صيانة القرآن من التحريف
القرآن هو المصدر الرئيسي والمنبع الأوّل للتشريع وعنه صدر المسلمون منذ نزوله إلى يومنا هذا ، وهو القول الفصل في الخلاف والجدال ، إلاّ أنّ هنا نكتة جديرة بالاهتمام ، و هي انّ استنباط المعارف والأحكام من الذكر الحكيم فرع عدم طروء التحريف إلى آياته بالزيادة والنقص. وصيانته عنهما وإن كان أمراً مفروغاً منه عند جلّ طوائف المسلمين ، ولكن لأجل دحض بعض الشبه التي تثار في هذا الصدد ، نتناول موضوع صيانة القرآن بالبحث والدراسة على وجه الإيجاز ، فنقول :
التحريف لغة واصطلاحاً
التحريف لغة : تفسير الكلام على غير وجهه ، يقال : حرّف الشيء عن وجهه : حرّفه وأماله ، وبه يفسر قوله تعالى : ( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِه ).
قال الطبرسي في تفسير الآية : يفسّرونها على غير ما أُنزلت ، والمراد من المواضع هي المعاني و المقاصد.
وأمّا اصطلاحاً ، فيطلق ويراد منه وجوه مختلفة :
1. تحريف مدلول الكلام ، أي تفسيره على وجه يوافق رأي المفسِّر ، سواء أوافق الواقع أم لا ، والتفسير بهذا المعنى واقع في القرآن الكريم ، ولا يمسُّ بكرامته أبداً ، فإنّ الفرق الإسلامية ـ جمع اللّه شملهم ـ عامة يصدرون عن القرآن ويستندون إليه ، فكلّ صاحب هوى ، يتظاهر بالأخذ بالقرآن لكن بتفسير يُدْعِمُ عقيدته ، فهو يأخذ بعنان الآية ، ويميل بها إلى جانب هواه ، ومن أوضح مصاديق هذا النوع من التفسير ، تفاسير الباطنية حيث وضعوا من عند أنفسهم لكلّ ظاهر ، باطناً ، نسبته إلى الثاني ، كنسبة القشر إلى اللبّ وأنّ باطنه يؤدّي إلى ترك العمل بظاهره ، فقد فسّروا الاحتلام بإفشاء سرّ من أسرارهم ، والغسلَ بتجديد العهد لمن أفشاه من غير قصد ، والزكاة بتزكية النفس ، والصلاة بالرسول الناطق لقوله سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر )
2. النقص والزيادة في الحركة والحرف مع حفظ القرآن وصيانته ، مثاله قراءة « يطهرن » حيث قُرِئ بالتخفيف والتشديد ؛ فلو صحّ تواتر القراءات عن النبي صـ و لن يصحَّ أبداً ـ وانّ النبي هو الذي قرأ القـرآن بها ، فيكون الجميع قرآناً بلا تحريف ، وإن قلنا : إنّه نزل برواية واحد ، فهي القرآن وغيرها كلّها تحريف اخترعتها عقول القرّاء وزيّنوا قرآنهم بالحجج التي ذكروها بعد كلّ قراءة ، وعلى هذا ينحصر القرآن بواحدة منها وغيرها لا صلة لها بالقرآن ، والدليل الواضح على أنّهما من اختراعات القرّاء إقامتهم الحجّة على قراءتهم ولو كان الجميع من صميم القرآن لما احتاجوا إلى إقامة الحجّة ، ويكفيهم ذكر سند القراءة إلى النبي.
ومع ذلك فالقرآن مصون عن هذا النوع من التحريف ، لأنّ القراءة المتواترة ، هي القراءة المتداولة في كلّ عصر ، أعني : قراءة عاصم برواية حفص ، القراءة الموصولة إلى عليّ ع وغيرها اجتهادات مبتدعة ، لم يكن منها أثر في عصر النبي ص، و لذاك صارت متروكة لا وجود لها إلاّ في بطون كتب القراءات ، وأحياناً في ألسن بعض القرّاء ، لغاية إظهار التبحّر فيها.
روى الكليني عن أبي جعفر ع قال : « إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » ولذلك لا نجيز القراءة غير المعروفة منها في الصلاة.
3. تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة ، كوضع « اسرعوا » مكان ( امضوا ) في قوله سبحانه : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ).
