مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه / جعفر السبحاني
مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه
زعم غير واحد من الكُتّاب القدامى والجُدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلامية، من إفرازات الصراعات السياسية وذهب بعض آخر إلى القول انّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الاسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الاُمّة الإسلامية باعتباره قطاعاً تكوَّن على مرّ الزمن لأحداث وتطوّرات سياسية أو اجتماعية فكرية أدّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير ثمّ اتّسع ذلك الجزء بالتدريج .
وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارىء، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسية أو فكرية كما سيوافيك، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع ولد منذ عهد النبىّ الأكرم لما تسرّعوا في ابداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام و مبدئه. وأنّ النبىّ الأكرم هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام من أوّل يوم اُمر بالصدع واظهار الحقيقة، إلى ان لبّى دعوة ربّه .
فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبىّ بعد وفاته عن طريق من نصبه إماماً للناس، وقائداً للاُمّة حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبىّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كان التشيّع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصي، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام والنصوص الواردة عن رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ .
وقد عرفت في الفصل الثالث نصوصاً متوفرة في وصاية الامام أميرالمؤمنين، فتاريخ صدورها عن النبىّ هو نفس تاريخ التشيّع، والشيعة هم المسلمون المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في الأجيال اللاحقة، هم الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة ولم يُغيِّروه ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَىِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ
ففزعوا في الاُصول والفروع إلى علي وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الاُخرى الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة حيث تركوا النصوص، وأخذوا بالمصالح .
إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الامام عن لسان النبىّ الأكرم ترفع اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة، وانّ النبىّ الأكرم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شكّ من هذا الأمر فسأتلوا عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام .
۱- أخرج ابن مردويه عن عائشة، قالت: قلت يا رسول اللّه من أكرم الخلق على اللّه؟ قال: «يا عائشة، أما تقرأين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)
اُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البريَّة)) ـ البيّنة / ۷ ـ
۲- أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبداللّه قال: كنّا عند النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فأقبل علي فقال النبي: «والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة،ونزلت (إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة)) فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البريّة
۳- أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: علىّ خير البريّة
٤- وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لمّا نزلت (إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة)) قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين»
٥- أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال لي رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «ألم تسمع قول اللّه: (إنّ الّذين آمنوا وعلموا الصالحات اُولئك هم خير البريّة)) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين
٦- روى ابن حجر في صواعقه عن اُمّ سلمة: كانت ليلتي، وكان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عندي فأتته فاطمة فتبعها علي(رحمهما الله) فقال النبي: يا علي أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنّة
۷- روى ابن الأثير في نهايته: قال النبي مخاطباً عليّاً: يا علي إنّك ستقدم على
اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوُّك غضابا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير: الإقماح: رفع الرأس وغض البصر
۸- روى الزمخشري في ربيعه: انّ رسول اللّه قال: «يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه تعالى، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم، فترى أين يؤمر بنا
۹- روى أحمد في المناقب: انّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال لعلي: «أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّيتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا»
۱۰- روى الطبراني: انّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال لعلي: «أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّياتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا
۱۱- أخرج الديلمي: «يا علي إنّ اللّه قد غفر لك ولذرّيتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر انّك الأنزع البطين
۱۲- أخرج الديلمي عن النبي انّه قال: «أنت وشيعتك تردون الحوض روّاء مرويين، بيضة وجوهكم وانّ عدوّك يردون الحوض ظماء مقمحين»
۱۳- روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه:
«يدخلون من اُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ـ ثمّ التفت إلى علي فقال: ـ هم شيعتك وأنت إمامهم»
۱٤- روى المغازلي عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور فلمّا بصر به، قال له: يا سليمان تصدَّر، قال: أنا صدر حيث جلست ـ إلى أن قال في حديثه: ـ حدّثني رسول اللّه قال: «أتاني جبرئيل ـ عليه السلام ـ آنفاً فقال: تختّموا بالعقيق، فإنّه أوّل حجر شهد للّه بالوحدانيّة، ولي بالنبوّة، ولعلي بالوصيّة، ولولده بالامامة، ولشيعته بالجنّة
۱٥- وروى أيضاً بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «يا علي تختّم باليمين تكن من المقرّبين، قال: يا رسول اللّه ومن المقرّبون؟ قال: جبرئيل وميكائيل، قال: فبما أتختّم يا رسول اللّه؟ قال: بالعقيق الأحمر، فإنّه جبل أقرّ للّه بالوحدانية، ولي بالنبوّة،ولك بالوصية، ولولدك بالإمامة، ولمحبّيك بالجنّة، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس
۱٦- روى ابن حجر: انّه مرّ علي على جمع فأسرعوا إليه قياماً، فقال: هؤلاء ما لي لا ارى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا» فأمسكوا حياءً، فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم
فقال: «شيعتنا هم العارفون باللّه، العاملون بأمر اللّه
۱۷- روى الصدوق (۳۰٦ ـ ۳۸۱ هـ): انّ ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة...»
وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة...، تعرب عن كون علي ـ عليه السلام ـ متميّزاً بين أصحاب النبي بأن له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبي وبعدها.
فبعد هذه النصوص لا يصحّ لباحث أن يلتجىء إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.