الشيعة في العصر العباسي
الشيعة في العصر العباسي
دار الزمان على بني أُميّة ، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم أثناء خلافتهم ، إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار) : {فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لله رَبّ العالَمِينَ}وامتطى ناصية الخلافة بعدهم العباسيون ، والذين تسربلوا بشعار مظلومية أهل البيت للوصول إلى سدّة الخلافة وإزاحة خصومهم الأُمويين عنها ، بيد أنّهم ما أن استقر بهم المقام وثبتت لهم أركانه حتّى انقلبوا كالوحوش الكاسرة في محاربتهم للشيعة وتشريدهم وتقتيلهم ، فكانوا أسوأ من أسلافهم الأُمويين وأشدّ إجراماً ، ولله درّ الشاعر حين قال :
والله مـا فعلـت أُميّـة فيهـم * معشار ما فعلت بنو العباسِ
۱ ـ كان أوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح ، بويع سنة (۱۳۲هـ ) ومات سنة (۱۳٦هـ ) ، قضى وقته في تتبّع الأُمويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم
يتعرّض للعلوّيين ، لكنّه تنكّر لهم و لشيعتهم ، بل وأوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد عليّ وأهل بيته في محاولة مدروسة للنيل من منزلتهم وتسفيه الدعوة المطالبة بإيكال أمر الخلافة الإسلامية إليهم . هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح» : «إنّ أصل الدعوة كان لآل عليّ ; لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل عليّ لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ومن جاء بعده مفتّحة عينوهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل عليّ . . . وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرّضون بأبناء عليّ وينفون عنهم حقّ الخلافة ; لأنّهم ينتسبون إلى النبيّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة» .
۲ ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وبالرغم ممّا أُثير حوله من منزلة ومكانة وذكاء ، إلاّ أنّ في ذلك مجافاة عظيمة للحقّ وابتعاداً كبيراً عن جادّة الصواب ، نعم حقّاً إنّ هذا الرجل قد ثبّت أركان دولته وأقام لها أُسساً قوية صلبة ، إلاّ أنّه أسرف كثيراً في الظلم والقسوة والإجرام بشكل ملفت للأنظار ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد عن ذلك حيث قال :
إنّ المنصور كان يجلس ويُجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني فإذا ذكّره الواعظ بالله ، أطرق المنصور كالمنكسر ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت
الدماء ثياب المنصور ثانياً قال لواعظه : عظني!! .
فماذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ : عظني ، وماذا يعني بإطراقه بعد ذلك وسكوته ، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء ، أو يريد شيئاً آخر؟! وليت شعري أين كان المؤرّخون وأصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان ، وهم يتحدّثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجّدون بأعماله ، وهلاّ تأمّل القرّاء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير .
بلى إنّ هذا الرجل أسرف في القتل كثيراً ، وكان للعلويين النصيب الأكبر ، وحصّة الأسد من هذا الظلم الكبير .
يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء ، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين . ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، وأُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّأوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كلّ واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً.
وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبد الله العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من أُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه حتّى بانت عورته ، ثمّ ضرب مائة وخمسون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن
وجهي ، فقال المنصور للجلاّد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه
فسالت على وجهه ، ثمّ قتله ـ ثمّ ذكر ـ : وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحس الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لأقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبني عليه أُسطوانة وهو حيّ ، فمات فيها .
۳ ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقي في الحكم من سنة (۱٥۸هـ ) إلى سنة (۱٦۹هـ ) وكفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويّين ، أنّه أخذ علي بن العبّاس بن الحسن ابن عليّ بن أبي طالب ، فسجنه فدّس إليه السمّ فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه .
٤ ـ ولمّا هلك المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين والتضييق عليهم ، وكفى في الإشارة إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الإصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال :
إنّ أُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور أباها وأُخوتها وعمومتها وزوجها عليّ بن الحسن ، ثمّ قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين ، وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينها وبينه شيئاً حتّى لحقت بالله عزّ وجلّ .
٥ ـ ثمّ تولّى بعده الرشيد سنة (۱۷۰هـ ) ومات (۱۹۳هـ ) وكان له سجّل
أسود في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضح صوره فيما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم _ عليه السلام _ ، وهو ما سنذكره لاحقاً إن شاء الله تعالى ، وإليك واحدة من تلك الأفعال الدامية التي سجّلها له التأريخ ورواها الإصبهاني عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد الله بن الحسن ، بنى عليه أُسطوانة وهو حيّ ، وكان هذا العمل الإجرامي موروثاً من جدّه المنصور(۱) .
