اطلالة على وصف القرآن الكريم ب(الحكيم )
بقلم: سماحة السيد فاضل الموسوي الجابري
هناك جملة من الآيات القرآنية التي ورد فيها وصف «القرآن» ب«الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادة صفة للعاقل، فما هو الوجه في ذلك ؟
قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿الٓرۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ يونس (1).
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ لقمان (2).
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ يس (2).
قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ آل عمران (58).
معنى «الحكيم» في اللغة:
جاءت لفظة: «الحكيم» في اللُّغة بمعانٍ متعدِّدَة ومتنوِّعة نأخذ منها ما يدلُّ على المقصود: فقد عرَّفها ابن فارس بقوله: «الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد، وهو المَنْعُ، وأوَّل ذلك الحُكم، وهو المَنْع من الظُّلْم» [معجم مقاييس اللغة (1/ 311)، مادة: «حكم».].
ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائقَ الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ. وقد حَكَمَ، أي: صار حَكِيماً. وَحَكَمَ الشيءَ وأَحْكَمَهُ، كِلاهُما: مَنَعَهُ مِنَ الفساد.
يُقال: حَكِّم اليَتيمَ كما تُحَكِّمُ ولدَك؛ أي: امْنَعْه منَ الفَسَادِ وأَصْلِحْه كما تُصلح ولدك. وكُلُّ مَنْ منعتَه مِنْ شيءٍ فقد حَكَّمْتَه وأَحْكَمْتَهُ.
وسُمِّيت حَكَمَةُ الدَّابة بهذا المعنى؛ لأنها تمنعُ الدَّابةَ مِنْ كثيرٍ مِنَ الجهل [لسان العرب (12/ 140، 143)، مادة: «حكيم».].
«ويُقال: حَكَمْتُ السَّفِيهَ وأَحْكمتُه، إذا أخذتَ على يديه، قال جرير:
أبَنِي حَنيفةَ أَحْكِمُوا سُفهاءَكم *** إِنِّي أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضَبَا» [معجم مقاييس اللغة (1/ 311).]
و الحكمة: ترجع إلى جذرين:
الجذر الأول: الحكمة في المعرفة وتسمى في اصطلاح الفلاسفة بالحكمة النظرية ، و تكون بمطابقة العلم للواقع، أو لأحسن و أقوم صورة ممكنة تقترب من مطابقة الكمال في الشيء.
الجذر الثاني: الحكمة في السّلوك وتسمى في اصطلاح الفلاسفة بالحكمة العملية ، سواء أكان خلقا، أم عملا جسديا، أم تصرّفا في قول، أو مشورة أو إفتاء، أو حكم، أو سياسة، أو إدارة، أو تجارة أو غير ذلك.
القرآن: هو هذا الكتاب المنزّل من لدن حكيم عليم، و الّذي نتدبّر آياته و سوره على قدرنا.
و الحكمة الّتي اشتمل عليها القرآن تظهر للمتدبّرين الباحثين، في دلالات جمله و فقراته، و آياته، و في سوره الّتي يلاحظ في كلّ سورة منها وحدة موضوع عجيب البناء، كشجرة ذات جذور، و ساق أو أكثر، و ذات فروع و أزهار و ثمرات، و زينات جماليّات رائعات، و هي تؤتي ثمرات جديدات كلّ حين بإذن ربّها، إذ يفتح اللّه على أذهان المتدبّرين لاكتشافها و استنباطها.
ومن إحكام آيات القرآن الحكيم:
• أنها جاءت بأجلِّ الألفاظ وأوضحها، وأبينها، الدّالةِ على أجلّ المعاني وأحسنها.
• أنها محفوظةٌ من التّغيير والتبديل، والزيادة والنقص والتحريف.
• أنّ جميعَ ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور الغيبية كلّها مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها نبي من الأنبياء، ولم يأت ولن يأتي علم محسوس ولا معقول صحيح يناقض ما دلت عليه.
• أنها ما أمرت بشيء، إلا هو خالص المصلحة، أو راجحها، ولا نهت عن شيء، إلا وهو خالص المفسدة، أو راجحها، وكثيرا ما يجمع بين الأمر بالشيء، مع ذكر حكمته وفائدته، والنهي عن الشيء مع ذكر مضرته.
• أنها جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ، الذي تعتدل به النفوس الخيرة، وتحتكم فتعمل بالجزم.