وقد نسب ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود وكان يقول : ليس الخطأ أن يقرأ مكان « العليم » ، « الحكيم ».
لكن أُجلّ ذلك الصحابي الجليل عن هذه التهمة ، وأي غاية عقلائية يترتب على ذاك التبديل؟!
4. التحريف في لهجة التعبير ، انّ لهجات القبائل كانت تختلف عند النطق بالحرف أو الكلمة من حيث الحركات والأداء ، كما هو كذلك في سائر اللغات ، فإنّ « قاف » العربية ، يتلفّظ بها في إيران الإسلامية العزيزة على أربعة أوجه ، فكيف المفردات من حيث الحركات والحروف؟! قال سبحانه : ( وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ).
فكان بعض القرّاء تبعاً لبعض اللهجات يقرأ ( وسعي ) بالياء مكان الألف.
وهذا النوع من التحريف لم يتطرّق إلى القرآن ، لأنّ المسلمين في عهد الخليفة
الثالث لمّا رأوا اختلاف المسلمين في التلفّظ ببعض الكلمات ، مثل ما ذكرناه ( أو تغيير بعضه ببعض مع عدم التغيّر في المعنى ، مثل امض ، عجل ، اسرع على فرض الصحة ) قاموا بتوحيد المصاحف وغسل غير ما جمعوه ، فارتفع بذلك التحريف بالمعنى المذكور فاتفقوا على لهجة قريش.
5. التحريف بالزيادة لكنّه مجمع على خلافه ، نعم نسب إلى ابن مسعود أنّه قال : إنّ المعوذتين ليستا من القرآن ، انّـهما تعويذان ، و انّـهما ليستا من القرآن. كما نسب إلى العجاردة من الخوارج أنّهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن ، وكانوا يرون أنّها قصة عشق لا يجوز أن يكون من الوحي. ولكن النسبتين غير ثابتتين ، ولو صحّ ما ذكره ابن مسعود لبطل تحدّي القرآن بالسورة ، حيث أتى الإنسان غير الموحى إليه بسورتين مثل سور القرآن القصار.
6. التحريف بالنقص والإسقاط عن عمد أو نسيان ، سواء كان الساقط حرفاً ، أو كلمة ، أو جملة ، أو آية ، أو سورة ، وهذا هو الذي دعانا إلى استعراض ذلك البحث فنقول : إنّ ادّعاء النقص في القرآن الكريم بالوجوه التي مرّ ذكرها أمر يكذبه العقل والنقل ، وإليك بيانهما :
1. امتناع تطرّق التحريف إلى القرآن
إنّ القرآن الكريم كان موضع عناية المسلمين من أوّل يوم آمنوا به ، فقد كان المرجعَ الأوّل لهم ، فيهتمون به قراءة وحفظاً ، كتابة وضبطاً ، فتطرّق التحريف إلى مثل هذا الكتاب لا يمكن إلاّبقدرة قاهرة حتى تتلاعب بالقرآن بالنقص ، ولم يكن للأُمويّين ولا للعباسيين تلك القدرة القاهرة ، لأنّ انتشار القرآن بين القرّاء والحفّاظ ، وانتشار نسخه على صعيد هائل قد جعل هذه الأُمنية الخبيثة في عداد المحال.
إنّ للسيد الشريف المرتضى بياناً في المقام نأتي بنصِّه ، يقول : إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه ( غيره ) فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفُوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّـراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!
قال : والعلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمُزَني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.
وهناك نكتة أُخرى جديرة بالإشارة ، وهي إنّ تطرّق التحريف إلى المصحف الشريف يعدُّ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها ، فكيف سكت الإمام أمير المؤمنين ع وخاصّته نظير سلمان و المقداد وأبي ذر وغيرهم مع انّا نرى أنّ الإمام وريحانة الرسول 6 قد اعترضا على غصب فدك مع أنّه لا يبلغ عُشْرَ ما
للقرآن من العظمة والأهمية؟!