٦ ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فتولّى الحكم أربع سنين وأشهراً ، يقول أبوالفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتّى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث .
۷ ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، و كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد أبيه الرشيد . فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ اليه السمّ فقتله .
۸ ـ مات المأمون سنة (۲۱۰هـ ) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلاّ أنّه استطاع الفرار من سجنه .
۹ ـ ثمّ تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمّد بن عليّ الجواد _ عليه السلام _ ودسّ له السمّ بيد زوجته الأثيمة أُمّ الفضل بنت المأمون .
۱۰ ـ وولي الحكم بعد الواثق المتوكّل ، وإليك نموذجاً من حقده على آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظنّ
والتهمة لهم . واتّفق له أنّ عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلاّ أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة .
وقال : بعث برجل من أصحابه (يقال له الديزج وكان يهودياً فأسلم) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضي ذلك فخرّب ما حوله ، وهدم البناء وكرب ما حوله مائتي جريب ، فلمّـا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالحَ ، بين كلّ مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلاّ أخذوه ووجّهوا به إليه .
وقال أيضاً : حدّثني محمّد بن الحسين الأشناني : بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيّام ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل ، فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمّه (نتسمه خ ل) ونتحرّى جهته حتّى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، وأُحرق وأُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه ـ إلى أن قال : ـ فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّـا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه .
وقال أيضاً : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج ، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلاّ أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه .
۱۱ ـ وولّي بعده المنتصر ابنه ، وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا .
وأوّل ما أحدثه انّه لمّا ولّـي الخلافة عزل صالح بن عليّ عن المدينة ، وبعث عليّ بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا عليّ إنّي أُوجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقلت : أرجو أن أمتـثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده الله ـ فيهم ، إن شاء الله . قال : إذاً تسعد بذلك عندي.
۱۲ ـ وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما غزله المنتصر من البرّ والإحسان ، ومن جرائمه أنّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج :
وكان ـ رضي الله عنه ـ رجلا فارساً شجاعاً ، شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا أُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن
عبد الله بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير ، قد جئتك مهنّئاً بما لو كان رسول الله حيّاً يُعزّى به .
وأُدخل الأُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأُسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه .
قال أبوالفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر ممّا رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه .
أقول : إنّ العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين وتقشعرّ منها الجلود في حقّ الشيعة بحيث تغصّ بذكرها المجلّدات الكبيرة الواسعة ، بل وفاقوا بأفعالهم المنكرة ما فعله الأُمويّون من قبل ، ولله درّ الشاعر حيث قال :
تالله إن كانت أُميّة قد أتت * قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبّعوه رميما
ومن أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين (الأُموية والعباسية) وملفّ مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرّضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :
۱ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام (۲٤٦هـ ) ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة .
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت
قصيدة لمولاي عليّ الرضا ـ رضي الله عنه ـ :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة واقع * يقوم على اسم الله والبركاتِ
فبكى الرضا بكاءً شديداً .
ومن هذه القصيدة قوله :
هُمُ نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ومحكمه بالزور والشبهاتِ
تراث بلا قربى ، وملك بلا هدى * وحكم بلا شورى ، بغير هداةِ
وفيها أيضاً قوله :
لآل رسول الله بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمراتِ
ديار عليّ والحسين وجعفر * وحمزة والسجّاد ذي الثفناتِ
ديار عفاها كلّ جون مبادر * ولم تعف للأيّام والسنواتِ
منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسناتِ
منازل وحي الله معدن علمه * سبيل رشاد واضح الطرقاتِ
منازل وحي الله ينزل حولها * على أحمد الروحاتِ والغدواتِ
إلى أن قال :
ديار رسول الله أصبحن بلقعا * ودار زياد أصبحت عمراتِ
وآل رسول الله غُلَّتْ رقابهم * وآل زياد غُلّظُ القصراتِ
وآل رسول الله تُدْمى نحورهم * وآل زياد زيّنوا الحجلاتِ
وفيها أيضاً :
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا * وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ
إذاً للطمتِ الخدّ فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجناتِ
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلاتِ
۲ـ ميميّة الأمير أبي فراس الحمداني (۳۲۰ ـ ۳٥۷هـ ) ، و هذه القصيدة تعرف بالشافية ، وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، أنشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكرة العبّاسي التي مستهلّها :
بني عليّ دعوا مقالتكم * لا يُنقص الدُّرَّ وضع من وضعه
قال الأمير في جوابه ميميّته المعروفة وهي :
الحقّ مهتضمٌ والدين مخترم * وفيء آل رسول الله مقتسمُ
إلى أن قال :
يا للرجال أما لله منتصرٌ * من الطغاة؟ أما لله منتقمُ؟
بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم!
