الفاتح صلاح الدين الأیوبي ! والدولة الفاطمية
بقلم الشيخ حسن عطوان
لطالما كان التعصب والنَفَس الطائفي وراء تمجيد وتقديس مجرمين لا يستحقون التبجيل ..
بل وشتم وإتهام مَن لا ذنب له سوى كونه ليس على دين السلاطين ..
كم غطى التعصب على منجزات رجال ، وكم أخفى التاريخ قذارة آخرين !
صلاح الدين الأيوبي هو واحد من أولئك الذين قُدّسوا بغير وجه حق ، سوى أنّه أوغل في إستئصال التشيع في مصر !
نعم أنَّ السيوف لم تُشهَر دائماً إبتغاء مرضات الله ، بل أنَّ أغلب السيوف التي شُهرت في الإسلام كانت لتثبيت أركان الطغيان ، وتُزَخرَف للخداع بمقولات إسلامية ..
تُدْعى الخيول لقتال الحسين بلسان :
" يا خيل الله أركبي وبالجنة أبشري "
مع أنَّ الهدف الحقيقي :
" إملأ ركابي فضة او ذهبا ..
إنّي قتلتُ السيد المهذبا ..
قتلتُ خير الناس أمّاً وأبا " !!
أمام كل هذا التزييف نبقى بحاجة ماسة الى التحرر من أوهام كثيرة حوَلّها التاريخ المرتشي او المتعصب الى حقائق .
نحن بحاجة دائمة الى إعادة قراءة التاريخ ؛ لكشف التضليل والتزييف المُقرف الذي حوّل جبناء الى أبطال ، ومجرمين الى صالحين وبالعكس ..
المقطع التاريخي الذي أُريد أنْ أتوقف عنده هو سقوط الدولة الفاطمية ، وهي دولة شيعية ينتسب قادتها الى السيد محمد بن السيد إسماعيل بن الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
وقد حكمت مصر والمغرب العربي وبلاد الشام والحجاز ، بين عامي ( 286 - 567 هج ) .
أي أنّها حكمت ما يقرب من ثلاثة قرون ، ولها إنجازات ضخمة هناك .
يكفي أنْ نذكر من إنجازاتها تأسيس الأزهر الشريف ، الذي أُشتق إسمه من إسم الزهراء ( سلام الله عليها ) ، وهو لم يزل منارة علم في مصر العزيزة .
بل هم الذين بنوا وأسسوا مدينة القاهرة ( 1 ) .
الذي أستفزني ودعاني للكتابة في ذلك أمران :
أولهما وأهمهما :
أنَّ الشيعة مع أنّهم يعرفون أنَّ الآخر يختلق الفرص ليمعن فيهم قتلاً وتعذيباً وإستئصالاً ، ومع ذلك وفي كل مرة هم مَن يُخدعون ويصدقون بإخلاص الذئب فيدخلونه الى بيوتهم .
وثانيهما :
أنَّ المؤرخين في تحليلهم لعدم إنتشار التشيع في مصر ، مع أنَّ الشيعة حكموها لقرون ، يُخْفون حقيقة إجرام الأيوبي ، ويدّعون أنَّ سبب ذلك هو أنَّ الأمراء الفاطميين لم يكونوا مهتمين بنشر التشيع ، وكان كل هدفهم السلطة لا غير ، وهو أمر يجانب الحقيقة بمسافات .
يعتبر كثير من المؤرخين أنَّ بداية إنهيار الدولة الفاطمية وسقوطها كان لسببين :
الأول : هو الخلافات والتنافس على السلطة بين الأمراء الفاطميين أنفسهم ، وهو السبب الرئيس الذي أغرى بهم اعداؤهم .
الثاني : الوثوق والإغترار بمَن لا يُوثَق به ، وطلب المعونة ممَن لا يرعوي عن إستئصال التشيع متى سنحت له الفرصة .
وما نريد الوقوف عنده الآن هو السبب الثاني ؛ لحاجتنا لذلك في المقطع الزمني الذي نعيش فيه لأخذ العظة والعبرة .
نعم ، عندما تقام دولة على مخلفات دولة تضيع حقائق وتبرز أباطيل وتموت عقائد وتحيا مذاهب ويذهب فقهاء ويأتي أدعياء !
وبسقوط الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الأيوبية غُيّبت حقائق وضُيّعت عقائد وارتفعت رايات وطويت أخرى .
ومع ذلك ومن بين السطور يستطيع المنصف أنْ يشم رائحة الغدر .
لايعرف الناس عن صلاح الدين الأيوبي ( يوسف بن أيّوب ) سوى قتاله للصليبيين ، مع أنّه هادنهم بعد ذلك !
والوجه القذر والمخفي من القصة هو :
أنّه في اوآخر الدولة الفاطمية وبعد ضعفها نتيجة الصراعات بين قادتها ، انسلخت الشام عن الدولة الفاطمية ، وتسلط عليها نور الدين محمود زنكي ( 2 ) ، وعادت تابعة الى بغداد عاصمة الدولة العباسية ، المريضة ايضاً بصراعاتها .