ويرشدك إلى صدق المقال أنّه قد اختلف أُبيّ بن كعب والخليفة الثالث في قراءة قوله سبحانه : ( والّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) فأصرّ أُبيّ انّه سمع عن النبي ( بالواو ) وكان نظر الخليفة إلى انّه خال منها ، فتشاجرا عند كتابة المصحف الواحد وإرساله إلى العواصم ، فهدّده أُبيّ وقال : لابد وأن تكتب الآية بالواو وإلاّ لأضع سيفي على عاتقي فألحقوها
كما نجد أنّ الإمام ع أمر بردّ قطائع عثمان إلى بيت المال ، وقال : « واللّه لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء ، لرددته ، فإنّ في العدل سعة ، و من ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق ».
فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلى محالِّها أوجب وألزم.
نرى أنّ علياً ع بعدما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض على إقامة صلاة التراويح جماعة كما اعترض على قراءة البسملة سرّاً في الصلوات الجهرية إلى غير ذلك من البدع المحدثة ، فعارضها الإمام وشدّد النكير عليها بحماس ، فلو صدر أيّام الخلفاء شيء من هذا القبيل حول القرآن لقام الإمام بمواجهته ، وردّ ما حذف بلا واهمة.
والحاصل : من قرأ سيرة المسلمين في الصدر الأوّل يقف على أنّ نظرية التحريف بصورة النقص كان أمراً ممتنعاً عادة.
2. شهادة القرآن على عدم تحريفه :
آية الحفظ
إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند اللّه سبحانه ، وهو سبحانه تكفّل صيانة القرآن وحفظه عن أيِّ تلاعب ، قال سبحانه : ( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ * ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ * إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ). (1)
إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة ( نُزِّلَ ) و ( نَزَّلْنا ) والضمير في ( لَهُ ) يرجع إلى القرآن ، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي ، أشار إليها القرآن مع نقدها ، وهي :
1. أنّ محمّداً ص يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول ، ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم : ( يا أَيُّهَا الّذي نزّلَ عَلَيْهِ الذِكْر ) بصيغة المجهول.
2. انّه 6 مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن وينقله ، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن.
3. لو صحّ قوله : بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي ف : ( لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقين).
فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة ، ونقدّم الجواب عن الثاني والثالث بوجه موجز ، ثمّ نعطف النظر إلى الاعتراض الأوّل لأهميته.
أمّا الثاني ، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره وقال : ( إِنّا نَحْنُ ).
كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة موجب لهلاكهم وإبادتهم ، وهو يخالف هدف البعثة ، حيث قال : ( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرين ).
وأمّا الأوّل ، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره عن تطرق أيّ خلل وتحريف فيه ، وهو لا تُغلب إرادته.
وبذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد :
1. حفظه من قدح القادحين.
2. حفظه في اللوح المحفوظ.
3. حفظه في صدر النبي والإمام بعده.
فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تجيب عنه الآية ، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي صلا يرتبط باعتراض المشركين ، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي ، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال ، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل ، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه.
فإن قلت : إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية ، لأنّها بعض القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً ، لاستلزامه الدور الواضح.
قلت : إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت ، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام ، كآية
الرجم ، وآية الرضعات ، وأمثالهما ؛ وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.
آية نفي الباطل
يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب ، قال : ( إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد).
ودلالة الآية رهن بيان أُمور :
الأوّل : المراد من الذكر هو القرآن ، ويشهد عليه قوله : ( وَإِنّهُ لَكتابٌ عَزيز ) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون ). وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ ).
الثاني : انّ خبر « انّ » محذوف مقدّر وهو : سوف نجزيهم وما شابهه.
الثالث : الباطل يقابل الحق ، فالحق ثابت لا يُغْلب ؛ والباطل له جولة ، لكنّه سوف يُغلب ، مثلهما كمثل الماء والزبد ، فالماء يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء ، قال سبحانه : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثال ).
فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه ، وأحكامه خالدة ، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة ، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه ، كما أنّه نزيه عن التناقض بين دساتيره وأخباره ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ).
فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى ، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً ، فلا يتطرّق إليه التحريف ، ونعم ما قاله الطبرسي : لا تناقض في ألفاظه ، ولا كذب في أخباره ، ولا يعارض ، ولا يزداد ، ولا ينقص.
ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات : ( وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ). ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته ، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.
و الحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية ( نفي الباطل ) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له ، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله ، أو فاسد يفسده ، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلى وَلا يُفنى.
