مصادر المعرفة في القرآن الكريم

بواسطة |   |   عدد القراءات : 2957
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

مصادر المعرفة في القرآن الكريم

 

يُمثِّل موضوع المصادر أهمية خاصَّة في النظريَّة المعرفية لأيِّ نسق معرفي، فهو حجر البناء لأي نسق؛ إذ من المصادر المعرفية تُسقى المعارف والأدلة.

والموضوع يتَّصل في فكر المسلمين ببناء فكر الأمة وتوجُّهها الحضاري؛ من أجل إعادة البناء لما هُدِم، وترميم ما اهْتُرِئ، وإبداع ما يُساير العصر، انطلاقًا من الأصول الإسلاميَّة، التي زها بها التاريخُ العلمي للمسلمين، وسيرًا نحو الريادة وَفْق منهج رباني.

غَيْرَ أنَّ مفهوم المصدر يشوبه بعضُ الغموض في تحديده، وحوله آراء عدة وتصورات مُختلفة.

مفهوم المصدر المعرفي:
إذا تتبَّعنا طرحَ مصطلح "مصادر المعرفة" في الكثير من البُحُوث، نجد اختلافًا بل اضطرابًا في استعماله اللغوي، وتداخلاً مع مفاهيم أخرى؛ مما يُوقع في إشكالات فكرية للمُدقق، وتصورات خاطئة للمطالع، فتكسب تلك البحوث صبغة أدبية قصصية أكثر منها بحوثًا علمية؛ "نظرًا لعدم تحديد بعض الباحثين لمصطلحات دراساتِهم، فقد وقع بعضُهم فيما يعد خلطًا أدى إلى التباسٍ بين المصادر والميادين مثلاً... ومنهم من يَميل إلى الإجمال؛ فيجعل الله تعالى مصدر المعرفة والوحي أداة"[1].

ولذا نفصِّل في البحث بين الأصل والمصدر، فالأصلُ هو الخالق لها ولأسبابها، والمصدر هو علة حدوثها، والقولُ حول المصدر بأنه الله تعالى بالإجمال ضربٌ من التعتيم؛ لأنَّ من يقينيَّات المسلم أنَّ الله هو مسبب الأسباب، غَيْرَ أنه تعالى أبدع الكون على نظام مُتناسق، والتناسُق لا يكون دون ثبات، والثَّبات لبُّ القانون، والقوانين مما يسر الله للإنسان إدراكها؛ بل أرشده للبحث عنها، وهي من العالم المباشر الظاهر، والشرع بَنَى الأحكام بين الناس على الظاهر، فالتطرُّق للأسباب قطعًا هي الأسبابُ المشهودة من العالم المدرك؛ لا الأسباب المغيبة التي تلي عالَمَ الشهادة؛ لذا نجد نوعًا من التسطيح بطرح أصول القضايا، وعلل الكون، مُباشرة إلى الباري، فهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، بل هو عنوان لجهل القائل به بالأسباب الدُّنيوية، فيقفز إلى مسبب الأسباب دفعة واحدة، والنِّزاع قائم حول السبب الدُّنيوي في عالم الشهادة، لفقه نواميس الكون ونظامه، كيما نعي قوانين الاستخلاف الدنيوية.

أمَّا جر الأنظار إلى ما غاب فآمنا بالله، لكن نلتمس رُؤية سنة الله في خلقه، ولا تبديل لسنته تعالى في الآفاق ولا الأنفس، فما وعد جل وعلا بأن يُري عبادَه آياته في الآفاق وفي أنفسهم، إلاَّ وقد مكنهم من رُؤيتها، والرُّؤية لا تستقيم دون فهم للعلل والأسباب، وكلٌّ يدرك شيئًا من ذلك بقدر ما أوتي من علم وقدرة وإرادة.

الفرع الأول: المفهوم الدلالي:
يُشكل موضوع المصادر أهميةً خاصَّة بالنسبة إلى التربية (المعرفية) الإسلامية؛ لأنَّه يتصل ببناء فكر الأمة، وتوجهها الحضاري من أجل إعادة بنائها أفرادًا وجماعات؛ لانطلاقها من الجذور الأصلية والاتجاهات والقيم، التي كان لها أكبر الأثر في تاريخنا[2]، غير أن لكثير من الباحثين في هذا الموضوع آراء عدة، وتصوُّرات مُختلفة حول المصادر وتقسيماتها.

فالبعضُ يَجعل طرق المعرفة مصادر لها وحتى وسائلها، وهذا يعارض بنية المصطلح ودلالاته اللُّغوية، فالمصدر لغة من الصدر، وهو مقدمة كل شيء؛ أي: أصله الذي عنه يصدر.

يقول أحدُ الباحثين: تستعمل الفلسفة (مصادر المعرفة)، وتُعنَى بها طرق المعرفة أو وسائلها، ولكن مصطلح مصادر المعرفة في المفهوم الفلسفي ليس هو المراد بطُرُقها عندنا في تصورنا الدقيق، ذلك أن مصدر الشيء أصله، وأصل المعرفة عندنا رباني؛ ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]، وحتى استعمالنا لأدوات المعرفة من عقل وحس إنَّما هو بأقدار الله عزَّ وجلَّ - وتمكينه الفلسفي، ومن ثم فطرق المعرفة عندنا مصادرها ومنابعها معًا[3].

