فصاحة القرآن وبلاغته

بواسطة |   |   عدد القراءات : 1394
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

فصاحة القرآن وبلاغته([1])

 

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، وهو أحسن الحديث، وهو في أعلى درجة من الفصاحة، وأرفع رتبة في البلاغة، وفصاحة القرآن وجه من وجوه إعجازه، ولفصاحته العالية، وبلاغته الرفيعة: قال الوليد بن المغيرة لما سمعه من النبي صلى الله عليه واله: "إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً".

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ! إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فو الله مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، ووالله إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ([2])

قبل أن نتكلم عن فصاحة القرآن وبلاغته، وعن إعجازه الذي بهر العقول، وأدهش الألباب، وسلم له أساطين البلاغة، وسجد له الفصحاءُ اللسنُ، نذكر حد الفصاحة والبلاغة، ليتبين المراد، ويعلم القصدُ والسدادُ، وتتميز الذرى من الوهاد.

حد البلاغة:

البَلاغةُ لغةً: مصدر (بَلُغَ الرَّجُلُ) الضَّم: إِذا صَارَ بَلِيغًا([3])

وَرَجُلٌ بَلِيغٌ حسَنُ الْكَلَامِ فَصِيحُه يُبَلِّغُ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ([4])

قال أبو هلال العسكري: (وهي إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة)([5])

وقال الرومي: (البلاغة هي الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة).

وقال الفارسي: (البَلَاغَةُ معرفة الفصل من الوصل([6])

وقيل البَلاغةُ فِي الْكَلَام: مطابقته لمقْتَضى الْحَال مَعَ فَصَاحَته([7])

واصطلاحًاالبلاغة هِيَ التَّعْبِير عَن الْمَعْنى الصَّحِيح لما طابقه من اللَّفْظ الرَّائِق من غير مزِيد على الْمَقْصد وَلَا انتقاص عَنهُ فِي الْبَيَان، فعلى هَذَا فَكلما ازْدَادَ الْكَلَام فِي الْمُطَابقَة للمعنى وَشرف الْأَلْفَاظ ورونق الْمعَانِي والتجنب عَن الركيك المستغث كَانَ بلاغته أَزِيد([8])

وقال السكاكي: (بلاغةُ المتكلِّمِ بُلُوغه فِي تأدية الْمَعْنى حدا لَهُ اخْتِصَاص بتوفية خَواص التراكيب حَقّهَا، وإيراد أَنْوَاع التَّشْبِيه، وَالْمجَاز، وَالْكِنَايَة على وَجههَا([9])

وَقيل: (بُلُوغه فِي كَلَامه لعبارة كنه مُرَاده مَعَ إيجاز بِلَا إخلال، وإطالة بِلَا إملال، وَقيل: ملكة يقتدر بهَا على تأليف كَلَام بليغ([10])

حد الفصاحة:

الفصاحة لغةً: الخلوصُ، ومنه: فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ، أي: خلُصَ من الرِّغوة.

ومنه قولهم: وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ.

ومنه: فصُحَ الرَّجُلُ إذا جادت لغته، وأفصح: تكلَّم بالعربية.

وأما في اصطلاح أهل البيان، فهي: صوغ الْكَلَام على وَجه لَهُ تَوْفِيَة بِتمَام الإفهام لمعناه بتبيين المُرَاد، وتزيين الْأَلْفَاظ بِمَا يقرب فهمه، ويعزب نظمه، ويعذب استماعه، ويعجب ابتداعه، وَيدل مطالعه على مقاطعه، وينم مبادئه على تواليه لَا بِاسْتِعْمَال الشوارد الَّتِي لَا تفهم، والأوابد الَّتِي لَا تعلم.

• وقيل الفصاحة هي: خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف، كقوله: تَرَعَى الهُعْخُعَ. ومن الغرابة، كقوله: وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا.

• ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله: العَلِيِّ الأَجْلَلِ.

• وخلوص الكلام من ضعف التأليف كقوله:

جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ.

ومن تنافر الكلمات كقوله:

وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ ♦♦♦ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

ومن التعقيد، وهو إما إخلال نظم الكلام فلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه، كقوله:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكًا ♦♦♦ أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه

وإما عدم انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله:

سَأَطْلُبُ بَعْدَ الدَّارَ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ♦♦♦ وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا

فانظر هل ترى في القرآن شيئًا مما ذُكِرَ مما يقدحُ في فصاحةِ الكلامِ، أو يوسمُ بأنه ركيكُ من الألفاظ، أو هل ترى فيه تنافرًا بين حروفِهِ، أو لفظًا غريبًا يصعب في النطق، أو ينبو عنه السمع؟

﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ([11])

فانظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ([12]).