وفي مصر كان الصراع محتدماً للفوز بمنصب الوزير بين الأمراء .
فأستنجد الوزير شاور ( 3 ) بوالي الشام نور الدين زنكي لأجل تثبيته في منصبه ، مقابل أنْ يكون لنور الدين ثلثا إيرادات مصر !
وقيل : أنَّ الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله ، وهو آخر الخلفاء الفاطميين ، بعد أنْ رأى أنَّ مصر ستتعرض لهجوم صليبي بالتنسيق مع الوزير شاور ، هو الذي أستنجد بنور الدين محمود زنكي لمساعدته في صدِّ ذلك الهجوم .
ومن هنا بدأت القصة ..
قصة دخول صلاح الدين الأيوبي على خط التآمر ومن ثم إسقاط الدولة الفاطمية .
كان ذلك في عام ( 564 ) هج ، الى أنْ أستولى على الحكم تماماً بعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد او إغتياله عام ( 567 ) هج ، بتدبير من صلاح الدين نفسه !
وبين هذين العامين وبعدهما كانت هناك دماء ومآس وقصص .
يروي المقريزي :
أنّه لمّا أستنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين محمود زنكي لمساعدته في صدِّ هجوم للصليبيين عن طريق وزيره ( شاور ) المتآمر معهم !
فجَهّز زنكي شيركوه ( 4 ) ومعه صلاح الدين الأيوبي وسيّرهم الى مصر مع جيش كبير .
وبعد قتل شاور بمكيدة من قبل صلاح الدين .
نزل شيركوه القاهرة فأكرمه العاضد وقلّده الوزارة لكنه توفي بعد شهرين وخمسة أيام .
وبعد وفاة شيركوه قلّد العاضد الوزارة لصلاح الدين الأيوبي ، يوسف بن أيوب ، ومن هنا بدأ الغدر !
اذ عمل الأيوبي من اللحظة الأولى لنفسه فبذل الأموال وأضعف العاضد بإستنفاد ما عنده من المال ، ولم يزل أمره في إزدياد وأمر العاضد في نقصان .
وأقطع أصحابه البلاد ،
وأبعد أهل مصر وأضعفهم ،
وأستبد بالأمور ومنع العاضد من التصرف ، وتتبع جند العاضد وأخذ دُور الأمراء فوهبها لأصحابه .
هدم دار المعونة وأقام بدلها مدرسة للشافعية .
عزل القضاة الشيعة ، وقلّد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي ، وعزل سائر القضاة في الأقاليم واستناب قضاة شافعية .
ثم قبض على سائر مَن بقي من أمراء الدولة وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة .
وتحَكَم أصحابه في البلاد والعباد .
أسقط من الآذان حي على خير العمل .
أحرق نفائس الكتب التي كانت بدار الحكمة ودار العلم ، وأغلق الجامع الأزهر .
ويروي المقريزي ايضاً :
أبطل صلاح الدين الخطبة في الجامع الأزهر ، فلم يزل معطلاً عن إقامة الجمعة فيه مئة عام منذ صلاح الدين إلى بيبرس ( 5 ) .
ولشدة الطغيان تَخَفى الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي .
واختفى مذهب الشيعة .
هذه هي ملامح الإنقلاب الأيوبي في مصر ، ذلك الإنقلاب الذي باركه الفقهاء والمؤرخون " العرب " واعتبروه من الفتوحات ؛ لا لشئ إلّا لأنَّ الفاطميين شيعة !
[ إستئصال الشيعة ]
بعد أنْ أسقط صلاح الدين حُكْم الفاطميين وأمسك بزمام الأمور في مصر استدار نحو الشيعة ليستأصلهم من الساحة هناك .
القضية كما هي واضحة فلو كان الأمر يتعلق ببعد سياسي لأكتفى بتصفية الفاطميين كَحُكم وسلطة ، لكن صلاح الدين لم يكتف إلّا بإستئصال المذهب ذاته والبطش بالشيعة بكل الوسائل والسبل الإجرامية .
ولو كان الشيعة وقتئذ أقلية كما يُدّعى لما تطلب الأمر من صلاح الدين أنْ يتطرف في مواجهتهم إلى هذا الحد .
و لو لم يكن وزن الشيعة ووجودهم مؤثراً لما كان هناك داعٍ لكل هذا البطش .
والتبرير جاهز ..
أنَّ الشيعة روافض وزنادقة ، وفي إبادتهم نصر للدين وتقرب إلى الله سبحانه !
يقول المقريزي :
حمل صلاح الدين الناس جميعاً على عقيدة الأشعري في مصر وبلاد الشام ومنها إلى أرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب حتى أصبحت العقيدة الأشعرية هي العقيدة السائدة ، ومَن خالفها تُضرب عنقه .
وسلّم صلاح الدين الفاطميين وأتباعهم الى خادمه قراقوش ( 6 ) فعزل الرجال عن النساء ليكون ذلك أسرع الى إستئصالهم .
