موقف الامامية مع المحدّث النوري في كتابه « فصل الخطاب »

بواسطة |   |   عدد القراءات : 2319
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

 

موقف الامامية مع المحدّث النوري في كتابه « فصل الخطاب »

هو : الشيخ الحسين بن محمد تقي النوري. ولد في قرية « نور » من ضواحي بلدة « آمل » في مقاطعة « مازندران » ، في 18 ، شوال سنة 1254. وهاجر إلى العراق سنة 1278 ليواصل دراسته العلمية في حوزة النجف الأشرف حتى سنة 1284 فرجع إلى إيران ، ولم يلبث أن عاد إلى العراق عام 1286 وتشرّف بزيارة بيت اللّه الحرام ، وبعد مدّة ارتحل إلى سامّراء ، حيث كان محطّ رحل زعيم الأُمّة الميرزا محمد حسن الشيرازي ، الذي توفّي سنة 1312 وبعده بمدة وفي سنة 1314 قفل محدّثنا النوري من سامراء ، ليأخذ من النجف الأشرف مقرّه الأخير ، حتى توفّاه اللّه سنة 1320 هـ. ق.

كان محدّثنا النوري مولَعاً بجمع الأخبار وتتبّع الآثار ، وله في ذلك مواقف مشهودة ، ومصنّفاته في هذا الشأن معروفة.

غير أنّ شغفه بذلك ، ربّما حاد به عن منهج الإتقان في النقل والتحديث ، ممّا أوجب سلبَ الثقة به أحياناً و في بعض ما يرويه. ولا سيّما عند أهل التحقيق وأرباب النظر من فقهائنا الأعلام والعلماء العظام.

يقول عنه الإمام الخميني قده : « وهو ـ أي الشيخ النوري ـ شخص صالح متتبّع ، إلاّ أن اشتياقه بجمع الضعاف والغرائب و العجائب ، وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم ، أكثر من الكلام النافع ... ».

ويقول عنه العلاّمة البلاغي ـ شيخ العَلَمَين السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان ، و الإمام الخوئي صاحب كتاب البيان ـ : « وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ ... ». 

وتساهله هذا في جمع شوارد الأخبار ، قد حطّ من قيمة تتبّعاته الواسعة واضطلاعه بمعرفة أحاديث آل البيت : والتي كان مشغوفاً بها طيلة حياته العلميّة.

وقد غرّته ظواهر بعض النقول غير المعتمدة ، المأثورة عن طرق الفريقين ، مما حسبها تعني تحريفاً في كتاب اللّه العزيز الحميد. فكان ذلك مما أثار رغبته في جمعها وترصيفها ، غير مكترث بضعف الأسانيد ، أو نكارة المتون ، على غِرار أهل الحشو في الحديث.

أضف إلى ذلك زعمه : أنّه لابدّ من تنويه الكتاب بشأن الولاية صريحاً ، التي هي أهم الفرائض متغافلاً عن تصريح الإمام الصادق ع بأنّ ذلك قد تُرك إلى تبيين الرسول ص كما في سائر الفرائض وغيره من أحاديث تنفي وجود أيّ تصريح في كتاب اللّه باسم الأئمّة : .

لكن محدّثنا النوري لم يُعر سمعه لأمثال هذه الأحاديث المضيئة ، التي تنزّه ساحة قدس القرآن عن شبهة احتمال التحريف ، وذهب في غياهب أوهامه ، راكضاً وراء شوارد الأخبار وغرائب الآثار ، ناشداً عن وثائق تربطه بمزعومته الكاسدة.

وقد وصف الإمام البلاغي ، مساعي المحدث النوري هذه بأنّه جَهَد في جمع الروايات وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل وفي جملة ما أورده ما لا يتيسّـر احتمال صدقه ، ومنها ما يؤول إلى التنافي والتعارض ، وإنّ قسماً وافراً منها ترجع إلى عدة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم ، إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية ، وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب ، يعرف حديثه وينكر و يروي عن الضعفاء ، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا يستحل أن يُروى من تفسيره حديث و احد ، وربما كان معروفاً بالوقف شديد العداوة للإمام علي بن موسى الرضا ع ، و إمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً ، و إمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه و من الكذابين ، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمى بالغلوّ.

قال ; : ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدى كثرتهم شيئاً. 

وهكذا تشبّث محدّثنا النوري بكل حشيش ، ونسج منواله نسجَ العنكبوت.

أمّا كتابه الذي جمع فيه هذه الشوارد والغرائب ، وأسماه : « فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب » ، فقد وضعه على مقدّمات ثلاث ، واثني عشر فصلاً ، وخاتمة.

ذكر في المقدّمة الأُولى ، ما ورد بشأن جمع القرآن و نظمه وتأليفه ، مما يشي ـ بزعمه ـ على ورود نقص أو تغيير في نصّه الكريم.

وفي الثانية : بيّن أنحاء التغيير الممكن حصوله في المصحف الشريف.

وفي الثالثة : في سرد أقوال العلماء في ذلك ، إثباتاً أو رفضاً.

أمّا الفصول الاثنا عشر ، فقد جعلها دلائل على وقوع التحريف ، بالترتيب التالي:

1. قد وقع التحريف في كتب السالفين ، فلابدّ أن يقع مثله في الإسلام ، حيث تشابه الأحداث في الغابر والحاضر.

2. إنّ أساليب جمع القرآن في عهد متأخر عن حياة الرسول ، لتستدعي بطبيعة الحال أن يقع تغيير في نصّه الشريف.

