الفتوة في الإسلام: جهاد ، قيادة، هداية الإمام الجواد (عليه السلام) أنموذجا
بقلم: شيخ ميثم الفريجي
الفتوة في الإسلام: جهاد ، قيادة، هداية
الإمام الجواد (عليه السلام) أنموذجا
تعرف الفتوة في اللغة بأنّها مرحلة عمرية للإنسان فالفتى هو الشاب الطري الحدث، ولكن توسع هذا المفهوم بحسب تعدد استعمالاته ليشمل كل شاب تام بالغ ومدبر عاقل.
أمَّا في الاصطلاح الشرعي في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) فهو يطلق على كلّ من اتصف بخصال كريمة وان لم يكن في عمر الشباب، قال تعالى (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:60) وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف:60)، ووصف النساء العفيفات ـ وإن كن مملوكات ـ بالفتيات للتبجيل والتوقير، قال تعالى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور:33)، وقال تعالى: (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (النساء:25).
وبهذا اللحاظ أطلق القرآن الكريم على أصحاب الكهف وصف الفتية وهم لم يكونوا شباباً، ففي رواية الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال: (لرجل عنده: ما الفتى عندكم؟ فقال له: الشاب، فقال: لا، الفتى المؤمن، إنَّ أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عزَّ وجلَّ فتية بإيمانهم)
ورويت بطريق آخر عن سليمان بن جعفر الهمداني عنه (عليه السلام) قال فيها (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى)
وقد أعطى الأئمة المعصومون (عليهم السلام) قيمة كبيرة للفتوة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (ما تزيّن الإنسان بزينةٍ أجمل من الفتوة) وبيّنوا (عليهم السلام) عدة خصال كريمة يتضمنها معنى الفتوة كبذل المعروف للناس وكف الأذى عنهم واجتناب القبائح ونحو ذلك فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (بعد المرء عن الدنيّة فتّوة)وعنه (عليه السلام) قال (الفتوة نائل ــ أي عطاء ــ مبذول، وأذى مكفوف)، وعنه (عليه السلام) قال: (نظام الفتوة ــ أي تمامها وكمالها ــ احتمال عثرات الاخوان وحسن تعهد الجيران).
وقد تجلّت الفتوة بأكمل خصالها في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن بعدهم الأئمة المعصومين، ومحل كلامنا أمامنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب المعروف بالجواد (عليهم السلام)
وهو الإمام المعصوم المفترض الطاعة الذي حاز جميع خصال الكمال في الدنيا والاخرة
نعم قد يكون للإمام الجواد (عليه السلام) ما يميّزه عن بقية الأئمة المعصومين، فقد تأخرت ولادته زمناً جعل أتباع أهل البيت في قلق، ثم تقلد الإمامة وهو صغير السن، كبير العقل، خارقً في منطقه وحكمته وعلمه، ثم توفي وهو شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
وقد نهض بأعباء الإمامة بعد أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) وعمره من سبع الى تسع سنوات، وهو أمر استدعى التأمل والاستغراب حتى من قبل أتباع الإمام الرضا (عليه السلام) حين سئل عمَّن يخلفه، فأشار إليه وهو صغير. نعم! لقد عرفوا من خبر عيسى بن مريم وخبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) من قبل، وقد قص القرآن الكريم حكايتهما. لكن من طبيعة الإنسان الركون الى المشهود المحسوس، والتعود والحكم على المألوف. غير أنهم بعد أن رأوا آية الله حاضرة ناطقة، لم يكن أمامهم إلا التسليم
