العفاف في القرآن الكريم
العفاف في القرآن الكريم
بسمه تعالى
الحديث عن العفة والمتعففين في الاسلام حديث طويل وممتع.
ولقد تحدث القرآن الكريم طويلا عن العفة، وذكرت الروايات الشريفة أحوال المتعفيين وصفاتهم. وزخر التراث الاسلامي بتفاصيل متنوعة تمثل أنحاء عديدة من العفة التي يريدها الله وتحثّ عليها الشريعة.
وها نحن نتحدّث هنا، في هذا المقال المختصر، عن زوايا من العفة لها مساس بواقعنا، ولها تأثير على حاضرنا ومستقبلنا، خصوصا ونحن نمرّ بمنعطف خطير تبرز فيه اتجاهات مغرضة سعت من أجل محاربة العفة وطمسها، تحت مسميات وذرائع عديدة، منها التقدم الحضاري، ومنها العولمة المعاصرة، ومنها نسبية الأخلاق، إلى غير ذلك من الترّهات.
ومن أبرز محاور العفة:
أولا. عفة القلب
من الواضح لمن اطلع على منظومة الاسلام ومعاييره المهمة، أن يجد التأكيد الشديد على سلامة القلب ونزاهته، كمَعْلَم مهم من معالم الشخصية المؤمنة.
فمهما بلغ المرء في ظاهره من الصلاح والتقوى، ومن السلوك الجميل الحسن، إلا أن ذلك لايساوي شيئا في دنيا الحسنات والدرجات، وفي عالم الجنان والرضوان، ما لم يأت العبد ربه بقلب سليم.
قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء/ 88و89.
فمنذ الساعات الاولى للإسلام ولكل دين سماوي؛ يبدأ الاهتمام برعاية القلب والاعتناء به والمحافظة عليه؛ من كل سوء وكدر. ففي الكافي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فان تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا) . مما يعني ضرورة الابتعاد عن كل ما يشين القلب ولا يرضي الرب من قول أو عمل، وهو المراد بالعفة والنزاهة والخلق الكريم.
بل أكثر من ذلك، فقد ورد عن الامام الصادق (عليه السَّلام): ان (القلب حرم الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله). وهذا الحديث الشريف يشير إلى صورة سامية من صور ارتقاء القلب وتكامل الروح، فكما أن الله لا يرضى بإدخال الاصنام إلى بيته الحرام في مكة، فكذلك لا يسمح أن يُسكن العبد قلبه غير مولاه الحقيقي، (الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى) الاعلى/2و3.
ومن جهة أخرى فقد أكد الاسلام على تزكية النفس وطهارة القلب، قال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس/9و10.
ولهذه التزكية الوان وصور، منها دفع الحقوق الشرعية، عبر أداء فريضتي الزكاة والخمس. حتى سميت هذه العملية بـ (الزكاة)، لانها تسهم في تزكية المال وتطهيره وبالتالي تزكية النفس والقلب.
ثانيا. عفة البطن:
كثيرة هي النصوص التي اهتمّت بعفة البطن وسلامة الأطعمة ومصادر العيش. قال ربنا سبحانه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ) عبس/24. فعلى المرء أن يتأكد من سلامة مطعمه ومشربه، وهل هما من نوع الطعام الحلال أم الحرام أم المشتبه.
وقال ربنا أيضا: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الاعراف/31. وفي هذه الآية الشريفة تأكيد آخر على عفة البطن، ولكن ليس على نوع الطعام الداخل اليها، بل على كميته ومقداره، وأن على المرء أن يأكل بمقدار حاجته فقط وفقط، وأن يقدم للآخرين ما لا يحتاجه، كنوع من أنواع التكافل الاجتماعي لرفد المعوزين والمحتاجين.
وأما بالنسبة للأحاديث الشريفة، فقد سلط المعصومون الضوء أيضا على عفة وسلامة البطن، فعَنْ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(عليه السَّلام) يَقُولُ : (مَا مِنْ عِبَادَةٍ أَفْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَ فَرْجٍ) الكافي للكليني ج ٢ ص٧٩.
وعن حنان بن سدير، عن أبيه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج) المصدر السابق.
وهذا الموضوع طويل وشائك وفيه تفاصيل فقهية وأخلاقية، ترتبط بالكثير من المعاملات والممارسات التي نؤديها وينبغي معرفة تفاصيلها حتى لا نقع في الحرام، قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْهٍ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا)نهج البلاغة/الحكمة444.
ثالثا. عفة الفرج
وهذه العفة هي مصدر تأكيد من قبل جميع الأنبياء والمرسلين، والعلماء والشرائع، فإن الشهوات والنزوات والغرائز تمثل شطرا كبيرا من كيان الانسان، خصوصا في مرحلة الشباب، وتمتد معه الشيخوخة، وما أكثر الذين جرفتهم سيول الشهوات وأبعدتهم أمواج النزوات فغرقوا في بحار الذنوب وكانوا عبدة للشيطان في مواخير الرذيلة.
فجاء التشديد في القرآن الكريم على ضبط الغريزة والميول والأهواء النفسية.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) المؤمنون/5
ولأن الدين واقعي وقد جاء لخدمة الانسان، فقد قنن الشارع المجالات التي يمكن أن يُصرِّف من خلالها المرء شهوته فقال: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) المؤمنون/6.
ولقد خصص القرآن المجيد سورتين من سوره الشريفة للتحدث عن العفاف والعفة، فيما يرتبط بشؤون الغريزة، أولاهما تتحدث عن عفة شاب نشأ وترعرع وشبّ على طاعة الله والامتناع من الشهوات المحرمة، وهو يوسف (عليه السلام)، الذي قصّ علينا القرآن حكايته مع امرأة العزيز، وكيف انها راودته عن نفسه فاستعصم.
وسورة أخرى مهمة أيضا تحدثت عن قصة فتاة كان لها من الحياء والعفة والبعد عن كل ما يشين إلى درجة أنها تمنت الموت وأن تكون نسيا منسيا على أن تلد ولو بنفخ ملاك مادام ذلك من غير زوج. وهي السيدة مريم (عليها السلام).
وأما بالنسبة لأحاديث المعصومين (عليهم السلام) عن عفة الفرج فكثيرة، منها:
عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (عليه السلام): (إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا، فقال له الإمام: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج).
حازم الحسيني الميالي
قسم الدراسات القرآنية