : وهو من خيار الشيعة وخاصّة أمير المؤمنين ، طلبه الحجّاج فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم ، فلمّـا رأى كميل ذلك قال : أنا
شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي . فاستسلم للحجّاج ، فلمّـا رآه قال له : كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل :
لا تبرق ولا ترعد ، فوالله ما بقي من عمري إلاّ مثل الغبار ، فاقض فإنّ الموعد الله
عزّ وجلّ ، وبعد القتل الحساب . وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّك قاتلي ، فقال الحجّاج : الحجّة عليك إذن ، فقال : ذلك إن كان القضاء لك ، قال : بلى ، اضربوا عنقه
۸ ـ سعيد بن جبير : التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة ، وكان يصلّـي خلف الإمام زين العابدين ، فلمّـا رآه الحجّاج قال له : أنت شقي ابن كسير ، فقال : أُمّي أعرف باسمي منك . ثم بعد أخذ وردّ أمر الحجاج بقتله ، فقال سعيد :{وجّهتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السمّواتِ وَالأرضَ حنيفاً ـ مسلماً ـ وما أنا مِنَ المشركين}. فقال الحجّاج : شدّوه إلى غير القبلة ، فقال : {أينما تولّوا فثمَّ وَجهُ الله} ، فقال : كبّوه على وجهه ، قال : { مِنْها خَلَقناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُم وَمِنْها نُخْرِجُكُم تارَة أُخرى}. ثمّ ضربت عنقه .
وسيوافيك ما جرى على زيد بن عليّ من الصلب أيّام خلافة هشام بن
عبدالملك عام (۱۲۲هـ ) عند الكلام عن فرقة الزيدية إن شاء الله تعالى .
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جناه الأُمويّون في حقّ الشيعة طوال فترة حكمهم وتولّيهم لدفّة الأُمور وزمام الحكم ، وتالله إنّ المرء ليصاب بالغثيان وهو يتأمّل هذه الصفحات السوداء التي لا تمحى من ذاكرة التاريخ وكيف لطّخت بالدماء الطاهرة المقدسة والتي أُريقت ظلماً وعدواناً وتجنّياً على الحقّ وأهله .