لكن إذا تتبعنا طرح مصطلح "مصدر المعرفة" في الكثير من البحوث نجد اختلافًا، بل اضطرابًا في استعماله، وتَداخلاً مع مصطلحات أخرى؛ مما يُوقع في إشكالات فكرية، فهي تتعامل مع المصطلحات بسياقاتِها اللغوية دون ضبط اصطلاحي أو تحديد دلالي؛ مما دفع أحدَ الباحثين للتنبيه له[4].

أمَّا المصدر فالبعض يَجعله هو وسيلة الوصول إلى المعرفة، وقد تبين أنَّها الأداة، وهي الحواس والقلب، وآخرون جعلوه منبعَ المعرفة، وأنَّها ثمرة من أصل، وهذا يَجري على الطرق؛ أي: القوة الإدراكية.

مما سبق معنا في ضبط مصطلح القوة الإدراكيَّة، فقد تكوَّنت مصطلحات وهي: "أداة المعرفة"؛ وهي الجوارح من حواس وقلب، و"محل الإدراك" وهو القلب، و"محل الإحساس"، وهو الحواس، و"القوة المدركة" الكامنة بالمحل، و"فعل القوة المدركة" وهو نشاطها وعلمياتها الإدراكية، و"الهيئة" وهي حصول الإدراك حسب مراتبه داخلَ النفس المدركة.

فهُنا عندنا مدرِك، وأدوات الإدراك، وفعل الإدراك، مع القوة، هذا كله موجَّه نحو موضوع مدرَك.

السؤال: ما مصدر المعرفة؟ النشاط الإدراكي، أم الإدراك، أم الموضوع المدرك؟ 
إذا رجعنا لبعض البحوث، فإنَّ الفصل في هذا صعب؛ لأنَّ الكثير لم ينتبه لهذا التفصيل، كما أنَّ من تنبه يتعامل مع العقل بمعانيه على أنَّه محل وقوة وفعل وهيئة، فيطلق على المعلومات الكامنة في النفس (التراكم المعرفي): عقلاً، وعلى عملية استرجاعها والاستنباط منها: عقلاً، وعملية تحصيلها أولاً: عقلاً.

فالإشكال هل المصدر هو المُحَصِّل للمعرفة، أو عملية التحصيل، أو المُحَصَّل منه؟
سبق معنا أنَّ الإنسان خلق خاليًا من المعلومات، ومنح القُدرة على تحصيلها بعد خروجه من بطن أمه، ومنح الجوارح وهو داخل بطن أمه؛ قال الرازي: "النفس الإنسانيَّة لما كانت في أول الخلقة، كانت خالية عن المعارف والعلوم بالله، فالله أعطاها هذه الحواسَّ؛ لتستفيدَ بِهَا المعارف والعلوم"، بعد أن بيَّن إشكاليةَ: هل العلوم كسبيَّة أو بَديهِيَّة في أصلها؟ قال: "إنَّها إنَّما حدثت في نفوسنا بعد عدمها، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر، وتقريره أنَّ النَّفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم؛ إلاَّ أنَّه – تعالى - خلق السمع والبصر، فإذا أبصر الطفلُ شيئًا مرة بعد أخرى، ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع، وكذا القول في سائر الحواس، فيصير حصول الحواس سببًا لحضور ماهيات المحسوسة في النفس والعقل، ثم تلك الماهيات على قسمين: أحد القسمين ما يكون حضوره موجبًا تامًّا في جزم الذِّهن، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات، مثل إذا حضر في الذهن علة تامَّة بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين البَدَهِي، والقسم الثاني: ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية"[5].

والحاصلأنَّ العلومَ تكتسب بواسطة العلوم البديهيَّة، وحدوث البديهيَّات بتصور موضوعاتها ومحمولاتِها، والتصوُّرات كانت بإعانة الحواس على جزئياتِها، فظهر أن السبب الأول لحدوث المعارف في العقل هو هذه الحواس.

فالحاصل لدينا: نفس خالية من المعارف، وأدواتٌ هي ناقل للمعارف، فعمليَّة النقل تتم بين وسطين، هما العالم الدَّاخلي (النفس المدركة)، والعالم الخارجي، وهو كل ما خرج عن محل الإدراك (القلب)، فالاتِّصال بالعالم الخارجي لا يكون إلا بالحواس، التي تنقل ما يصبح بَدَهيًّا إذا تكرَّر؛ لأن صورته وماهيته لم تتغير، فيجزم الذهن بثباته أو نفيه، وهذا الجزم يصنع القانون (قانون العقل)، وتراكم القوانين تبني لنا البديهيَّات والمسلمات؛ وهي العلم الضَّروري الذي منه نكتسب العلوم النظرية الكسبية والحاصلة لاحقًا.

يتبين أنه لو فُقد الحس أولاً، لما كان عُلِمَ قَطُّ بالعقل (النفس المدركة)، فهل الحواس مصدر للعلم؟ لم يقل أحد من العلماء بها، إلاَّ في حالة عدم ضبط المصطلح، فالكل على أنَّها نواقل متأثرة لا مؤثرة.