• أنك تجد آياتها المتكررة كالقصص والأحكام ونحوها، قد اتفقت كلها وتواطأت فليس فيها تناقض ولا اختلاف.
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب الحكيم، وهو تنزيل من حكيم حميد، والحكمة ظاهرة في بنائه، وتوجيهه، وطريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق.
و تظهر أيضا للمتدبّرين الباحثين في موضوعاته المنبثّة في ثنايا سوره، حين يجمعون نصوص كلّ موضوع، و يتدبّرونها تدبّرا تكامليا، فيكتشفون باستخراجها، و جمعها، و تدبّرها تدبّرا تكامليّا، عجائب و دلالات تكامليّة، لم يتوصّل إلى اكتشافها علماء القرون السّابقة، و يكتشفون أنّه لا تناقض و لا تضادّ بين نصوصه، على الرّغم من بثّها في مختلف السّور، و تنزيلها في أزمان متعدّدة في نجوم متفرّقة، و لو كان من عند غير اللّه لوجد الباحثون المنقّبون فيه اختلافا كثيرا. و يكتشفون التوافق التّامّ بين ما عرضه القرآن من بيانات عن أمور كونيّة، و بين ما توصّلت إليه حقائق العلوم، بعد جهود مضنية بذلها علماء البحث الكوني طوال قرون، في القضايا التي عرض القرآن بيانات عنها. و يكتشفون مطابقة شرائعه و تعليماته و أحكامه و وصاياه للناس، للفطرة الّتي فطر الرّبّ الخالق النّاس عليها، و يكتشفون أنّها أحكم و أعدل و أصلح و أنفع من كلّ ما يصنع النّاس لأنفسهم من قوانين و أنظمة مخالفة لما جاء فيه، ممّا تصوّروا أنّها صالحة نافعة، يدرك هذا المنصفون منهم.
إنّ هذه العناصر الحكميّة الّتي اشتمل عليها القرآن الحكيم، مع عناصر أخرى لم يكتشفها النّاس بعد فيه، تحمل بذاتها شهادة على أنّ هذا القرآن المجيد تنزيل من اللّه العزيز الحكيم الرحيم. إذ لو كان من عند غير اللّه لوجد النّاس فيه اختلافا كثيرا بين بعض آياته و بعض، و اختلافا كثيرا بين بياناته و حقائق العلم الإنساني، و بينها و بين ما هو الأحكم و الأعدل و الأصلح و الأنفع للنّاس من الشّرائع و الأحكام و تعليمات السّلوك في الحياة الدّنيا، و هذا من دلائل كونه معجزة للناس.
و بما أنّ القرآن يحمل بذاته الصّفات الّتي تشهد بأنّه كلام اللّه، و بما أنّه لم يصل إلى الناس إلّا بلاغا عن اللّه جلّ جلاله، من النبيّ الرّسول محمّد صلّى اللّه عليه واله و سلّم، فإنّ إتيانه به حجّة قاطعة و برهان ساطع، على أنّه رسول اللّه حقّا و صدقا.
اذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم بان للعلماء في علة وصف القرآن بالحكيم اراء ناتي بشيء منها :
يقول السيد الطباطبائي : وقد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ . (تفسير الميزان، ج ١٧، السيد الطباطبائي، ص ٦٢)
ويقول الشيخ إسماعيل حقي :
وصف القرآن بالحكيم فلتضمنه الحكمة وهي علمية وعملية والحكمة المنطوق بها هي العلوم الشرعية والطريقة والحكمة المسكوت عنها هي اسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها علماء الرسوم والعوام على ما ينبغي فتضرهم أو تهلكهم .( تفسير روح البيان، ج ٩، الشيخ اسماعيل حقي البروسوي، ص ٢٦٩)
ويقول اسماعيل بن محمد القونوي في حاشيته :
وصف القرآن بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم فيكون مجازا عقليا من قبيل إسناد المبني للفاعل إلى المفعول بواسطة حرف الجر إذ الأصل حكيم في أسلوبه أو الصيغة للنسبة كلابن وتأمر. (حاشية القونوى على تفسير الإمام البيضاوى ومعه حاشية ابن التمجيد، ج ١٦، اسماعيل بن محمد القونوي، ص ٩٠)
اقول : مع احترامنا لكل الآراء الا اننا نرى بأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي و عاقل و مرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، و يؤدّي إلى الصراط المستقيم . والله العالم .
السيد فاضل الموسوي الجابري
9 رمضان 1443هـ
الحوزة العلمية في النجف الاشرف