حول إباحة التجارة في موسم الحج
حول إباحة التجارة في موسم الحج
اعترضَ الفادي على وُرودِ آيةٍ قرآنيةٍ تُبيحُ التجارةَ في موسمِ الحَجِّ؟
لأَنَّ الأَمْرَ سَهْلٌ لا يَستدعي نَصَّ القرآنِ عليه!.
قال: " جاءَ في سورةِ البقرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
كانَ العربُ في الجاهليةِ يَتَّجرونَ في أَسواق عُكاظ ومَجَنَّةَ وذي المَجاز، وكانَ لهم مواسم، فكانوا يُقيمونَ بعُكاظَ عِشْرِين
يوما من ذي القعدة، ثم يَنْتَقلون إِلى مَجَنَّة، وهي عند عَرَفَة، فيُقيمونَ بها ثمانيةَ عَشَرَ يوماً، عشرةُ أَيامٍ من آخِرِ ذي القعدة، وثمانيةُ أَيام من أَولِ ذي الحجة، ثم يَخْرُجون إِلى عَرَفَة.
فلما كانَ الإِسلام، فكأَنهم تَأَثَّموا أَنْ يَتَّجروا في الموسمِ، فأَجازَ لهم
محمدٌ ذلك.
وعن أَبي ماجه [الصحيح: أَبي أُميمَة] ، التيمي قال: كُنتُ رَجُلاً أُكْرى في
هذا الوَجْه، وكانَ الناسُ يقولونَ لي: إِنَّه ليسَ لَكَ حَجّ، فلقيتُ ابْنَ عُمَرَ
وسأَلْتُه عن ذلك، قال: إِنَّ لك حَجّاً.
وجاءَ رجلٌ إِلى محمد، فسأَلَه عن ذلك، فلم يُجِبْهُ، وأخيراً قال بالجَوَازِ ...
ونحنُ نَسأل: هل كَانَ في الأَمْرِ شيءٌ جَديدٌ يَحتاجُ إِلى وَحْي؟
أَليسَ إباحَةُ محمدٍ للتجارة في موسمِ الحَجّ شيئاً عاديّاً يتَنَاسَبُ مع مَصالحِ العَرَبِ الدنيويَّة؟ ".
الروايةُ الصحيحةُ في نزول الآيةِ ليستْ هكذا، فالفادي يأخُذُ الروايةَ من
مصادرَ غيرِ موثوقة، علاوةً على تصرُّفهِ في كلماتِ النَّصّر الذي أَمامَه.
روى البخاريُّ عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: كانَتْ عُكاظُ ومَجَنَّةُ وذُو المجاز أَسْواقاً في الجاهلية، فتَأَثَّموا أَنْ يَتَّجِروا في المواسِم، فنزلَت الآيَة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) : في مواسِمِ الحج.
والروايةُ في السببِ المباشرِ لنزول الآيةِ أَخرجَها أَبو داود وأَحمدُ عن
أَبي أُمامَةَ التيمي قال: قُلْتُ لابنِ عُمَر: إِنّا قَوْمٌ نُكْرى، فهل لنا حَجّ؟
قال: أَليسَ تَطوفونَ بالبيت، وتَأَتونَ المعَرَّفَ، وتَرمونَ الجِمار، وتَحْلِقونَ رُؤوسَكم؟
قُلْنا: بَلى..
قال: جاءَ رَجُلٌ إِلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسأَلَه عن الذي سأَلْتَني عنه، فلم يَدْرِ ما يَقول له، حتى نَزَل جبريلُ مم - عليه السلام - عليه بهذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
فقالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أَنتم حجاج.
واعتراضُ الفادي على الآيةِ دَليلُ جَهْلِه، فقد ظَنَّ لجَهْلِهِ أَنَّ لأَمْرَ لا
يَسْتَدعي نُزولَ الآيةِ بإِباحةِ التجارةِ في موسمِ الحج؟
لأَنَّ العَرَبَ في الجاهليةِ كانوا يُتاجرون، والأَصْلُ بَقاءُ الأَمْرِ على ما كانَ عليه، فما الدّاعي لإِنزالِ آيةٍ تُبيحُ شَيْئاً هو مُباح؟!.
لقد كانَ العربُ في الجاهليةِ يُتاجِرونَ في موسمِ الحَجّ، فلما أَسْلَموا
تَحَرَّجوا من ذلك، وتَأَثَّموا منه، ولذلك توقَّفوا عَنْه، لأَنهم ظَنُّوه غيرَ جائِز،
ولا يَتفقُ مع التَّجردِ للهِ أَثناءَ أَداءِ المناسك.
وجاءَ أَحَدُهم إِلى النبى - صلى الله عليه وسلم - يسأَلُه عن جواز ذلك، فتوقَّفَ النبيُّ - عليه السلام - عن الجواب، لأَنَّه ليس عندَه فيه شيءٌ جَديد، فأَنزلَ اللهُ الآيةَ جواباً على السؤال، مُبيحاً التجارةَ في الحج.
وهذا التحرُّجُ والتوقُّفُ من الصحابةِ بانتظارِ معرفةِ الحكْمِ الشرعيِّ شهادةٌ
لصالحهم، لأَنه يدلّ على التزامِهم بحكْمِ الله، وعدمِ مخالفَتِه، بحيثُ يتوقَّفون
عَمَّا كانوا يَعملونَه، بانتظارِ حُكم الله فيه.
فلما أَنزلَ اللهُ الآيةَ وأَباحَ فيها التجارةَ في موسمِ الحج، أَزالَ تَحَرجَهم
وتَأَثّمَهم، وأَعْطى تَصرُّفَهم السابقَ بُعْداً إِسلاميّاً.