• Post on Facebook
  • Twitter
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save
الأكثر شعبية

علاقة الاستشراق بالقرآن الكريم

بواسطة |   |   عدد القراءات : 2248
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

• علاقة الاستشراق بالقرآن الكريم:

بدأ الاستشراق بالعلوم الشرعية، التي تعد أساسًا لدراسة الإسلام والحضارة الإسلامية، فقد بدأ المستشرقون في إصدار ترجمات لمعاني القرآن الكريم، وقد ظلَّ هذا المشروع محل اهتمام ونشاط المستشرقين منذ أول ترجمة تمَّت في 1143 تحت رعاية بطرس المبجل "Peter the Venerable"، وتوالَى ظهور الترجمات إلى اللغات الأوروبية المختلفة؛ كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وغيرها، ولم يكتفِ المترجِمون بترجمة النص القرآني، بل أضافوا أيضًا مقدِّمات - أو فصولاً - تحدَّثوا فيها عن القرآن الكريم، ومن المقدمات المشهورة مقدِّمة المستشرق الإنجليزي سال SALE، وقد أساء فيها للقرآن الكريم أيما إساءة، وكتب المستشرق فلوجل كتاب: "دليل القرآن"، ومالير الذي جمع مفراداته وأفعاله حتى حروف الجر والعطف فيه، ورقم آياته وسوره، ومن هؤلاء أيضًا: "نولدكه"، الذي صنَّف تاريخ النص القرآني وغيرهم.

 

يعود اهتمام الغربيين بالقرآن الكريم - ترجمة، وطبعًا، ودراسة - إلى البواكير الأولى لتعرفهم على معارف المسلمين؛ حيث قصد بعض الرهبان الأوروبيين الأندلسَ، ودَرَسوا في مدارسها، وبدؤوا بترجمةِ القرآن وبعض الكتب العلمية إلى لغاتِهم آنذاك.

 

بَيْدَ أن أول وأقدم ترجمة كاملة - معروفة - للقرآن، هي تلك التي دعا إليها ورعاها "بطرس المبجل" رئيس دير كلوني، وتولاَّها بطرس الطليطلي، وهرمان الدلماشي، وروبرت كينت، بمعاونة عربي مسلم يدعى "محمد"، ولا يعرف له لقب ولا كنية ولا أي اسم آخر، واحتمل بعض الباحثين أن "محمدًا" هذا - الذي ذُكِرَ اسمُه في هامش إحدى النسخ الخمسة لهذه الترجمة - هو شخصية وهمية؛ حيث دأب القوم على وصفِ بعض الكتب بأن مؤلِّفها مسلم ارتدَّ إلى المسيحية؛ لإعطاء الكتاب توثيقًا أكبر، وهي حيلة طالما استعملوها، وخصوصًا عند ترجمة القرآن الكريم، فكثيرًا ما كانوا يدَّعون أن الترجمة عن النص العربي في الوقت الذي لا يعرف فيه المترجِم اللغة العربية، وظلَّتْ هذه الترجمة مخطوطةً في نسخ عدَّة، تتداول في الأديرة مدة أربعة قرون فقط، إلى أن قام "ثيودور بيبلياندر" بطبعها في مدينة "بال" في سويسرا في 11 يناير سنة 1543م، وسُمِّيتْ هذه الترجمة ترجمة "بيبلياندر"، وتميَّزت بمقدمة لـ"مارتن لوثر" و"فيليب ميلانكتون".

 

أما الحجج التي تقدَّم بها بطرس المبجل دفاعًا عن عزمه بخصوص ترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية أمام معارضيه، فيقول: "إن الجُرم الذي ارتكبه محمد - صلى الله عليه واله - لا يطلق عليه سوى تسميةِ الهرطقة أو الوثنية، وعليه ينبغي العمل ضد ذلك الأمر، ولكن اللاتين لا يعرفون سوى لغاتهم؛ ولهذا لا يستطيعون التعرف على حجم هذا الخطأ، ولا يستطيعون إغلاق الطريق أمام هذه الهرطقة؛ لهذا كله اشتعل قلبي وفكري وأسخطني رؤيةُ اللاتين وهم غير مدرِكين دوافعَ هذا الخطر، وتجاهلهم إياه يضعف مقاومتهم أمامه، ولا أحد يستطيع الرد؛ لذلك ذهبتُ أبحث عن متخصصين في اللغة العربية، وعن طريق التوسل والنقود جعلتُ أولئك المتخصصين يقومون بترجمة تاريخ وأسس ديانة هذا المسكين، وكتابه الذي يسمى: القرآن، وقد سلمت المترجمين المسيحيين واحدًا من السراسين (المسلمين) كي تكونَ الترجمة مطابقة تمامًا؛ حتى لا يكون هناك خطأ يلوث أفكارنا".