آية الجمع
رُوي أنّه إذا نزل القرآن ، عجل النبي بقراءته ، حرصاً منه على ضبطه ، فوافاه الوحي ونهاه عنه ، وقال : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ علَيْنا بَيانَهُ ).
فعلى اللّه سبحانه الجمع والحفظ والبيان. كما ضمن في آية أُخرى عدم نسيانه ص القرآن وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفى ).
هذا بعض ما يمكن أن يستدلّ به ، على صيانة القرآن من التحريف
بالقرآن ، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله : ( وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الأَْرضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ). و من المعلوم انّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية ، أعني : قوله : ( عَطاءً غَيْرَمَجْذُوذ ) أي غير مقطوع ، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه ، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.
وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه ، فنقتصر منها بما يلي :
1. أخبار العرض
قد تضافرت الروايات عن الأئمّة : بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه وردّ مخالفه ، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.
روى الكليني عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه ع قال : « قال رسول اللّه ص : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه
وروى أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد اللّه ع قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ».
وفي رواية أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ع يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ».
وجه الدلالة من وجهين :
ألف. انّ المتبادر من أخبار العرض انّ القرآن مقياس سالم لم تنلـه يد التبديل و التحريف والتصرف ، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.
ب. انّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت انّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة ، لا وجود الموافقة ، وإلاّ لزم ردّ أخبار كثيرة لعدم تعرض القرآن إليها بالإثبات والنفي ، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلاّإذا كان المقيس ( القرآن ) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا ، وإلاّ فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط وحرّف.
2. حديث الثقلين
إنّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن ، مثل التمسّك بأقوال العترة ، حيث قال ص : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ويستفاد منه عدم التحريف ، وذلك :
ألف. انّ الأمر بالتمسّك بالقرآن ، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.
ب. انّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره ، يوجب عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود ، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة على المراد من الموجود.
أهل البيت وصيانة القرآن
إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين ع وكلمات أوصيائه المعصومين : يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين ، هو
__________________
كتاب اللّه المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقيصة ، ويعرف ذلك من تصريحاتهم تارة ، وإشاراتهم أُخرى ، ونذكر شيئاً قليلاً من ذلك :
1. قال أمير المؤمنين ع : « أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء ، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً ، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه ».
والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه ، فكيف يكون الدين كاملاً و مصدره محرّفاً غير كامل؟! ويوضح ذلك انّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيل الرسول 6 ، وهو فرع كمال مصدره وسنده.
2. وقال 7 : « وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزٌّ لا تهزم أعوانه ».
3. وقال 7 : « كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ».
وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير: « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ».
وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه ، وانّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم ، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى ع من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ).
وقال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داود ).
وقال سبحانه عن لسان زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب ).
ولعلّ فيما ذكرنا كفاية ، فلنستعرض كلمات علمائنا.
الشيعة وصيانة القرآن
إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة والأُسوة في جميع الأجيال ، يعرب عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف ، وينسبون فكرة التحريف إلى روايات الآحاد ، ولا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون ، بل نشير إلى كلمات بعضهم :
1. قال الشيخ الأجل الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى 260 هـ ) ـ في ضمن نقده مذهب أهـل السنّـة ـ : إنّ عمر بن الخطاب قال : إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية ، فانّا كنّا نقرؤها على عهد رسول اللّه : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من الشهوة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم
فلو كان التحريف من عقائد الشيعة ، لما كان له التحامل على السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول.
2. قال أبو جعفر الصدوق ( المتوفّـى 381 هـ ) : اعتقادنا أنّه كلام اللّه ووحيه تنزيلاً ، وقوله في كتابه : ( إِنَّهُ لَكتابٌ عَزيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيم حَميد ) وانّه القصص الحق ، وانّه لحقّ فصل ، وما هو بالهزل ، وانّ اللّه تبارك و تعالى مُحْدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به
3. قال الشيخ المفيد ( المتوفّـى 413 هـ ) : وقد قال جماعة من أهل الإمامة انّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين ع من تأويل وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وعندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل.