وفيها تكرر حرف الميم ستَ عشرةَ مرةً، ومع ذلك لا يشعر القارئ بشئٍ من العسر عند النطق بها، ولا بشئ من الثقل عند سماعها.

 

ثم انظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ([13]).

وفيها تكرر حرف القاف عَشْرَ مراتٍ، ولا يكاد القارئ يشعرُ بتوالي هذا الحرف مع شدته وقلقلته، وجهره، واستعلائه، ومع ذلك لايشعر القارئ إلا بسهولة النطق، وسلاسة الألفاظ.

وصدق الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )([14])

عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ"([15]).

وذكر أبو عبيدة: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: ﴿ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ﴾ فسجد وقال: "سجدت لفصاحته".

وسمع آخر يقرأ: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ([16])

فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ.

وَحُكِيَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَوْمًا نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ بِقَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ يَتَشَهَّدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَاسْتَخْبَرَهُ عُمَرُ، عن ذلك، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ مِمَّنْ يُحْسِنُ كَلَامَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِكُمْ فَتَأَمَّلْتُهَا فَإِذَا قَدْ جُمِعَ فيها ما أنزل الله على عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ﴾([17])

وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ جَارِيَةٍ، فَقَالَ لَهَا: "قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ"!

فَقَالَتْ: أو يعدّ هَذَا فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ([18]).

فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ([19])

وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ([20]).

جمع فى ثلاثِ كلماتٍ بين: العنوانِ، والكتابِ، والحاجةِ.

وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ([21]).

قال بعض العلماء هذه الآية ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ.. ﴾ من عجائب القرآن لأنها بلفظة ﴿ يَا ﴾ نادت، و: ﴿ أَيُّهَا ﴾ نبَّهت، و: ﴿ النَّمْلُ ﴾ عيَّنت، و: ﴿ ادْخُلُوا ﴾ أمرت، و: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ نصَّت، و: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ حذَّرت، و: ﴿ سُلَيْمَانُ ﴾ خصت، و: ﴿ وَجُنُودُهُ ﴾ عمَّت، و: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ اعتذرت.

فجمع فى هذه الآية على لسان النملة بين النداء، والتنبيه، والأمر، والنهى، والتحذير، والتخصيص، والعموم، والإشارة، والإعذار.

قال ابن كثير: (وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ حَلَا وَعَلَا لَا يَخلق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَمَلُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ، وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَحُ الْقُلُوبَ وَالْآذَانَ، وَيُشَوِّقُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ([22])

وَقَالَ: ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ([23])

وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ([24])

﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ([25])

وَقَالَ فِي الزَّجْرِ: ﴿ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ([26])

وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ([27])

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فَأَوْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ مَا يُأْمَرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يُنْهَى عَنْهُ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ . الْآيَةَ([28])

 

وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ؛ وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وَزَهَّدَتْ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَتْ فِي الْأُخْرَى، وَثَبَّتَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رِجْسَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ([29])

وقال شهاب الدين القسطلاني: (والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، والرجز، والسجع، فلا يدخل فى شىء منها، ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة فى نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله فى حسن كلامهم، فلا ريب أنه فى فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعانى بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقيٌ إلا تهافت تهافت الفراش فى الشهاب، وذلَّ ذُلَّ النقد حول الليوث الغضاب.

وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كَفَّتْهُ عن ذلك، كما حُكِى عن يحيى بن حكيمٍ الغَزَالِ- بتخفيف الزاى وقد تشدد- وكان بليغَ الأندلسِ فى زمانه أنه قد رام شيئًا من هذا، فنظر فى سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة.

وحكى أيضًا أن ابن المقفع - وكان أفصحَ أهلِ وقْتِهِ - أنه طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبى يقرأ فى مكتب قوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ . الآية، فرجع ومحى ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يُعَارَضُ أبدًا، وما هو من كلام البشر([30])

وقال صاحب سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد: (ووجه إعجازه معلوم ضرورة بجزالة لفظه، وفخامة تأليفه، وبلوغه أقصى درجات مراتب البلاغة والفصاحة وحسن التئام كلماته ونظم آياته وبراعة إيجازه وغرابة فنونه وفصاحة وجوه فواتحه وخواتمه، فلا يحتاج العلم به إلى دليل([31])

وقال أبو عيسى الرماني: (فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في والوسائط، بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، فما كان في أعلاها بقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس، وليست البلاغة إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عيي، ولا البلاغة أيضًا بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره، ونافر متكلف.

وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.

فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم، كإعجاز الشعر المفحم، فهذا معجز للمفحَم خاصة، كما أن ذلك معجز للكافة([32])

 

وقال أبو بكر الجصاص: (وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحَدِّي لِلْعَجَمِ وَاقِعًا بِأَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ بِلُغَتِهِمْ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ بِهَا([33])

وقال أبو بكر الباقلاني: (وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، على حدٍ واحدٍ، في حسنِ النظمِ، وبديعِ التأليفِ والرصفِ، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.

وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدٍ واحدِ لا يختلف.

وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا.

ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة.

فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الاسباب التي يتضمن([34])

وقال الزرقاني: (أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة، من قصائد محدودة، أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء، وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب.

وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددًا، ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر، وقارن بين الجملتين، ووازن بين الكلامين، وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي، وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟

إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد.

وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا، حتى كلام رسول الله صلى الله عليه واله، الذي أوتي جوامع الكلم، وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي، وصيغ على أكمل ما خلق الله، فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن، وسبحان الله و بحمده سبحانه الله العظيم([35])

ويقول الدكتور محمد بكر إسماعيل: (اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام, وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب, وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب.

وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ, مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت.

فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا.

واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء([36])

وَقَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ: إِنَّ الْإِعْجَازَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا تُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَتَقْطَعُ طَيِّبَ الْكَلَامِ وَرَوْنَقَهُ فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ وَالْفَتَرَاتُ فِي الْفَصَاحَةِ تَقَعُ لِلْفَصِيحِ إِمَّا بِسَهْوٍ يَعْرِضُ لَهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ أَوْ مِنْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ مِنْ سَآمَةٍ تَعْتَرِي فِكْرَهُ أَوْ مِنْ هَوًى لِلنَّفْسِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا فِيمَا يَحُوشُ عَلَيْهَا خَاطِرُهُ مِنِ اقْتِنَاصِ الْمَعَانِي سَمِينًا كَانَ أَوْ غَثًّا فَهَذِهِ آفَاتٌ لَا يَخْلُو مِنْهَا الْإِنْسَانُ الْفَاضِلُ وَالطَّبْعُ الْكَامِلُ([37])

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: (ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ علماء النظر إلى أن وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ.

قَالَ: وَالعِلَةُ فِيهِ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْتِبْيَانِ متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة، غير متساوية، فمنها الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ القريب السَّهْلُ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ.

وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ، دون النوع الهجين المذموم، الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة.

فَالقسمُ الْأَوَّلُأعلى طبقات الكلام وأرفع.

وَالقسم الثَّانِيأَوْسَطُهُ وأقصده.

وَالقسم الثَّالِثُأَدْنَاهُ وَأَقْرَبُهُ.

فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً، وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً، فَانْتَظَمَ لَهَا بِامتِزَاجِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ، وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الوُّعُورَةِ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ؛ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه واله، ودلالةً له على صِحَّةِ مَا دَعَا إِليهِ مِنْ أَمْرِ دِينهِ.

وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبِأَلفَاظِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ لاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا، وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فيتوصلوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: لَفْظٌ حَاصِلٌ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الأمور مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا، وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مِنْ نَظْمِهِ، وَأَمَّا المَعَانِي فلا خفاءَ على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بِالتَّقَدُمِ فِي أَبْوَابِهَا، وَالتَّرَقِيِّ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الفضل من نعوتها وصفاتها.

وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عَدَدًا.

فتفهم الآن واعلم أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي([38])

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أيضًا: (وَقَدْ قُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ فِي الْقُلُوبِ وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالِ ومن الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ آخَرَ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾؛ وَقَالَ: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) انتهى([39])

وكان طبيعيًا أن يستكين العرب أمام هذه الذروة الرفيعة من البلاغة والبيان، وهي ذروة ليس لها في اللغة العربية سابقة ولا لاحقة، ذروة جعلت العرب حين يستمعون إلى آية تعنو وجوهم لربهم، ويخرون ركعا وسجدًا مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته، وفي ذلك يقول جل وعز: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ويقول: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . ولا يزال هذا الشعور الذي كان يختلج في قلوب العرب الأولين تخفق به القلوب في كل عصر لما يفتح من آفاق العالم العلوي، ولما يؤثر به في صميم الوجدان الروحي، وهو يمتاز بأسلوب خاص به ليس شعرًا، ولا نثرًا مسجوعًا، وإنما هو نظمٌ بديعٌ، فصلت آياتُهُ بفواصلَ تنتهي بها، وتطمئنُ النفسُ إلى الوقوف عندها.