 

وقد أكَّد المستشرق الفرنسي "بلاشير" Blachére أن هذه الترجمة لم تكن أمينة أو كاملة النص، فيقول: "لا تبدو الترجمة الطليطلية للقرآن - بوجهٍ من الوجوه - ترجمةً أمينة وكاملة للنص، ومع ذلك شكَّلت هذه الترجمة النواةَ الأولى لباقي الترجمات الأوروبية الأخرى للقرآن الكريم، بل مارست عليها تأثيرًا قويًّا إلى درجة الاقتباس منها والسير على منهجها، ثم توالت الترجمات القرآنية إلى اللغات الأوروبية بعد ذلك في الظهور؛ حيث ظهرت أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الفرنسية سنة 1647م، على يد "أندري دي ريور"، وقد كان لهذه الترجمة صدى كبير لمدة طويلة من الزمن؛ حيث أعيد طبعُها مرات عدة، وترجمت إلى مختلف اللغات الأوروبية.

 

وفي القرن السابع عشر ظهرتْ ترجمةٌ من العربية مباشرةً إلى اللاتينية للإيطالي "مركي" سنة 1698م، وتعتبر هذه الترجمة عمدة كثير من الترجمات الحالية.

 

وفي القرن الثامن عشر ظهرت ترجمات أنجزت أيضًا على أصل عربي؛ حيث نشر الإنجليزي "جورج سال" ترجمة مباشرة من العربية إلى الإنجليزية سنة 1734م، زعم في مقدِّمتها أن القرآن إنما هو من اختراعِ "محمد" - صلى الله عليه واله - ومن تأليفه، وأن ذلك أمرٌ لا يقبل الجدل، ونشر الفرنسي "سافاري" ترجمة مباشرة إلى الفرنسية سنة 1751م، نشرت في مكة سنة 1165هـ"، وإن كان "إدوارد مونتيه" E.montet يقول: "إنه رغم أن ترجمة "سافاري" طبعت مرات عدة، وأنيقة جدًّا، لكن دقتها نسبية".

 

وفي سنة 1840م ظهرت إلى الوجود ترجمة "كزيمرسكي"، التي تعتبر - مقارنة مع ترجمة "سافاري" - أكثر عراقة واستعمالاً، رغم عوزها بعض الأمانة العلمية، وفهم البلاغة العربية، يقول "مونتيه" عن هذه الترجمة: "لا يسعنا إلا الثناء عليها؛ فهي منتشرة كثيرًا في الدول الناطقة بالفرنسية"، وفي سنة 1925م ظهرت ترجمة "إدوارد مونتيه"، التي امتازت بالضبط والدقة إلى حد بعيد.

 

وفي العام 1949م ظهرت ترجمة "بلاشير"، وتُعَد من أدقِّ الترجمات، ولكن يَعِيبها اتخاذُه أسلوب الترتيب الزمني للسور القرآنية.

 

وفي سنة 1966م ظهرت ترجمة المستشرق الألماني "رودي بارت"، وتعتبر أفضل ترجمة للقرآن الكريم باللغة الألمانية، بل باللغات الأوروبية عمومًا، وقد حَرَص صاحبُها على أن يكون عمله علميًّا، وأقرب ما يكون من الدقة والأمانة في نقل المعاني القرآنية من العربية إلى الألمانية، حتى إنه حينما تعترضه كلمة يصعب عليه فهمُها على الوجه المقصود، أو لا يطمئن إلى قدرته على تحديد معناها باللغة الألمانية؛ فإنه يثبتُها بنصها العربي كما وردت في الآية الكريمة، ولكن بالحروف اللاتينية ليفسح المجال أمام القارئ لأنْ يتوصَّل بنفسه إلى إعطائها المعنى الذي يراه ملائمًا لسياق الكلام، دون أن يفرض عليه وجهة نظره الشخصية.