والمصدر لا بُدَّ أن يصدر عنه شيء نحو مُتلقٍّ، فإذا قلنا: مصدر العلم، فسيصدر عنه (معلوم)، نحو متلقٍّ له القابليَّة على استقباله، وهو محل العلم (المتعلم)، وحال تَمكُّنه منه يكون (عالمًا به)، فهنا الحواس ناقلة بنص القرآن وإجماع العقلاء؛ فلا تكون مصدرًا للمعارف؛ لأنَّها خالية أصالةً منها.

نتساءل بعد ذلك: الحواسُّ من أين تنقل المعارف؟ وإلى أين؟
علم المنتهى وهو القلب، أو العقل، أو النفس المدرِكة، لكنَّ المبدأ لم يعين، لا بُدَّ أن نصطلح عليه بـ"مصدر المعرفة"؛ أي: الموضوع المدرَك الذي تصدر منه المدرَكات، وتستقبلها الحواسُّ؛ لتفاعلها مع المؤثر الخارجي، فتنقل صورته أو حقيقته أو ماهيته أو مثاله نحو العقل ليدركه، فالعين لا تُلقي الضوء على الأجسام لتراها، بل الأجسام ينبعث منها الضوء نحو العين المقابلة والمباشرة لها، فتنقل تلك التأثيرات الضوئية لمحل الإدراك.
فالمصدر هو العالم الخارجي، وهو المنبه والمؤثر والباعث للصُّور والأصوات والمؤثرات التي تتلقاها وتستقبلها الحواس، ثم تصل بها إلى مركز الإدراك، ويدخل المثال (خامًا) مادة أولية إلى القلب "محل الإدراك"، وهو كمصنع به نشاطات إدراكية عدة، تتصاعد وتتفاوت من فرد لآخر، فكل عقل يخرج من تلك المعرفة الأولية معارفَ عِدَّة حسب قدراته ومؤهلاته.

فيكون المصدر الأصلي (العالم الخارجي)، والمصدر التابع هو (الحافظة أو الذاكرة)، فالعقل يستحضر ما تراكم في الذَّاكرة من معارف ومعلومات، ويبني عليها؛ لينشأ معلومات ومعارف أخرى، بعدها تخزن هذه المعارف؛ لتكون (مادة أولية) لمعارف وعلوم أخرى بعدها، ومن معاني العقل أنَّه قوة التمييز، وأنه المعلومات المخزنة؛ لذا نَجد البعض كأبي حامد الغزالي يقول: "العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه[6]، فهذا على اعتباره مرادفًا للقلب، وأنَّ ما في القلب من علوم تسمى عقلاً؛ حيث قال في معاني العقل الأربعة: "قد يُطلق ويراد ما بمحل الإدراك؛ أي: المدرَك (العلوم)" [7].

أما غالب ما جرى عليه العقل، فهو "قوة إدراكية"، فلا يكون محلاًّ بنص القرآن؛ حيثُ كان صفة لعين قائمة بنفسها وهي (القلب)، فالعقل قوة القلب، فلو فرضنا - تنزيلاً - أن محل الإدراك مصدرٌ، لكان الأولى أن يكون القلب هو مصدر المعرفة لا العقل؛ لأنَّه صفة للقلب، والفاعل هو القلب، لكن غلب إطلاق المعرفة القلبية على العاطفة والوجدان والمواعظ في الاصطلاح الحادث.

وتفصيل ذلك قول أبي حامد الغزالي: اعلم أنَّ محل العلم هو القلب، أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح، وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء... فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء، والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة، فوصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علمًا، وقد كانت الحقيقة موجودة، والقلب موجودًا، ولم يكن العلم حاصلاً؛ لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب"[8].

فالحقيقة لها مثال، والحقيقة هي (المعلوم) الكامن خارجَ النفس العالمة، والحقيقة تنتقل إلى (العالم) وهو القلب، وصولها إلى المحل يسمى (علمًا)، وانتقالها يتم عَبْرَ نواقل تربط القلب (محل العلم) بالعالم الخارجي عنه، وهي (الحواس).

كما بيَّن الغزالي أن المعلوم هو "حقائق الأشياء"، والمعلوم هو المعارف والمعلومات والمدركات، وإذا قلنا مصدر المعرفة؛ أي: مصدر المعلومات والمعارف، فمصدر المعلوم هو مصدر حقائق الأشياء، وهي الأشياء؛ أي: مصدر حقيقة الشيءِ: الشيءُ نفسه؛ فعنه تصدر حقيقته ومثاله وصورته وماهيته، وهو المؤثرة والمنبه للحواس.

فالحواس نواقل للمعارف، كما بيَّن الرازي وغيره، والمستقبل لا بُدَّ له من ناقل ومصدر، والناقل لا بد أن يكون بين أمرين: من وإلى، فإذا كان المتلقي هو القلب (محل العلم) أو العقل، و(الناقل) إلى محل العلم هو الحواس، فالجانب الآخر الذي تتَّصل به الحواس لزامًا هو (المصدر) المُتلَقَّى عنه عبرها.