وتتنوع الفواصل بين طوال، وقصار ومتوسطة بتنوع موضوعاته وتنوع المخاطبين، فقد كان يغلب عليه الإيجاز والإشارة في بدء الدعوة قبل الهجرة، حين كان يدعو إلى عبادة الله ونبذ الديانة الوثنية، والإيمان بالبعث والنشور، فلما انتقل الرسول صلى الله عليه واله إلى المدينة غلب عليه البسط، والإطناب لبيان نظم الشريعة، وما ينبغي أن يكون عليه نظام الحياة الاجتماعية، مما تقتضيه مصالح البشر في حياتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة([40])

قال الراغب: (فألفاظ القرآن هي لبّ كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم، وحكمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرّعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتّبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة([41])

 

(والإعجاز فِي كَلَام الله تَعَالَى أَن يُؤَدِّي الْمَعْنى بطرِيق هُوَ أبلغ من جَمِيع مَا عداهُ من الطّرق. فإعجاز كَلَام الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ كَونه فِي غَايَة البلاغة وَنِهَايَة الفصاحة على مَا هُوَ الرَّأْي الصَّحِيح([42])

وإنما أطلت النفس في النقل عن أئمة الإسلام ردًا على من يتوهم أن القرآن ككلام البشر، يعتريه من الضعف ما يعتري كلام البشر، أو أن فصاحته يدانيها كلام الفصحاء، ويقاربها أساليب البلغاء.

 



( [1] ) سعيد مصطفى دياب، موقع الالوكة.

( [2] ) رواه البيهقي في دلائل النبوة.

( [3] ) الكليات (ص: 236).

( [4] ) انظر لسان العرب (8/ 420).

( [5] ) معجم الفروق اللغوية (ص: 30).

( [6] ) البصائر والذخائر (2/ 65).

( [7] ) معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم (ص: 93).

( [8] ) الكليات (ص: 236).

( [9] ) مفتاح العلوم (ص: 415).

( [10] ) معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم (ص: 93).

 

( [11] ) سورة الْمُلْكِ: الآية/ 3، 4.

( [12] ) سورة هُودٍ: الآية/ 48.

( [13] ) سورة الْمَائِدَةِ: الآية/ 27.

( [14] ) سورة الْقَمَرِ: الآية/ 17.

( [15] ) رواه البيهقي في دلائل النبوة- بَابُ اعْتِرَافِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْإِعْجَازِ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ .شَيْئًا مِنْ لُغَاتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَرْبَابِ اللِّسَان (2 /199).

( [16] ) سُورَةُ يُوسُفَ: الآية/ 80.

( [17] ) سُورَةُ النُّورِ: الْآيَة/ 52.

( [18] ) سُورَةُ الْقَصَصِ: الْآيَةَ/ 7.

( [19] ) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وحاشية الشمني (1/ 262، 263).

( [20] ) سُورَةُ النَّمْلِ: الآية/ 30، 31.

( [21] ) سُورَةُ النَّمْلِ: الآية/ 18.

( [22] ) سُورَةُ السَّجْدَةِ: الآية/ 17.

( [23] ) سُورَةُ الزُّخْرُفِ: الْآيَةَ/ 71.

( [24] ) سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةَ/ 68.

( [25] ) سُورَةُ الْمُلْكِ: الْآيَةَ/ 16، 17.

( [26] ) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: الْآيَةَ/ 40.

( [27] ) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: الْآيَةَ/ 205 -207.

 

( [28] ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ: الْآيَةَ/ 157.

( [29] ) تفسير ابن كثير (1/ 200).

 

( [30] ) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/ 246).

( [31] ) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (9/ 408).

( [32] ) اعجاز القرآن للرماني(ص: 75،76)، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله أحمد، ود. محمد زغلول سلام.

( [33] ) أحكام القرآن للجصاص (3/ 271).

 

( [34] ) إعجاز القرآن للباقلاني (ص: 38).

( [35] ) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/325).

( [36] ) دراسات في علوم القرآن لمحمد بكر إسماعيل .(ص: 328).

( [37] ) نقلا عن البرهان في علوم القرآن (2/ 101).

 

( [38] ) بيان إعجاز القرآن للخطابي(ص: 26، 27).

( [39] ) بيان إعجاز القرآن للخطابي (ص:70).

 

( [40] ) الفن ومذاهبه في النثر العربي (ص: 46).

( [41] ) المفردات في غريب القرآن (ص: 55).

( [42] ) دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (1/ 97).

Powered by Vivvo CMS v4.7