وقال أيضاً في أجوبة « المسائل السروية » في جواب من احتج على التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها « كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس » مكان ( أُمّة ) ، وورد كذلك « جعلناكم أئمة وسطاً » مكان ( أُمّة ) وورد « يسألونك الأنفال » مكان ( يسألونك عن الأنفال ) ، فأجاب : انّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر.
4. قال الشريف المرتضى ( المتوفّى 436 هـ ) : مضافاً إلى من نقلنا عنه في الدليل الأوّل ، انّ جماعة من الصحابة ، مثل عبد اللّه بن مسعود و أُبّي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مستور ولا مبثوث.
5. قال الشيخ الطوسي ( المتوفّـى 460 هـ ) : أمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فما لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الرواية ، ثمّ وصف الروايات المخالفة بالآحاد.
6. قال أبو علي الطـبرسي ( المتـوفّـى 548 هـ ) الكلام في زيادة القـرآن ونقصانه ؛ أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه.
7. قال السيد علي بن طاووس الحلّي ( المتوفّى 664 هـ ) : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف
8. قال العلاّمة الحلّي ( المتوفّى 726 هـ ) في جواب السيد الجليل المهنّا : الحق انّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وانّه لم يزد ولم يُنْقَص ، ونعوذ باللّه من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر
9. قال المحقّق الأردبيلي ( المتوفّى 993 هـ ) في مسألة لزوم تحصيل العلم : بأنّ ما يقرأه هو القرآن ، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم ، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتى من عدل واحد ـ إلى أن قال : ـ ولما ثبت تواتره فهو مأمون من الاختلال ... مع أنّه مضبوط في الكتب حتى أنّه معدود حرفاً حرفاً ، وحركة حركة ، وكذا طريق الكتابة وغيرها ممّا يفيد الظن الغالب بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص.
10. وقال القاضي السيد نور اللّه التستري ( المتوفّى 1029 هـ ) : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التحريف في القرآن ليس ممّا يقول به جمهور الإمامية ، إنّما قال به شر ذمة قليلة منهم لا اعتداد لهم فيما بينهم. ولو استقصينا كلمات علمائنا في هذا المجال لطال بنا الموقف. إلى هنا ظهر الحقّ بأجلى مظاهره فلم يبق إلاّ دراسة بعض الشبهات ودحضها.
اعتمد بعض الأخباريين في قولهم بالتحريف بوجوه لا يصلح تسميتها بشيء سوى كونها شبهاً ، وإليك بعض شبهاتهم.
الشبهة الأُولى : وجود مصحف لعليّ ع
روى ابن النديم ( المتوفّى 385 هـ ) في « فهرسته » عن عليّ ع انّه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي ، فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن. روى اليعقوبي ( المتوفّى 290 هـ ) في « تاريخه » : روى بعضهم أنّ علي بن أبي طالب 7 كان جمعه ـ القرآن ـ لمّا قبض رسول اللّه ، وأتى وحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن جمعته ، وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ، ثمّ ذكر كلّ جزء ، والسور الواردة فيه.
يلاحظ عليه : أنّ الإمعان فيما ذكره اليعقوبي انّ مصحف علي لا يخالف المصحف الموجود في سوره وآياته ، وإنّما يختلف في ترتيب السور ، وهذا يثبت انّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة والجامعين ، بخلاف وضع الآيات
وترتيبها ، فانّه كان بإشارة النبي ، وما ذكره ابن النديم يثبت انّ القرآن كان مكتوباً في عصر النبي كلّ سورة على حدة وكان فاقداً للترتيب الذي رتّبه الإمام على سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يشتمل على سور ، وقد نقل المحقّق الزنجاني ترتيب سور مصحف الإمام في ضمن جداول تعرب عن أنّ مصحَف عليّ ع كان في سبعة أجزاء ، وكلّ جزء يحتوي على سور ، فالجزء الأوّل يسمّى بالبقرة وفيه سور ، والجزء الثاني يسمى جزء آل عمران وفيه سور ، والثالث جزء النساء وفيه سور ، والرابع جزء المائدة وفيه سور ، والخامس جزء الأنعام وفيه سور ، والسادس جزء الأعراف وفيه سور ، والسابع جزء الأنفال وفيه سور ، والظاهر منه انّ التنظيم لم يكن على نسق تقديم الطوال على القصار ولا على حسب النزول ، وإليك صورته :