تحريك الكتاب لعجلة البحث والمدارسة بين المسلمين وغيرهم
تحريك الكتاب لعجلة البحث والمدارسة بين المسلمين وغيرهم([1])
هناك ظواهر ثقافية بارزة تستوقف من يطالع ذلك التراث ـ الإسلامي منه على وجه الخصوص ـ ومنها : التداخل الواضح بين العلوم التي نشأت في ظل هذا التراث، حيث أن العلاقات التداخلية، والتكاملية، والتوالدية، هي السمة البارزة ، بل الغالبة على أغلب العلوم التي نشأت وتطورت في أحضان الثقافة العربية الإسلامية .
ولهذا التداخل أسباب كثيرة من أبرزها: أن العلوم العربية والإسلامية الشرعية ليست بمنأى عما يعتري العلوم الأخرى من إشكالات نظرية، وتحولات معرفية، وتساؤلات منهجية خاصة في تبادل الوظائف واستعارة المفاهيم، أو فيما تطرح من أسئلة نظرية وإشكالات معرفية ومنهجية خاصة، أو ما يتعلق بمرجعيتها المؤسِسة لها، ويُرجِعُ أغلب الباحثين في العلوم العربية أن سبب هذا التداخل ـ الرئيسي ـ هو: (وحدةُ المرجع الذي كان يجمعها، ألا وهو القرآن الكريم أو نص القرآن الكريم )([2]).
من المعروف والمسلّم أن معجزة كل نبي من الأنبياء (صلوات الله على نبينا وعليهم ) تخضعُ لأثنين من المقاييس:
1. أن تتناسب مع ما تبرع به أمته.
2. أن تتناسب مع الفترة الزمنية التي ستغطيها رسالته.
وأمة العرب هي أمة اللغة والنص ـ سواء الشعري منه أو النثري ـ ، لذا كان النص هو فخرهم وأحد مقاييس الكرامة والنُبل بينهم، وخير دليل على ذلك (المعلقات) التي علّقت على جدران الكعبة، وكذلك الأسواق الأدبية وغيرها .
ولذلك جاء الإسلام لهم بمعجزة تتناسب مع هذا المستوى من البراعة لديهم، فتحداهم بالنص واللغة، وعَجْزهم عن رده أمرٌ مسلّمٌ لا نقاش فيه، وهذا ما دعاهم إلى الايمان بالرسالة المحمدية، والتوجه إلى القرآن الكريم؛ لأنهم وجدوا فيه مالم يجدوه في غيره من النصوص ـ وقلنا أنهم أمة النص ـ ،هذا مضافاً إلى أن المرجعية الفكرية التي قادها النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تستفز الهمم لتوجيه العقول والقلوب، بل كل المنظومة المعرفية والاجتماعية نحو القرآن الكريم، بل أنه (صلى الله عليه وآله) كان يؤخر الاجابة عن بعض الأسئلة، أو الحكم على قضية، أو المباشرة في أمر، حتى ينزل عليه القرآن الكريم، مما خلق جواً عاماً منشّداً نحو القرآن الكريم، وإحساساً مترسّخاً أنه هو المرجع الوحيد والمتفرد الذي تفزع له الأمة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته .
وكانت تلك الشخصية العظيمة له (صلى الله عليه وآله) تعي أنّ هذا التوجيه لابد أن يتفاعل مع الظروف الموضوعية للأمة، والمستويات الذاتية للأفراد، فيكون ملائما للتقبل الفكري والمستوى العقلي العام والخاص، وهذا أسهم في خلق بيئات فكرية لها الأثر الكبير ـ فيما بعد ـ في تنوّع العلوم التي تفرعت في القضايا الإسلامية والدينية والقرآنية، فتنوعت البيئات واختلفت في حيثية واحدة رئيسية هي: ( الجهة التي تتعامل بها مع النص ) ولكن هذا لا يعني عدم التداخل بين تلك البيئات، أو عدم التفاعل بل على العكس، هو يعني انطلاق كل تلك البيئات من منطلقٍ واحدٍ، ومرجعٍ فاردٍ، وهو النص ـ القرآني ـ ،ولكن كلٌّ إلى اتجاهٍ معين، فنشأت بيئة المفسرين، وبيئة المحدّثين، وبيئة الفقهاء والأصوليين، وبيئة النحويين، والبلاغيين، وكثير غيرها .
فقد بدأت نواة تلك البيئات مع بداية استقرار المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، فمنذ صدر الإسلام توجه المسلمون إلى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الاستبيان عن تفسير القرآن الكريم، أو توضيح الوظائف التي يوجه لها النص، وتفسير مصاديق الخطاب، وخطوات العمل، ومبهم المعاني، وكُنه العبارات، ولطائف الإعجاز، وما وراء النص.
وينقل لنا المفسرون والمحدّثون الكثير من تلك الممارسات التي مارسها (صلى الله عليه وآله)، ونكتفي بنموذج واحد منها :
(روي عن ابن مسعود: أنه لما نزلت الآية ) الذين آمنوا ولم يلبسوا أيمانهم بظلمٍ (([3]) شَقّ ذلك على الناس.
فقالوا: يا رسول الله وأيّنا لا يظلم نفسه ؟ !
فقال (صلى الله عليه وآله) : إنه ليس الذي تظنوه، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: )إن الشرك لظلم عظيم (([4]) إنما هو الشرك)([5]).