والحواس لا تتلقى إلاَّ من (العالم الخارجي)، فكان (المصدر الأصلي) والرئيس هو (العالم الخارجي)، و(المصدر التابع) هو النفس المدركة، وبصيغةٍ أدقَّ (المعرفة المتراكمة) من بديهيَّات ومحفوظات وخبرات مخزنة مُتراكمة، بالعقل بالذَّاكرة، يسترجعها العقل، ويطورها، ويستنبط منها معارف أخرى، وهذه تكون عملية انتقال المعلوم نحو محل العلم، ووصول المثال؛ أي: حصول العلم.


وكلها داخليَّة لا علاقةَ للعالم الخارجي بها، غَيْرَ أنَّ أصلها الأَوَّلِيَّ العالَمُ الخارجي، ومصدرها الثاني (المعرفة المتراكمة) داخل الحافظة أو الذاكرة، فإذا اعتبرنا العقل هو القلب المدرك؛ أي: إنَّ الذاكرة والحافظة من قوى العقل، كان العقل (مصدرًا تابعًا)، وإن اعتبرنا العقل قوة إدراكية من قوى القلب الإدراكية العدة؛ مثله مثل الحافظة والذاكرة، فالحافظة والذاكرة هي مصدر المعرفة التابع، والقلب لا يملك معلومات أصلية غير ما في هذين المصدرين.

خلاصة ما سبق: (مصدر المعرفة) هو الحاوي لحقيقة الأشياء أو ماهيتها أو مثالها؛ أي: هو الأشياء عينها؛ أي: مصدر المعرفة هو (الموضوع المدرَك)، فعندنا نفس مدركة، وعملية إدراكية، وموضوع مدرَك، النفس المدركة هي "محل العلم" القلب، والعلمية الإدراكية هي "العقل"، والإدراك حصول العلم، والموضوع المدرَك هو العالم الخارجي، أو ما في الحافظة والذاكرة مما نقل عن العالم الخارجي أصلاً، وتطوَّر ونشأت عنه معارف وصور، قد لا يكون لها وجود بالعالم الخارجي.

هذه الإطالةُ في بيان معنى مصطلح "مصدر" اقتضاها ما صادفنا وصدمنا من خلطٍ بينه وبين الطرق والوسائل، كأنْ يقولَ البعض: أن من مصادر المعرفة الحس، وهذا أمر عُجاب، ومن المصادر العقل، فأين الأداة والوسيلة وطريقة الوصول؟ وإن كان، فأين تفصيلهم وبيانهم لذلك؟

أمَّا إذا حاججنا بأرفع من ذلك، فالأمة قاطبة تُقرِّر أنَّ مصادر التشريع "الكتاب والسنة"، هنا ننظر بوجهة "إبستمولوجية" للمصطلح، فقولهم مصادر يعني أنَّها يُؤخذ العلم والمعرفة منها بواسطة السَّماع أو القراءة؛ أي: السمع أو البصر، والعقل دوره التدبر والتفكُّر والتمييز لفهم المراد، وفهم كيفية تطبيقه؛ أي: إنَّهم قسموا العملية إلى مصدر، وعنه تصدر المعارف والعلوم، وهو موضوع العلم وحقيقة العلم، وناقل للعلم وهي الحواس، ومُستقبل وهو مَحل الإدراك القلبُ أو العقل، وهيئة حصول المعلوم إلى المحل، وهي العلم الذي به يصبح الفرد مدركًا.

فكيف يبرر قولهم: مصدر عقلي، ومصدر حسي؟ وإن كان البعض استدل بكلامِ مَن سبق كعُلماء الكلام وغيرهم كأبي حامد الغزالي وابن تيمية، فهؤلاء إذا قالوا: إن العقلَ مصدر للمعرفة، فمُرادهم الحافظة أو الذَّاكرة؛ أي: المعلومات (المصدر الثانوي)، وذلك بيِّن لمن تتبَّع تعاملاتِهم مع هذه المصطلحات، وهم لم يَخوضوا في "نظرية المعرفة" كعلم مُستقل، فالحجة لا تقوم عليهم إنَّما على من أراد أن يقيم علمًا دون أن يضبط مصطلحاته، وعدمُ ضبط لغة الفن هَدْمٌ له.

وإذا رجعنا لكتب التفسير والأصول والفقه واللغة نَجد التعاملَ مع مصطلح "مصدر" بنفس الدلالة التي بَيَّناها، حتى عند علماء الكلام حالَ تصنيفهم للعقل أنَّه من مصادر المعرفة، وإيرادهم لمصطلح "المعرفة العقلية" كمصدر، يريدون مصدرًا تابعًا؛ أي: التراكم المعرفي بالحافظة، والله أعلم.

الفرع الثاني: تصنيف المصادر:
مصادر المعرفة في النِّظام المعرفي القرآني مصدران متكاملان متآزران هما:
1 - الوحي(الآيات المتلوة، وسنة الأنبياء، والرُّؤيا، والإلهام، والحدس).
2 - الكون: (الآيات المخلوقة، الآفاق، الأنفس، قصص الأولين، أخبار التاريخ والحاضر).

وطرق اكتساب المعرفة من كليهما هي العقل والإحساس لا سبيلَ بغيرهما؛ قال بعض الباحثين: "ومن هنا فإنَّنا نُخالف ما شاع في كتابات عدد من علماء المسلمين من اعتبار العقل مصدرًا للمعرفة جنبًا إلى جنب الوحي، ذلك أنَّ معارف الوحي ومعارف الكون لا يُتوصل إليها إلا بفعل التفكُّر والتدبر والتعقل، والعقل ليس عضوًا في الإنسان، بل هو طاقة وقدرة وعمل، ولم يرد في القرآن إلا بصيغة الفعل لا صيغةِ الاسم".

فلو كان العقل مصدرًا للعلم، فما الوسيلةُ التي يستخرج أو يتوصل بها إلى العلم من هذا المصدر؟ العقل لا شك طاقة فعل (قوة إدراكيَّة )، يتوصل بها للمعرفة والعلم من مصدريها الأساسيين: الوحي والكون، والوحي يُمثل دائرة المعارف الإسلامية، أمَّا الكون فإنه يمثل المعجم والمختبر الذي يحتوي على مفردات هذه الدائرة، فيقوم الباحث المتعلم بالنظر في مفردات هذا المعجم، مسترشدًا بما جاء في دائرة المعارف، كما أنَّه يستعين بما يكتشفه في هذا المختبر؛ على فهم ما يقرؤه في دائرة المعارف، فالكون في النظام المعرفي القرآني هو الجامعة المفتوحة، وفيها أنواع من المختبرات والتجارب والمشاهدات لا تحصى[9].

والله أمر بالقراءة، وجعل التكليف مُناطًا بوجود العقل، وبلوغه مرحلة التمييز، وتعقل الخطاب، والمقروء لم يُعِنْه ليشملَ كلَّ ما يقدر عليه الإنسان، مع التزام المنهج الرباني في توجيه ما يقرؤه، فكان له الكتاب المسطور (الوحي)، والكتاب المنظور (الكون)، وفي بيان ذلك كلامٌ يطول، وأدلة لا تحصر، فسنقتصر على آية شاملة، وهي قوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].

عندنا هنا مصطلحات معرفيَّة هي: الرُّؤية "سنريهم"، "آياتنا" العلامات الموضوعة للاستدلال كموضوع للمعرفة والعلم، "الآفاق والأنفس" ميدان تواجد الآيات؛ أي: مَحل المعلومات والمعارف (مصدر المعرفة)، "يتبيَّن" حصول العلم بالنَّفس المدركة، "الحق" بلوغ اليقين من حصول العلم.

قال السعدي في تفسير الآية: "فإنْ قُلتم أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم الله لكم، ويريكم من آياته في الآفاق، كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يُحدثه الله تعالى من الحوادث العظيمة الدالَّة للمستبصر للحق، "وفي أنفسهم" مما اشتملت عليه أبدانُهم من بديع آيات الله، وعجائب صنعته، وباهر قدرته؛ ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]، أولم يكفهم أن القرآن حق ومن جاء به صادق"[10].

فالرُّؤية هنا رؤية قلبية؛ أي: عملية إدراكيَّة، والآيات لُغَةً: هي العلامات الدالة الواضحة؛ أي: هي حقيقة الأشياء، والأشياء هنا هي "الآفاق والأنفس"، فعلامات الآفاق والأنفس آياتُها وحقائقها؛ وهي المعلومات المأخوذة منها، و"التبيُّن" هو حصول العلم بالنَّفس، بوصول العلم إلى محله القلب، والعلم هنا بلغ درجةَ اليقين، "الحق" وهو أعلى من الحقيقة؛ لكونه دومًا الخير والصلاح والصدق، فمصدر الحق أو مصدر بيان الحق هو آيات الآفاق والأنفس، (الكون)؛ أي: العلم النابع من الكون، فالكون مصدر للمعرفة والعلم الذي يحاجج الله تعالى به عباده، والحواس تتصل بجهة واحدة، وهي الكون، وتنقل ما تتلقاه إلى العقل؛ ليتبين ويستوعب فيميز الحق من الباطل، و"الآيات" هنا هي العلامات الأوضح في الدلالة، فهي المعلوم الخالي من اللبس والإشكال وحقائق الأشياء.

فالكون بذلك مصدر للعلم والمعرفة؛ كيما يؤمن الناس بالله وأنبيائه وكتبه ويلتزموا، وهؤلاء درجتهم في الإيمان أدنى من الذين زادوا مصدرًا آخر هو (الوحي)؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]؛ أي: أولم يكفهم القرآن دليلاً على وحدانية الله وصدق نبيه؟! والوحي هنا مصدر لا طاقةَ للإنسان للوصول له بالحواس أو العقل؛ أي: تحصيله فوق قدرة الإنسان، فكان لا بُدَّ من واسطة تبلغه بالوحي وهم الأنبياء.