الغريب أنَّ ابن خلكان كتب :
أنَّ هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل ؛ فإنَّ هؤلاء باطنيون زنادقة . ويعرب ابن خلكان عن فرحه وسعادته البالغة بمنجزات صلاح الدين بقوله :
وأضحى الدين واحداً بعد أنْ كان أدياناً ، والبدعة خاشعة ، والجمعة جامعة . والمذلة في شيع الضلالة شائعة !
ويقول آخر :
وأخذ صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والإنتقام من الروافض وكانوا بمصر كثيرين .
وكان من نتائج السياسة الدموية التي اتبعها صلاح الدين في مواجهة الشيعة أنْ هرب الشيعة إلى الشام وجنوب مصر ليبتعدوا عن بطشه .
بل يروي إبن الأثير محاولات من المصريين للتخلص من جبروت الأيوبي ، يقول :
غضب أهالي جنوب مصر ، السودان ، ونهضوا لحرب جيش صلاح الدين ، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم بالمنصورة فأحرقها على أموالهم وأولادهم ، وحاصرهم وأُعطوا الأمان فخرجوا الى الجيزة ، فعبر اليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين الأكبر في جيش كبير فأبادهم بالسيف ولم يبق منهم إلّا القليل الشريد .
وفي سياق روايته أحداث عام ( 572 ) هج ، يكتب ابن تغري :
وفيها كان مقدم السودان من صعيد مصر ، في مئة ألف ليعيدوا الدولة الفاطمية ، فخرج إليهم أخو صلاح الدين الملك العادل بمَن معه من عساكر مصر فكانت بينهم واقعة هائلة وقُتل كبير السودان ومن معه .
وفي نفس العام أيضاً وقعت ثورة أخرى في مدينة قفط بصعيد مصر أرسل لها صلاح الدين أخاه على رأس جيش ضخم فقتل من أهلها ثلاثة آلاف ، وصلبهم على شجرها بعمائمهم .
******
( 1 ) بناها القائد الفاطمي جوهر الصقلي بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله ، ودخلها المعز عام ( 362 ) هج ، وأسماها ( القاهرة ) ، وقيل أنَّه أسماها بذلك تبركاً بالكوكب القاهر ، الذي هو كوكب المريخ المعروف .
( 2 ) كتب شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، ( ت : 748 هج ، سيَر أعلام النبلاء ، الناشر : مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة : التاسعة ، ج 20 ، ص 532 ، في سيرة نور الدين :
محمود بن عمادِ الدِّين زَنْكِي ( ت : 569 هج ) ، صاحب الشام . كان الصليبيون قد هجموا على بلاد المسلمين .
فجهز نور الدين جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه ، فافتتح مصر ، وقهر دولتها " الرافضية " ، وهربت منه الفرنجة ، وصَفَتْ الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين ، ثم لصلاح الدين ، فأباد العبيديين واستأصلهم ، وأقام الدعوة العباسية .
[ العبيديون : إسم آخر للفاطميين نسبة الى مؤسس السلالة عبيد الله المهدي بالله ] .
( 3 ) شاور بن مجير السعدي وزير الخليفة الفاطمي في عهد الحروب الصليبية .
قيل : هو الذي طلب مساعدة والي الشام نور الدين زنكي للحفاظ على منصبه في صراعه مع أمراء آخرين ، فأرسل الأخير شيركوه وصلاح الدين الأيوبي الى مصر لمساندته .
وقيل : أنّه في صراعاته كان يستقوي أحياناً بالصليبيين .
قتله صلاح الدين بمكيدة .
( 4 ) هو أسد الدّين شيركوه ، قائد جيش الشام ، وهو عمّ صلاح الدين الأيوبي .
( 5 ) ركن الدين بيبرس ، لُقّب بـأبي الفتوح ، سلطان مصر والشام ، ورابع سلاطين الدولة المملوكية ومؤسسها الحقيقي ، كان مملوكاً يباع في الأسواق ، وانتهى به الأمر سلطاناً ، ( ت : 676 هج ) .
( 6 ) قراقوش : أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي ، الملقب بهاء الدين ، كان خادماً لصلاح الدين الأيوبي ، وكان يعتمد عليه كثيرا ، ( ت : 597 هج ) .
***
مصادر المقالة :
1. إبن الأثير ، الشيباني ، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم ، ( ت : 630 هج ) ، الكامل في التاريخ ، دار صادر للطباعة ، بيروت .
2. إبن خَلِّكَان ، شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ، ( ت : 681 هج ) ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، الناشر : دار الثقافة ، لبنان .
3. الحنفي جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري ، ( ت : 874 هج ) ، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، الناشر : مطبعة دار الكتب المصرية .
4. السيوطي ، جلال الدين ، عبد الرحمن بن أبي بكر ، ( ت : 911 هج ) ، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ، دار إحياء الكتب العربية .
5. المقريزي ، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ، ( ت : 845 هج ) ، المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار ، المعروف بالخطط المقريزية ، مكتبة مدبولي ، مصر ، ط 1 .
6. الورداني ، صالح ، معاصر ، مصري ، من إسرة شافعية المذهب ، وهو من المستبصرين ، من كتابه : الشيعة في مصر .
****
[