بل نّقل لنا اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله ) باللغة ؛ لما تمثله من ترابط مع معجزة الإسلام الخالدة ـ القرآن الكريم ـ ، فقد نقل السيوطي(ت911هـ): (واعلم أنَّ أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى تعلّم الإعراب لأن اللَّحْنَ ظَهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي(صلى الله عليه [وآله]وسلم ) فقد روينا أن رجلاً لَحَنَ بحضرته فقال: ( أرْشدُوا أخاكم فقد ضلّ ) ... وقد كان اللَّحنُ معروفاً بل قد روينا من لفظ النبي(صلى الله عليه [وآله]وسلم ) قال: (أنا منْ قريش ونشأت في بني سعد فأنَّى لي اللحن)([6])، ولهذا ابتدأ المسلمون بالاهتمام بالقرآن الكريم وتناولوه بكل عناية، وتتبعوا غريب ألفاظه، ودقيق معانيه، ولكن لا بشكل يحقق مصطلح ( العلم ) بمفهومه الاصطلاحي، حتى جاء عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وآله)، فراعه ما لاحظَ من اللحن في ألسن أهل البصرة، فخاف على القرآن الكريم، فدخل عليه أبو الأسود ـ بعد معركة الجمل ـ فرآه مطرقاً مفكراً، فقال فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ فقال سمعت في بلدكم لحناً فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية ... ثم أتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم، وفعلٌ، وحرف... فكان أبو الأسود ضنينا بها ولا يطلع عليها أحداً([7]).
ومن هنا بدأت العلوم العربية الإسلامية بالبروز والتبلور، فرضتها عوامل مهمة مثل الحاجة، والتطور، لذا نستطيع تلخيص أسباب نشوء الدرس اللغوي عند العرب بسببين رئيسيين، أو عاملين واضحين :
الأول: العامل الديني: إذ لابد من شرح وتفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف، ليتمكن العرب والأعاجم من فهم النصوص الدينية .
الثاني: اللحن اللغوي: حيث تفشت ظاهرة اللحن اللغوي، بعد أن كانت قليلة شاذة؛ وذلك بعد دخول الأعاجم إلى الأمصار الإسلامية واختلاط الأعراب بهم، فأنحرف كلام العرب عن قواعده في مواضع اللحن الكثيرة مثل: خطأ الإعراب، واللغة، والمعنى، وغيرها([8])، وهذا كله يشكل تهديداً للقرآن الكريم، وبالتالي إلى الإسلام.
إذن فالدراسات أو العلوم الإسلامية واللغوية والشرعية على وجه الخصوص إنما نشأت خدمة للقرآن الكريم وفي القرآن وإلى القرآن وعن القرآن، فهي متعددة الغايات موحدة الهدف، وهذا ما أشار له القدامى قبل المحدَثين، فهذا ابن جزي الكلبي (ت741هـ) في مقدمة كتابه (التسهيل) يقول: (الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن: اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنا من العلوم، وهي التفسير، والقراءات، والأحكام والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان.
فأما التفسير فهو المقصود بنفسه وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه)([9]).
ويقول ابن خلدون (ت808هـ): (لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة ـ عند أهل النحو ـ بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما ـ قلناه ـ ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تعدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم؛ ميولاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتِيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين؛ خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشعر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين)([10]).
ومن المحدثين: الدكتوران تمام حسان، ومحمود السعران، وغيرهما، فيقول الأول: (ولكن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية العربية كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات وفلسفة منهجها، فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجاً لظاهرة كانت يُخشى منها على اللغة وعلى القرآن، وهي التي سمّوها (ذيوع اللحن) ) ([11]).
ويقول السعران: (نشأت الدراسات اللغوية عند العرب خدمة للقرآن الكريم، فعني المسلمون منذ القرن الأول الهجري بتدقيق الكتابة العربية وتقييد (الحروف) الكتابية بـ(الشكل)؛ صَونا لكلام الله عزوجل عن أن يصيبه التحريف)([12]).
إذن فقد هبّ العلماء العرب وغيرهم من المسلمين فرقاً وجماعات، كلٌ منهم يُغِيرُ على الجهل أو الفوضى من جهته، وناحية اهتمامه، وكل ذلك خدمة للكتاب، وتحريكا لعجلة البحث العلمي.
( [1] ) مقال للشيخ احمد جعفر الفاطمي.
([2]) دراسات لغوية في امهات الكتب اللغوية، د. إبراهيم محمد أبو سكين: ص47.
[3] الأنعام : 82.
[4] لقمان : 13.
[5]البيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي : ج4 ، ص175؛ وقريب منه في تفسير الطبري ، محمد بن جرير الطبري : ج7 ، ص296 .
[6]المزهر ، السيوطي : ج2 ، ص 396 .
[7]ظ: في إعراب القرآن ، د . زهير غازي زاهد : ص 14 ، وقد ذكر الكثير من العلماء أن أول تأسيس علم النحو على يد أبو الأسود الدؤلي بإشارة من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وآله) منهم السيوطي في المزهر : ج2 ، ص397 ، والعلامة حسن الصدر في تأسيس الشيعة : ص337 ، وذكر هناك مصادر كثيرة .
[8] ظ : مناهج البحث اللغوي عند العرب في ضوء اللسانيات الحديثة ، نسيمة نابي : ص14 .
[9] التسهيل لعلوم التنزيل ، محمد بن أحمد جزي الكلبي : ج1، ص9.
[10] المقدمة ، ابن خلدون : ج3 ، ص1268.
[11] اللغة العربية (معناها ومبناها)، د. تمام حسّان : ص11 .
[12]علم اللغة ، د. محمود السعران : ص324.