فالإنسان كعاقل كيما يؤمن بالله تعالى عُرض على عقله آيات مَتلُوَّة وآيات كونية، فكانا قسمين:
الأول: آمن بما فهمه من الوحي، حالَ ورود الخطاب الإلهي بما يُطابق فطرته، وتدبَّر آياتِه، فتبين له الحق بما فيه من حجج عقلية، واعتبر بما نبَّه عليه من موجودات في عالم الشهادة؛ ليقيسها على عالم الغيب، ثُمَّ عمم الأحكام، فقوة عقله جعلته يفهم الدليلَ، وأوجه الاستدلال، ويصل بما ظهر إلى فهم ما خفي، ويفقه دقائق الكلام، فحصل عنده إعجاز فكري؛ أي: إنَّ المعجزة خاطبت قدرته العقلية.
الثاني: احتاج زيادةً على الحجج العقليَّة إلى أمثلة مادية معاينة مشاهدة، ومعجزات محسوسة؛ لأنَّ عقله لا يقدر على القياس والتعميم، واستيعاب الخطاب والاعتبار، فكان لا بُدَّ أن يعاين الأدلة؛ ليقتنع بصدق الخطاب أولاً، ثم يؤمن، ثم يتبع ويلتزم.

ومَثَلُهما كمن يعرضُ عليهما عملية حسابية، فالأول يتصور الأعدادَ ويُجري العملية ذهنيًّا، أما الثاني فيُعطَى قطعًا مجسمة ليتصور الأعداد، كأن يعطى "5" قِطَع؛ ثم "7" قطع، ويُطلب منه العد، فيجمعها بضمها معًا، ثم يعدها؛ ليستوعب أن مجموعها "12"، وهذا ما يفعل مع الأطفال أول تعليمهم الحساب، ثم تنمو قدراتهم حيثُ يصبح العدد يتصور ذهنيًّا، دون الحاجة إلى مثاله المادي.

بل حتَّى الناس تتفاوت عقولهم في فهم الحجة، فهناك من يعي وجهَ الاستدلال من مجرد ذكر الدليل، ومنهم من يَحتاج إلى ضرب مثال واقع فعلاً؛ كيما يعي الدليل، فضلاً عن وجه الاستدلال.

فالوحي خطاب إلهي لقوانين العقل وبديهيَّاته المفطورة عليها، وعلومه النظرية لا تصادمه، فإن عجز عن فهم حجية الوحي، أحيل إلى مرحلة ما قبل البديهي وهي الإحساس، والثابت أنَّ العلم النظري أشرف من البديهي؛ لكون البديهي مشتركًا بين العقول، ولا فضل لأحد على الآخر فيه، بينما النظري تبرز فيه القدرات العقلية، من حدة ذكاء وقوة حافظة ودقة فهم، فكان خطاب الوحي للعلم النظري أرفع من خطاب الكون للعلم الضَّروري، فيكون المؤمن بالوحي بدايةً أعلى درجة (في قوة العقل) من المؤمن بالمعجزات الكونيَّة أولاً.

فالكون والوحي يُمثلان مصدرين أصليَّين للمعرفة، ثم يليهما مصادر تابعة هي ناتجة عنهما، مثل "التراكم المعرفي" إما الداخلي بالذاكرة، وإمَّا الخارجي (العلوم المدونة والأخبار المتناقلة).

فالأول: يكون بالتذكُّر، والثاني: بالتلقين، إمَّا بالقراءة أو السماع، وأصلهما المصدر الأصلي. 

والإلهام والتحديث والرُّؤيا حتى الحدس إنَّما هي من الخطاب الإلهي؛ حيث إنَّها خارجة عن طاقة الاستقبال؛ أي: وسائلُ تَلَقِّي المعرفة لا تصلُ إليها، وكذا الوسوسة، وكلها تدخل في المعنى اللغوي للوحي، فهو يشمل الإلهي والملائكي والشيطاني والنفسي، الذي لا يدري الإنسان مصدره، ولا يثبت عنده بمقدماته، إنَّما يجده في نفسه فقط.

والتصنيف الثنائي ينسب إلى بعض رموز مدرسة (إسلامِيَّة المعرفة)؛ حيث يصرح رواد هذا الاتجاه بأن الوحي والكون هما مصدرا المعرفة الإنسانية على نحو متكامل، وذلك منبثق من خلال منهجهم في الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي، وقراءة الكون.[11]

غَيْرَ أنَّ بعض استدلالاتِهم بالقرآن فيها نوع من التحكم في المعنى، خاصَّة حالة عدم رجوعهم إلى أهل التفسير، بل في بعض استعمالاتِهم يحصل نوع من الاضطراب، كأن يقال بأنَّ العقل والوحي هما مصدرا المعرفة المتكاملة ولا تصادم بينهما[12].

فبعضُهم استدلَّ على أنَّ النقل مصدرٌ للمعرفة بآيات منها: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، وحمل السمع هنا على أنَّه (النقل)؛ أي: الوحي[13]، ومعلوم أنَّ اصطلاح (السمع) أو (الأدلة السمعيَّة) على أنَّها النقل أو الوحي إنَّما هو اصطلاح حادث وليس بقُرآني، والسمع ليس إدراكًا، إنَّما قولهم الأدلة السمعية؛ أي: الوارد عبر السمع؛ أي: الخطاب الإلهي كلام رب العالمين، والكلام لا ينقل إلى العقل إلا عبر السمع، وقولهم بالعقل كمقابل للسمع؛ أي: للمبادئ والعلوم المحصلة من غير الوحي، فالسمع في القرآن هو القوة المُحسَّة للأصوات أو الأذن أو فهم الأصوات؛ لذا نجد الزمخشري يعقب على من استدل بتلك الطريقة في زمانه: وقيل: إنَّما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل... ومن بدع التفاسير أنَّ المراد كان على مذهب أصحاب الحديث، أو على مذهب أصحاب الرأي، كأنَّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأنَّ سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم، وكأنَّ من كان من هؤلاء، فهو من الناجين لا محالة، وعدة المبشرين من الصحابة عشرة لم يضم إليهم حادي عشر، كأنَّ من يَجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعْ باسم هذين الفريقين[14]، فكثير من الناس إذا أراد نصرة فكرته أو مذهبه، حَوَّل مصطلحاته إلى منطوقة متداولة قرآنيًّا، لكن بفهمه الخاص لها، لا بالفهم المتبادر من القرآن منها، فيتعامل مع المصطلح الحادث على أنه الحقيقة اللغوية للفظ، والمراد من اللفظ بالقرآن يفهم بسياقه ولحاقه، وأسباب نزوله وتفسير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للقرآن له وكلام الصحابة والتابعين، وبلسان من أنزل عليهم القرآن، ولا يفهم بالمصطلحات الحادثة.

التصنيف الثنائي للمصادر رده البعض بأنَّه لا يُعطي اعتبارًا للقضايا الرياضيَّة التي لا تدخل في نطاق قضايا الوَحي، ولا تدخل في نطاق الموجودات في الخارج، وكذلك قضايا الجمال والأخلاق والقانون[15]، ففيه نظر، وذلك من أوجه:

1 – هذه القضايا بعضها من مصادر تابعة، وهي التي ترِد عنها البديهيَّات وقوانين العقل، فالتقسيم الثنائي يستوعبها في مصادره التابعة.

 

2 - أمَّا استدلالهم بأن الرياضيات والأخلاق والقانون لا تدخل في كلا المصدرين، ففيه خطأ بالغ.

 

فالرياضيات مبنية على البديهيَّات والقوانين الأولية، وهذه البديهيات لا تقوم دون اتصال بالكون، كما بينَّا في تفسير آية [النحل: 78]، فالإنسان خلق خاليًا منها، وباتِّصاله بالكون عبر الحواس نُقل له ماهية الواحد وباقي الأعداد، ونقل له العلاقةُ بينها، كأنْ ينقل أنَّ "1"و"1" يشكلان "2"، فيجزم أن "1" نصف "2"، و"2" ضعف "1"، وبهذا تتشكل معارف تصبح بديهيات بتكرارها، ثم قوانين بعد التنظير لها؛ لأنَّها ثابتة لا تتغير، بعدها تنشأ منها معارف وقوانين منطقيَّة رياضية أخرى، لكن لو لم يتصل الطفل بالكون أولاً، بأنْ فَقَدَ الحواسَّ، هل كان يتشكل في ذهنه القوانين والمبادئ الأولية؟ هل كان يعرف أنَّ الواحد مع مثله يُساوي اثنين؟ بالطبع لا، وهذا مُجمع عليه.

أمَّا الأخلاقُ فهذا شطط من الباحث، فمن أين تعلمنا أنَّ هذا الفعل (عيب) (ومُخالف للأدب)؟ أليس من الاحتكاك بالنَّاس، وبدايةً من الوالدين؟ وهذا هو العالم الخارجي "الأنفس"، ونعتبره جزءًا من الكون، كما أنَّ هنالك خُلُقًا لا يكون له مصدره إلا الوحي، فالإسلام وجميع الرسالات الربَّانية جاءت لتربية الناس، وتصويب أفعالهم، وتعليمهم الأخلاق الحسنة، وبعض الأخلاق والقيم هي فِطرة في الأنفس، والعقل يسمى عقلاً؛ لأنَّه غريزة تَمنع عن القبيح من الأفعال وتلزم بالحسن، وهذا عالم الأنفس (جزء من الكون)، والجمال من الطبائع وهي صفات للأنفس، ومن الأخلاق ما يكون محبوبًا عند قوم ومذمومًا عند آخرين، وفصل الخطاب في معيار ذلك هو الوحي.

فتحصل عندنا ما جعل خارجَ المصدرين هو منهما أصالة، والمصادر التابعة يُمكن دمجها ضمن عالم الأنفس، غَيْرَ أنَّ الفصل يكون أجودَ في بيان الوسائل والطُّرق والمصادر؛ حيث الأمر بالنَّظر إلى الأنفس هو من جهة دلالتها المعرفية والعلمية كمصدر؛ أي: موضوع للدِّراسة والتأمُّل، والمصادر التابعة فيها هي حصيلة معرفية مُتراكمة من المصادر الأصلية، لكن لا وجودَ لها بالمصدرين الأساسيَّين بصورتها بالمصدر التابع، فمن الأمور الناتجة في الذِّهن ما لا وجود له بالأنفس ولا بالآفاق، كما لا وجود لها بالوحي، وهنا الأنفس بمفهوم الجسم والروح.