3. محاولة علماء السنَّة توجيه روايات التحريف لديهم ، بالإنساء أو نسخ التلاوة غير سديدة.

4. مغايرة مصحف الإمام أمير المؤمنين ع مع المصحف الحاضر.

5. مغايرة مصحف الصحابي عبد اللّه بن مسعود مع المصحف الراهن.

6. مغايرة مصحف الصحابي أُبيّ بن كعب مع المصحف الرائج.

7. تلاعب عثمان بنصوص الآيات عند جمع المصاحف وتوحيدها.

8. روايات عامّيّة رواها أهل الحشو من محدثي العامّة ، ناصّة على التحريف.

9. إنّ أسامي أوصياء النبي ص كانت مذكورة في التوراة ـ على ما رواه كعب الأحبار اليهودي ـ فلابدّ أنّها كانت مذكورة في القرآن ، لمسيس الحاجة إلى ذكرها في القرآن ، أكثر مما في كتب السالفين.

10. إنّ اختلاف القراءات ، خير شاهد على التلاعب بنصوص الكتاب.

11. روايات خاصّة ، تدل دلالة بالعموم على وقوع التحريف.

12. روايات ناصّة على مواضع التحريف في الكتاب.

أمّا الخاتمة ، فجعلها ردّاً على دلائل القائلين بصيانة القرآن من التحريف.

أمّا الرّوايات الخاصة ، والتي استند إليها لإثبات التحريف ، سواء أكانت دالّة بالعموم على وقوع التحريف ، أم ناصّة على مواضع التحريف ، فهي تربو على الألف ومائة حديث ، (1122). منها (61) رواية دالة بالعموم. و (1061) ناصة بالخصوص ، حسبما زعمه.

لكن أكثريّتها الساحقة نقلها من أُصول لا إسناد لها ولا اعتبار ، من كتب و رسائل ، إمّا مجهولة أو مبتورة أو هي موضوعة لا أساس لها رأساً.

والمنقول من هذه الكتب تربو على الثمانمائة حديث (815) وبقي الباقي (307). وكثرة من هذا العدد ، ترجع إلى اختلاف القراءات ، مما لا مساس لها بمسألة التحريف ، وهي (107) روايات ، و البقية الباقية (200) رواية ، رواها من كتب معتمدة ، وهي صالحة للتأويل إلى وجه مقبول ، أو هي غير دالة على التحريف ، وإنّما أقحمها النوري إقحاماً في أدلة التحريف.

وقد عالجنا هذه الروايات بالذات في كتابنا « صيانة القرآن من التحريف » فراجع.

وقد تمّ تأليف « فصل الخطاب » على يد مؤلفه النوري سنة 1292 ، وطبع سنة 1298 ، و قد وَجَدَ المحدّث النوري ـ منذ نشر كتابه ـ نفسه في وحشة العزلة و في ضوضاء من نفرة العلماء والطلبة في حوزة سامراء العلمية آنذاك. وقد قامت ضدّه نعرات ، تتبعها شتائم و سبّات من نبهاء الأُمّة في جميع أرجاء البلاد الشيعيّة ، ونهض في وجهه أصحاب الأقلام من ذوي الحميّة على الإسلام ، ولا يزال في متناوش أهل الإيمان ، يسلقونه بألسنة حداد ، على ما جاء في وصف العلاّمة السيد هبة الدين الشهرستاني ، عن موضع هذا الكتاب ومؤلفه و ناشره ، يوم كان طالباً شابّاً في حوزة سامراء.

يقول في رسالة بعثها تقريظاً على رسالة « البرهان » التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 هـ.

يقول فيها : كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف ، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف. تلك العقيدة الصحيحة التي آنستُ بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامرّاء ، مسقط رأسي ، حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير ، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري ، بشأن تأليفه كتاب « فصل الخطاب » فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب و مؤلّفه وناشره ، يسلقونه بألسنة حداد ...

وهكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعنف تعابير لاذعة ، لم يدعوا لبثّ آرائه ونشر عقائده مجالاً ولا قيد شعرة.

وممّن كتب في الردّ عليه من معاصريه ، الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني ( المتوفّـى 1313 هـ ) في رسالة قيّمة أسماها « كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب » فرغ منها في ( 17ج 2 ـ 1302 هـ ) تقرب من أربعة آلاف بيت في 300 صفحة. وفيها من الاستدلالات المتينة والبراهين القاطعة ، ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأيه بعض الشيء ، وتأثّر كثيراً بهذا الكتاب.

وأيضاً كتب في الردّ عليه معاصره العلاّمة السيد محمد حسين الشهرستاني ( المتوفّـى 1315 هـ ) في رسالة أسماها « حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف ». و قد أحسن الكلام في الدلالة على صيانة القرآن عن التحريف و ردّ شبهات المخالف ببيان واف شاف. والرسالة في واقعها ردّ على فصل الخطاب ، ولكن في أُسلوب ظريف بعيد عن التعسّف و التحمّس المقيت. 

وهكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في شؤون القرآن أو في التفسير ، كالحجّة البلاغي ( المتوفّـى 1352 هـ ) في مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمن ) قال تشنيعاً عليه : وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ وإنّه ليعدّ هذا المنقول من « دبستان المذاهب » ضالّته المنشودة ، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة.

 

 

 

Powered by Vivvo CMS v4.7