تغذية الجانب الروحي والأخلاقي وعدم الاكتفاء بالماديات

بواسطة |   |   عدد القراءات : 1884
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
تغذية الجانب الروحي والأخلاقي وعدم الاكتفاء بالماديات

بقلم فضيلة الشيخ ميثم الفريجي


تميّزت الشريعة الإسلامية المباركة عن عموم الشرائع والقوانين الوضعية باهتمامها بالجانب الروحي، وتغذيتها للبعد الأخلاقي للناس، بلحاظ كون الانسان في أصل خلقته مركّبٌ من جسد وروح، وكلٌّ منهما بحاجة الى كمال يناسبه، لذا أولت الشريعة الإسلامية الاهتمام بهما معاً، ولم تهمل طرفاً على حساب طرف آخر، وإنَّما فتحت الفرصة أمام الجسد ليتكامل وينمو وفقاً لقوانين عادلة تحكمه، وتؤمّن له الصحة والسلامة، وتحميه من الاضرار والاعتداء، وتضمن له التعويض عن كلّ ما يصيبه بظلم، وعدوان، بل وخطأ بما سنته من قوانين الضمان والدية والقصاص.

كذلك راعت جانب الروح في كمال خاص بها وفقا لقوانين الاخلاق والسنن والآداب، لتتكامل النفس الإنسانية وتسمو في عالمها، وتتخلّى عن الرذائل، وتتحلّى بالفضائل، وتكسب حسن الخلق فأنه (نصف الدين)[1]، و(أفضل ما أعطي المرء)[2]، و(ما يوضع في ميزان أمرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق)[3]

وهذا ما أشار اليه السيد الطباطبائي، بقوله: (أن الدين ـ كما مر ـ لم يعتبر في تشريعه مجرّد الكمال المادي الطبيعي للإنسان , بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، وبنى أساسه على الكمال الروحي والجسمي معاً، وأبتغى السعادة المادية والمعنوية جميعاً) [4] 

والإسلام يعتبر الحياة الدنيا دار اختبار وتكامل، وهي فانية وزائلة لا محالة، وسينتقل الانسان منها ـ شاء ام ابى ـ الى دار البقاء والخلود عبر رحلة الموت، فأما ان يتنعَّم في الجنة، او يخلد في النار.

قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لو كَانُوا يَعْلَمُون) العنكبوت: 64 

وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور) آل عمران: 185  

قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود: 108

وإذا راجعنا مصادر التشريع الإسلامي ـ القرآن الكريم والسنة الشريفة ـ وأمعنا النظر فيها، فسنجد بوضوح أنَّها رسمت منهجاً متكاملا للإنسان في هذه الدنيا ليسير على طبقه، ملؤُه الخير والعدل والصلاح وحب الناس من خلال ما شرَّعته له من أحكام الحلال والحرام، والقوانين الرادعة عن كل ظلم ومنكر، وفي نفس الوقت رغَّبته في سلوك الطريق المستقيم، وأجزلت له الثواب والعطاء، ووعدته بجنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين يخلد فيها، ويتنعَّم، وفتحت له الطريق، وعبَّدته بالمستحبات والآداب والأخلاق حيث يتسامى، ويتكامل، ويرتفع بها عن كلّ ما لا يناسب هذا الكمال من الرذائل الدنيوية التي وضعت كمعرقلات في طريقه الى الجنة والنعيم الأبدي.

ومن هنا وجد الإنسان ضالته في الشريعة الإلهية بعد أن كان يفتقد البعد الروحي الغائب من شخصيته وكماله حيث كان يعيش همَّ ولذة الجسد لا غير كبقية مخلوقات الله تعالى ـ في هذا العالم ـ من غير بني البشر، وبعد ذلك صار هو المدافع عن هذه الشريعة، والمحافظ عليها، والحاث على احترامها وعدم تجاوزها، وتحكيمها في امور الناس عامة.

بينما القوانين الوضعية على كثرتها، وتنوّع مشاربها تفتقر الى تغذية الجانب الروحي والأخلاقي لتركيزها على البعد المادي فحسب من حياة الفرد والمجتمع، فلا تجد تشريعاً او قانوناً وضعياً يغذّي جانب الروح، ويمهّد لكمالها وديمومة الاخلاق فيها، بل حتى وان حاول الانسان ان يضع قانوناً وتشريعاً لذلك، فسيكون قاصرا حتماً عن وصول الهدف، فمن أين له العلم بما تتكامل به الروح ويسمو به الخلق ؟!، فلا سبيل له لمعرفة ذلك الَّا بالرجوع الى خالق الروح ومدبّرها، وهو الله تبارك وتعالى، فهو الذي خلقها ويعلم ما لها وما عليها، وهو أقرب اليها من حبل الوريد.

 قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق: 16  

والانسان مهما وصل بعلمه وقوته وماله يبقى قاصراً عن ادراك حقيقة الكمال المادي والمعنوي لوجوده الإنساني، (والقوانين الوضعية مهما ارتقت لا تحقّق ذلك على أكمل وجه، لأنها نتاج الفكر الإنساني والعقل البشري الذي عجز أول الامر عن مقاومة الشر، ولا أدل على هذا من كثرة التعديل والتغيير فيها لتلافي عيوبها وسدّ الثغرات التي تتكاثر في بنائها كلَّما زال زمن تطبيقها) [5] 

(والشريعة تلزم معتنقيها أن يتخلّقوا بالأخلاق الفاضلة، ومن تخلّق بالأخلاق الفاضلة ندر أن يرتكب جريمة، وهم بعد ذلك يعلمون أن الله رقيب عليهم، ومطلع على أعمالهم، وأنّهم مهما استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله وهو معهم أينما كانوا، وكلّ ذلك ممّا يدعو الى قلة الجرائم، وحفظ الأمن وصيانة نظام الجماعة ومصالحها العامة، بعكس الحال في القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا يطيعونها الّا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها، ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما، وهو آمن من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خلق أو دين، ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية، وتضعف الأخلاق ويكثر المجرمون من الطبقات المستنيرة، تبعا لزيادة الفساد الخلقي في هذه الطبقة، ولقدرة أفرادها على التهرب من سلطات القانون)[6]



([1] ) وسائل الشيعة : ج2 , ص221 , باب 104 ح 27

([2] ) نفس المصدر : ح 28

([3] ) أصول الكافي ج2  , ص99  , ح2

([4] ) تفسير الميزان:  ج 2 , ص 112

([5] )  المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي / محمد مصطفى شلبي / ص 20

([6] ) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي / عبد القادر عودة / ج 1 : ص 172

Powered by Vivvo CMS v4.7