أما إذا أخذنا معنى النفس المدركة، فالعقل والنفس مُشتركان في الدلالة على شيء واحد هو اللطيفة المدركة بالإنسان، فيرجع بذلك المصدر العقلي إلى مصدر الأنفس؛ أي: الكون.

ويُعرف العقل عند الكثير أنَّه: قوة للنفس، بها تستعد للعلوم والإدراكات، وأنه نور روحاني، به تدرك النفس العلومَ الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو، وإلى أن يكمل عند البلوغ[16].

فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، فقيل: العقل والنفس والذِّهن واحد، إلا أن النفس سميت نفسًا لكونها متصرفة، وذهنًا لكونها مستعدة للإدراك، وعقلاً لكونها مدركة.

فقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ [البقرة: 235]، فالله هو العالم، والمعلوم هو ما في الأنفس من اعتقادات وإرادات؛ أي: من إدراكات، فكانت النفس هي الموضوع الذي أخذ منه العلم؛ أي: هي مصدر العلم الذي يعلمه الله تعالى ويحاكم به الناس، وهذا في الآية تحذير بأن الله يعلم كما نعلم نحن ما بأنفسنا.

وقوله تعالى في الآية السابقة: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [فصلت: 53] قد يكون ما يحصل من علوم داخلَ النفس، وهي القوانين العقلية والمبادئ الأولية الفطرية، وهي بذلك حجة على من وقعت في نفسه بعد تراكم المعرفة به، فعلمه بالدَّليل، وفهمه لوجه الاستدلال آيةٌ بينة، مُبيِّنة له أنَّ ما جاء من عند الله حقٌّ، فيكون ذلك حجة عليه، والجهل قد يكون عذرًا؛ فكان العلم لئلا يكون للناس حجة على الله، فالمصدر المعرفي الذي سيرى فيه الإنسان آيات الله هو المعارف الكامنة فيه، والتي يجد منها إرغامًا على الإقرار بوحدانية الله إلا أن يحيد.

من ذلك يُمكن القول: إنَّ المصادر التابعة عند من اصطلح عليها يُمكن ضمها إلى الأصلية قطعًا، وتقسيمنا للمصادر إلى أصلية وتابعة هو مُسايرة لكثرة التداوُل، فالبعض يَجعل المصادر التابعة أصلية، فيزيد على المصدرين أكثر، لكن ما خلصنا له أنَّها قسم من المصدرين لا قسيم لهما، وذلك بدلالة اللغة واستعمالات العلماء لها، وورودها في القرآن بهذا المعنى، فكان المصدران الأصليان الوحي والكون، ثم مصادر هي تابعة لهما ضمنيًّا، وسنفصل ذلك إن شاء الله.

 


[1] "نظرية المعرفة"، أحمد الدغشي، ص197.

[2] "الرؤية الإسلامية لمصادر المعرفة"، رياض جنزرلي، دار البشائر، بيروت، ط(1)، 1994، ص7.

[3] "نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة"، راجح الكردي، ص520.

[4] "نظرية المعرفة في القرآن الكريم"، أحمد الدغشي، ص197.
غير أنَّ الدكتور أحمد الدغشي هو نفسه لم يضبط المصطلح؛ حيثُ جمع المصادر مع الطُّرق، فقال هي: "الأصول التي يستقي منها الباحث المسلم معرفته، والأدوات التي يتعامل بها مع الظَّواهر المختلفة فيما يخص الوحي والحس والعقل"، فهو جعل الأدوات من المصادر، والمصادر طرقًا، بل حال عرضه لتصنيف المصادر كان الأوَّل: مصادر، والثاني: طرق تحصيل المعرفة؛ أي: أدواتها، والثالث: كيفية اكتساب المعرفة؛ أي: مراتب وأصول العلم للنفس، مع تبنِّيه للتصنيف الثاني.

[5] "مفاتيح الغيب"، الرازي، ج12، ص (92 - 93).

[6] "إحياء علوم الدين"، أبو حامد الغزالي، ج1، ص99.

[7] المرجع نفسه، ج3، ص6.

[8] المرجع السابق، ج3، ص13.

[9] "مجلة إسلامِيَّة المعرفة: حول النظام المعرفي"، محمود الرشدان، المعهد العالي للفكر الإسلامي، واشنطن، العدد (10)، 1997، ص (39 - 40).

[10] "تيسير الكريم الرحمن"، السعدي، ص719.

[11] "الجمع بين القراءتين"، طه جابر العلواني، ص 54.

[12] "إسلامية المعرفة"، المعهد العالي للفكر الإسلامي، م ع للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط(1)، 1987، ص 110.

[13] "نظرية المعرفة في القرآن الكريم"، أحمد الدغشي، ص 199 - نقلاً عن: مقالة في المعرفة، عدنان زرزور، ص (93 - 93).

[14] "الكشاف"، الزمخشري، ج2، ص 122.

[15] "الإسلام والعلم التجريبي"، عبد الله زروق، المركز العالمي لأبحاث الإيمان، الخرطوم، ط(1)، 1992، ص (42 - 45 ).

[16] "الكليات"، الكفوي، ص 617.

 

Powered by Vivvo CMS v4.7