۳ ـ جيميّة ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ،
ومنها :
أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج * طريقان شتّى مستقيم وأعوج
ألا أي هذا الناس طال ضريركم * بآل رسول الله فاخشوا أو ارتَجُوا
أكلّ أوان للنبيّ محمّد * قتيل زكيّ بالدماء مضرّج
وكم من الانصاف فيما كتبه الأصبهاني عن مدى العبء الذي تحمله أهل البيت وشيعتهم من أجل كلمة الحق ، وموقف الصدق ، وما ترتّب على ذلك من تكالب لا يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود المقدّس واجتثاثه من أصله ، حيث ذكر :
« ولا يعرف التأريخ أُسرة كأُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، وجاهدت في سبيل الله حقّ الجهاد من الأعصار ، ثمّ لم تظفر من جهادها المرير إلاّ بالحسرات ، ولم تعقب من جهادها إلاّ العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا الموت في بسالة فائقة ، وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الإعجاب والإكبار ، ويشيع فيها ألوان التقدير والإعظام .
وقد أسرف خصوم هذه الأُسرة الطاهرة في محاربتها ، وأذاقوها ضروب النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلاّ ولا ذمّةً ، ولم يرعوا لها
حقّاً ولا حرمة ، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً ، في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتّى غدت
مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فـظاعة النكال ، وقد فجّرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس ، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجناً ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروى ، وخبراً يتناقل ، وقصصاً تقص ، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم ، فتطلّبوه وحرصوا عليه» .
نعم ، لقد اقترن تأريخ الشيعة بأنواع الظلم والنكال ، والقتل والتشريد ، بحيث لم تشهده أيّ طائفة أُخرى من طوائف المسلمين . بلى ، لم ير الأُمويّون ولا العباسيّون ولا الملوك الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أيّ حرمة لنفوسهم وأعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، فحين كان اليهود والنصارى يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام والمسلمين ، وقد كفل لهم الحكّام حرّيّاتهم باسم الرحمة الإسلامية ، كان الشيعة يأخذون تحت كلّ حجر ومدر ، ويقتلون بالشبهة والظنّة ، وتشرّد أُسرهم ، وتصادر أموالهم ، ولا يجدون بدّاً من أن يخفوا كثيراً من عقائدهم خوف النكال والقتل ، وبأيدي وقلوب نزعت منها الرحمة .
فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع أخيه المسلم بالتقية ، وأن يظهر خلاف ما يعتقده ، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله على ذلك ، بعد أن أباح دمه وعرضه وماله .
هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة ٤٤۷هـ ، وشنّ على الشيعة حملة شعواء ، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي ، وكانت من دور العلم
المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة ۳۸۱هـ على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد ، وكانت من الأهمية العلمية بمكان; حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق ، واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين.
قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة .
وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير .
ولمّا كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، فقد أخذ العلماء يهدون إليه مصنّفاتهم المختلفة ، فأصبحت مكتبته من أغني دور الكتب ببغداد ، وقد أُحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أُحرق من محال الكرخ عند مجيء طغرل بيك ، وتوسّعت الفتنة حتّى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام .
قال ابن الجوزي في حوادث سنة (٤٤۸هـ ) : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ، ثمّ قال في حوادث سنة (٤٤۹هـ ) : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة في الكرخ ، وأُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه للكلام ، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاث مجانيق
بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فأُحرق الجميع .
وأخيراً فلعلّ القارئ الكريم إذا تأمّل بتدبرّ وتأنّ إلى جملة ما كتب وأُلّف من المراجع التاريخية ـ وحتّى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر المتلاحقة ، والتي بلا أدنى شكّ كان أغلبها يجاري أهواء الأُسر الحاكمة آنذاك ـ فإنّه سيجد بوضوح أنّ بقاء الشيعة حتّى هذه الأزمنة من المعاجز والكرامات وخوارق العادات ، كيف وإنّ تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح ، والقتل ، والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تظافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ، ومع ذلك فقد كانت لهم دول و دويلات ، ومعاهد وكلّيّات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر ، وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ، ومحدّثون ، ووزراء وسياسيّون ، ويؤلّفون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم .
نعم إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ وإزهاق الباطل في ظلّ قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه :{إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَروا بِأِنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
ولا يفوتنّك أخي القارئ الكريم أنّ ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأُموية والعباسية ، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكنّ ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قوميّة أو طلباً للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى إعلاء كلمة الله وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين .