مشروع قانون الحماية من العنف الأسري في الميزان الشرعي

بواسطة |   |   عدد القراءات : 1636
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
مشروع قانون الحماية من العنف الأسري في الميزان الشرعي

 طالعنا قبل أيام نص مشروع قانون الحماية من العنف الأسري، الذي صادق عليه مجلس الوزراء العراقي يوم الثلاثاء الماضي، وأرسله لمجلس النواب العراقي ليتخذ الإجراءات القانونية في التصويت للرفض او القبول او التعديل ونحوه

وما يهمنا هنا بيان الرأي الشرعي في هذا القانون بحسب القواعد الشرعية العامة المستفادة من القرآن الكريم والسنة الشريفة وكالتالي:

نظرة إجمالية نقول فيها:

مشروع القانون هذا فيه مخالفات واضحة لقيم وعادات وتقاليد وتركيبة المجتمع العراقي، ويتضمَّن فرضَ أمورِ دخيلة على مجتمعنا ترسَّبت من تجارب الدول الغربية التي تميل أُسرها الى التحلّل والانفتاح والاختلاط غير المحمود، كما هو معاش وملحوظ في دول أوربا عموما، والولايات المتحدة الأميركية وغيرها، بل قد يساعد هذا القانون في نشوء مشاكل أسرية ومجتمعية كبيرة تأول الى تفكيك أواصر الأسرة والمجتمع الطيب

ومن هنا نرى أنَّ المجتمع العراقي غير محتاج لمثل هكذا قوانين تهدّد صرحه وتمزّق أواصره تحت مبررات جزئية يمكن معالجتها بأشكال مختلفة ومقبولة بعيدا عن مواد هذا القانون، ومن هذه المبررات: بروز مشاكل في بعض الأُسر، وحماية المرأة من الأفعال التي تشكل عنفاً بحقها، وللدفاع عن حقوق الانسان، والتزاما بالاتفاقات الدولية التي صادقت عليها جمهورية العراق

 النظرة التفصيلية

والناظر المنصف في مواد هذا القانون سيرى فيه ملاحظات متعدّدة منها:

  1/ مخالفة بعض موادّه للشرع الحنيف، والقرآن الكريم الذي أسَّس قوانين خاصة في الأسرة وأعطى لكلِّ فرد فيها دوره المحدَّد سواءً كان زوجاً أو زوجةً أو ابناً أو بنتاً...، ومنح الزوج حقاً في رعاية وإدارة وترتيب شؤون بيته وزوجته وأولاده، وهو المعنى العام للقوامة والقيادة الذي نفهمه من قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء: 34، بل له الحق في تأديب زوجته، والأب في تأديب ابنه وبنته، في حالات معينة، وبشروط خاصة، فضلا عن مراتب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم: 6

وكما ورد في الحديث الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)

ومثال ذلك: ما لو عاشر الابن رفاق السوء وخرج عن الطريق الصحيح وصار مهملا في دروسه وواجباته، أو سلك طريق تعاطي المخدرات، وصار مؤذيا لكلّ منْ حوله، فلا يمكن للأب تأديبه ولا تعنيفه، فضلا عن أن تكون البنت كذلك، فيكون القانون منفذاً لهما للسير في طريق الخطأ والابتعاد عن الأعراف الاجتماعية الصحيح وتعاليم الشرع الحنيف، ويبقى الأب متفرَّجا بعد ان استندا الى قانون العنف الاسري، وأيُّ تأديب يصدر من الأب في حقهما يعتبر عنفاً تجري عليه أحكامه...!؟، فهل سيسلب القانون حق تربية وتأديب الوالدين لأولادهم ويعتبره جريمة عنف أسرى!؟ وهل سيخسر الوالدان حقَّهم الثابت على اولادهم في الاحترام والرعاية!؟

2/ بل هو مخالف لدستور البلد الذي أعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي، ومنع عن سنّ أيَّ قانون يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي المبارك الذي يجيز في ظروف محدَّدة وبشروط معيَّنة تأديب الزوج لزوجته، وتأديب الأب لابنه وبنته، فهل يا ترى يعتبر مشروع قانون العنف الأسري ناسخاً لمواد دستور البلد النافذ أو ماذا!؟

3/ فيه: (على وزارة العمل والشؤون الاجتماعية فتح مراكز آمنة لضحايا العنف الاسري في بغداد والمحافظات كافة، لحمايتهم وإعادة تأهيلهم، مع مراعاة الاحتياجات الخاصة لذوي الاعاقة، ويحق للمنظمات غير الحكومية المتخصصة فتح وإدارة المراكز الآمنة بموافقة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية)

يتحدث القانون عن مراكز إيواء ويصفها بالآمنة فتتفكك الأسرة وينتقل افرادها الى هذه المراكز، والله العالم كيف ستكون هذه المراكز؟! فتنتقل الزوجة أو البنت من بيتها الى تلك المراكز التي ستتكفل بها وزارة العمل وربما ساعدتها منظمات غير حكومية، ويقصد بها: منظمات المجتمع المدني فلها الحق في فتح وإدارة مراكز الإيواء (الآمنة) وتكون بديلا عن الآباء والامهات في تربية اولادهم، فتسهل بذلك عملية الغزو الثقافي والتغريب الفكري والقيّمي لأبناء المجتمع العراقي وفصله عن قيمه وثقافته الوطنية والدينية

لذا قلنا: قد يساعد هذا القانون في نشوء مشاكل أسرية ومجتمعية كبيرة تأول الى تفكيك أواصر الأسرة والمجتمع الطيب، بل قد يحل محلها مشاعر الكراهة والعداوة والانتقام، فتنفتح أبواب أخرى للجريمة في المجتمع، وهل تسمح غيرة الرجل العراقي بأن يترك أبنته أو زوجه في مراكز إيواء لوحدها، وبدون رقيب وحسيب...

ويجيز القانون للزوجة في حال سوء تفاهم مع زوجها أن تذهب للشكوى والاستقرار في مركز الايواء تحت رحمة الغرباء وفي معرض الابتزاز وعلى الزوج أن يبعث لها نفقتها، وهي تعيش في مركز الايواء بعيداً عن اولادها واطفالها!؟

بل سيصيّر هذا القانون أيَّ خلاف عائلي وان كان بسيطاً ويمكن حلّه أسرياً، الى مادة نزاع وفقا لمقررات العنف الاسري والمحاكم المختصة به، فتتحوّل طبيعة العلاقة الاسرية المبنية على المودة والتراحم الى علاقة نزاع وخصومة.

مع أن الاختلاف بين أفراد العائلة الواحدة ليس بعزيز، ويمكن حلُّه بآليات مناسبة تتناسب مع طبيعة المجتمع العراقي الطيب ولو عن طريق تدخل الاقارب والأرحام الايجابي والسعي للصلح ودفع المشاكل، وهي الوسيلة الافضل نتيجة والأقل مضاعفات في معالجة خلافات الاسرة الداخلية، نعم هناك جرائم ترتكب من بعض افراد الاسرة ضد الاخر تترتب عليها عقوبة وفق القانون النافذ ويتحملها الجاني على كلِّ حال، فمن الخطأ نقل الضحية الى مراكز الايواء، وايادي الغرباء التي يجهل الوضع فيها، ويبقى الجاني حراً طليقا يمارس ظلمه على بقية افراد الاسرة

5/ وفيه: (يلتزم من يتلقّى الإخبار عدم الكشف عن هوية مقدِّم الإخبار...

 وهذا يعني أن القانون يسمح لأي شخص لديه نية سيئة أن يخلق مشاكل أسريه في عوائل مستورة وذلك عندما يقدم على إخبار الجهات المختصة بوجود عنف أسري، ويساعده في ذلك، بل يشجّعه عدم الكشف عن هوية المخبر!

بل قد يشجّع القانون على اقامة شكاوى كيدية داخل الأسرة لأنه لم يحدد نوع ومعنى العنف، ولم يعطه تعريفا بشكل واضح وصريح وترك الأمر لتفسير وسلطة المحكمة

6/ يتضمن قرار الحماية منع الجاني مثلا أحد الوالدين من دخول المنزل او الاقتراب منه لأنه ارتكب ذنبا وجرما بتربية وتأديب أولاده! ويمنع الزوج من دخول بيته او حتى الاقتراب من منزله في حال حصول خلاف مع زوجته، ويمنع اتصال الوالدين بأولادهم ويمنع اتصال الزوج بزوجته في حالة حصول خلاف عائلي بينهما سواء في المنزل او في مكان العمل وان كان ذلك الاتصال واللقاء لغرض الصلح مالم تشرف عليه مديرية وزارة الداخلية، يعني قطع الطريق على كل نشاط من الأهل والأقارب لتحقيق الصلح بين أفراد الاسرة، وجعل مهمة التصالح من اختصاص دائرة في وزارة الداخلية

7/ الظاهر أن هدف هذا القانون منع الوالدين من تربية اولادهم والإشراف على سلوكهم وأخلاقهم، اذ عرّف القانون جريمة العنف الأسري بمفهوم واسع النهايات غير محدَّد بشكل واضح وصريح بحيث ينطبق على حق الوالدين التربوي ويجعله جريمة تستحق العقوبة (كل فعل أو امتناع عن فعل أو التهديد باي منهما، يرتكب داخل الاسرة، يترتب عليه ضرر مادي أو معنوي)

وبناء على التعريف فهل تسري العقوبات والغرامات المذكورة فيما لو منع الزوج زوجته من الخروج وتسبب ذلك بضرر معنوي أو أجبر الأب ابنته البالغة على ارتداء الحجاب وتسبب ذلك في ضرر معنوي لها

وكذا إذا ترك الأولاد الدراسة وانشغلوا بمواقع النت المنحرفة والشاذة طول أوقاتهم وسحب الوالدان منهم هواتفهم وأجهزتهم النقالة فان الأولاد يمكن ان يشكو أبويهم بدعوى انهم ارتكبوا ضدهم جريمة عنف واعتداء نفسي وفكري وعاطفي!؟

وكذا لو ان البنت أقامت دعوة لأصدقاء ذكور لها للحضور في بيت والديها ومنعها الأب او الأم من هذا التصرف المشين، فإنها يمكن ان تشتكي عليهما وتطلب حمايتها بالسكن في مركز الإيواء لأشهر عديدة، وكذلك الحال لو قام الابن بدعوة مجموعة من البنات الغريبات الى منزل والديه وارتكب الفواحش والانحراف، فان منعه أبواه من ذلك يكونان ارتكبا جريمة حسب قانون العنف الأسري

ملاحظة:

الدين الإسلامي المبارك يمنع من العنف بكل اشكاله وصوره ـ بمعنى الظلم والاضطهاد بغير حق ـ بصورة عامة، وداخل الاسرة بصورة خاصة، لذا سعى الى بناء منظومة قيمية واخلاقية تحمي هذه الأسرة من كلِّ ما يهدد أمنها ومودتها، ولو كان من بعض افرادها

وقد حثَّ على حلّ النزاعات بالصلح والتفاهم والتنازل بين الأطراف، ولو بتدخل الأهل والاقارب الساعين في الأصلح بنية صادقة، ونأسف لما نراه في مجتمعنا من بعض حالات العنف والتهديد والايذاء داخل الأسرة سواء من الزوج لزوجته، أو الاب لابنه، أو الأخ الأكبر لأخواته، ولكن لا نرى هذا القانون ناجحاً في الحدّ من هذه المشاكل، بل قد تتفاقم مشاكل اجتماعية حساسة بسببه

ونرى الحل في جملة خطوات

* العمل بشكل واسع على تثقيف المجتمع بصورة عامة، والاسرة بشكل خاص على الابتعاد عن مظاهر العنف والتهديد والتعنيف، والتحلي بروح التعاون والتوادد وحل المشاكل بهدوء وتفاهم، وهذا دور المؤسسات الحكومية المعنية وبمساعدة الجهات الدينية والثقافية والاجتماعية ذات الصلة

* العمل بقانون العقوبات ضدِّ كلّ من يعتدي بجريمة واضحة على أحد افراد اسرته حفظاً للنظام العام، وسداً لأبواب الفساد، ونهياً للمنكر، وهذا لا يحتاج الى مثل قانون العنف الأسري

* المشاكل الأسرية الخاصة والتي تتواجد في بعض الأسر يمكن التغلّب عليها بمرور الزمن بالتعقل ومساعدة الاهل والاقارب الجادين في الإصلاح، فلا داعي الى تضخيمها والنفخ فيها لتصبح مشاكل قضائية وتأخذ صبغة العنف الأسري

ومسك الختام نذكّر: (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات: 55، أنَّ الدين الإسلامي المبارك، بما هو شرع الله تبارك وتعالى، الخالق لهذا الكون والانسان، والأعلم بما ينفعه ويضره، هو الأولى لسن القوانين على طبقه، والأخذ بآدابه وأحكامه من خلال مصدري تشريعه القرآن الكريم والسنة المعصومية الشريفة

قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة: 45

ميثم الفريجي

18 ذو الحجة 1441 هج

9 آب 2020 م

النجف الأشرف

 

Powered by Vivvo CMS v4.7