 

أما أوَّل طبعة للقرآن في نصه العربي، فهي تلك التي تَمَّت في "البندقية" في وقت غير محدد بالدقة، ولكن المرجح هو أن تاريخها هو سنة 1530 تقريبًا، لكن جميع النسخ التي طبعت أحرقت، وكانت طبعةً كاملة لكل القرآن، ولم يعثر لها على أثرٍ حتى الآن، وأَقدم مَن ذكرها هو "إرپنيوس" في كتابه: "مبادئ اللغة العربية، ليدن 1620"، أما أول طبعة للنص الكامل للقرآن وبحروف عربية وانتشرت - ولا يزال توجد منها نسخ في بعض مكتبات أوروبا - فهي تلك التي قام بها القس الألماني "إبراهام هنكلمانAbraham hinckelmann 1652 - 1695"، في مدينة هامبورج بألمانيا، في مطبعة Schultzio Schilleriana، في سنة 1694، وتقع في 560 صفحة.

 

وفيما يخص فهارس القرآن، فقد وضع المستشرق الألماني جوستاف فلوجل (1802 - 1870م)، فهرسًا أبجديًّا لكلمات القرآن الكريم، مع ذكر رقم السورة ورقم الآية التي ترد فيها، وأسماه: "نجوم الفرقان في أطراف القرآن"، وطبع في ليبتسك عام 1842، وأعيد طبعُه فيها عام 1898، وهذا الكتاب هو الذي اعتمده محمد فؤاد عبدالباقي وجعله أساس معجمه: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن"؛ كما أخبرنا هو بذلك بقوله: (وإذ كان خير ما أُلف وأكثره استيعابًا في هذا الفن - دون منازع ولا معارض - هو كتاب "نجوم الفرقان في أطراف القرآن" لمؤلفه المستشرق "فلوجل" الألماني، الذي طبع لأول مرة عام 1842 ميلادية، فقد اعتضدتُ به وجعلته أساسًا لمعجمي، ولما أجمعت العزم على ذلك راجعت معجم "فلوجل" مادة مادة على معاجم اللغة وتفاسير الأئمة اللغويين، وناقشت مواده، حتى رجعت كل مادة إلى بابها.

 

هذه نماذج من الأعمال التي نهض بها المستشرقون فيما يتعلَّق بالقرآن الكريم، وقد تتابعت أعمالهم حول القرآن في حقول متعدِّدة؛ حيث تجاوزت ترجمات القرآن والأعمال حوله عدَّة آلاف، ترجم فيها إلى أكثر من مائة لغة، فضلاً عن الدراسات والابحاث التي لم تزَلْ تصدر بزخم كثيف في السنوات الأخيرة.

 

ومما ينبغي الإشارة إليه أن الاستشراق الألماني قام بتأسيس "معهد ميونيخ للأبحاث القرآنية" في جامعة ميونيخ، وهو معهد خاصٌّ بالدراسات القرآنية، وفريدٌ من نوعه في العالَم آنذاك؛ إذ كان يضم:
1- 
أهم ما يوجد من المراجع المطبوعة، وخاصة العربية التي تتناول تفسير القرآن الكريم، والعلوم القرآنية والقراءات.

 

2- صورًا عن المخطوطات التي تتناول هذا الموضوع، من جميع المكتبات في العالم.

 

3- صورًا عن النسخ المخطوطة من القرآن الكريم، من مختلف العصور، من القرن الأول للهجرة حتى القرن الرابع عشر.

 

4- علبة خاصة لكل آية، يوضع فيها تفسير تلك الآية كما جاء به المفسرون، منذ عصر الصحابة حتى اليوم، والتفاسير مرتبة حسب الأقدمية، وكان يشرف على هذا المعهد المستشرق برجستراشر (1886 - 1933)، ثم خلفه المستشرق بريتسل (1893 - 1941).

 

وقد بُذلت جهودٌ كبيرة وأنفقت أموالٌ طائلة في تحضير هذا المعهد، ولكن دمَّرته الغارات الجوية على مدينة ميونيخ أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

إن توثيق الجهد الاستشراقي في حقل الدراسات القرآنية يحتاج إلى كلامٍ طويل تضيق عن استيعابِه مجلَّدات عديدة، ولقد تواصل إنتاج المستشرقين عدة قرون في حقل الدراسات القرآنية، وقد لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ترجمات القرآن وعلومه - كالقراءات، والمصاحف، وغيرها - استأثرت باهتمام طائفة كبيرة من كبار المستشرقين منذ فجر حركة الاستشراق، ولم تزَلْ هذه الدراسات موضع اهتمام الباحثين الغربيين في الدراسات الإسلامية حتى اليوم.

 

Powered by Vivvo CMS v4.7