كان (عليه السلام) أفضل أهل عصره في العبادة والزهد والتقى، واكثرهم احاطة بالعلوم والمعارف والآداب، واكملهم عقلا، واكثرهم ذكاء، وأجلهم حكمة ونبوغ
وكان (عليه السلام) يتحرك وفق اطروحة رسالية بقيت على طول الخط مخالفة ومعارضة لأطروحة السلطان الحاكم في عصره غير مندمجة معها رغم كل التضييق والتشديد والترهيب والترغيب وهكذا ترسخت في أذهان شيعته ووصلتنا بهذا الوضوح , وكان (عليه السلام) مستمراً في خط أبيه (عليه السلام) في التخطيط الفكري والعلمي، والتوعية العقائدية والفقهية، ويجيب على المسائل ويرد على الشبهات ففي مجلس واحد أجاب عن ثلاثين الف مسألة, وكان (عليه السلام) مناظراً بارعاً مفحماً كل من يحاول احراجه علمياً وكل من يشكل على ضرورات الإسلام متجاوباً وملبياً لكل دعوة علمية نقاشية كاشفاً كل دعوة وبدعة بالدليل والبرهان, متحركاً على المسرح الاجتماعي متواضعاً مخالطاً للعوام والفقراء والمساكين والعلماء والفقهاء والعبيد ! كان في عصره أعلم الناس في الحلال والحرام, أنقذ الاسلام وحفظ كرامة المسلمين من تدخل الثقافات الكافرة
الإمامة المبكرة :
وهنا قد يُثارُ هذا الإشكالُ من قِبل بعض المشككين: وهو إنَّ الإمامة منصبٌ إلهيّ، وهو في الرتبةِ منصبٌ يتلو منصبَ النبوَّة - إنْ لم يكنْ يوازيه في الخطورة -، وذلك يقتضي أنْ لا تُناط مسؤوليةُ هذا الموقعِ الجليل إلَّا برجلٍ قد خَبِر الحياة، وصقلتْه السنون، وعكفَ ردحاً من الزمن يغترفُ من معارفِ الإسلام، التي يقصرُ العمرُ وإنْ امتدَّ عن الإحاطةِ بتفاصيلها ودقائق مبانيها ومقاصدها، فكيف يتسنَّى لصبيٍّ صغيرٍ أن يتعرَّف على هذا الكمّ الهائل من المعارف الدينية، والتي تشملُ الفقهَ، والكلامَ، والعقيدةَ، والتفسيرَ، والحديثَ، وغيرَها من المعارف، وكيف يُتاح لصبيٍّ صغير أنْ يكون واجداً للملكات العقلية والنفسية التي تقتضيها الزعامة والإمامة
وجوابه:
هذا الإشكالُ كما تُلاحظون لا يعدو الاستبعادَ فهو إشكالٌ ثبوتي لا نحتاجُ في مقامِ الإجابةِ عنه إلى عناءٍ يُذكر، بعد أنْ كان لظاهرةِ الإمامةِ المبكِّرة جذورٌ في تاريخِ الرسالات، فقد أكَّد القرآنُ الكريمُ أنّ يحيى بنَ زكريا (عليه السلام) تحَّمل أعباءَ النبوَّةِ وهو في عمرِ الصبي، قال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) مريم: 12، وكذا في شأنِ عيسى بنِ مريم (عليه السلام)، والحوارِ الذي وقعَ بين بني إسرائيل وبين السيدة مريم، حين جاءت برضيعِها تحملُه، فأشارت إليه أنْ كلِّموه ولا تسألوا مِن أين جئتِ بهذا الصبيِّ، فقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) مريم: 29 - 31.
وفي كلا الموردين نوَّه القرآنُ الكريم إلى أنَّ مَن منَحهُ اللهُ تعالى مقامَ النبوَّةَ والحكمَ في عمر الصبى قد منحَه قبل ذلك أو في عرضِه العلمَ بالكتاب. كما هو مفادُ قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) مريم: 12وهو مفاد قوله تعالى على لسان عيسى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) مريم: 30.
فظاهرةُ الإمامة المبكِّرة لها جذورٌ في تاريخ الرسالات، ولعلَّ أحدَ مناشىءِ تأهيلِ مَن هُم في عمر الصبى لمقامي النبوة أو الإمامة هو التأكيدُ على انَّ مثل هذه المقامات لا يصلُها أحدٌ بجُهدِه وإنَّما هي مَلَكة تُمنحُ من عند الله تعالى ابتداءً، فقد يصلُ المرءُ إلى أرذلِ العمر، ويشتغلُ بطلب العلمِ طيلةَ عمره، ويخبُرُ الحياةَ فلا يتأهلُ لهذه المَلَكة، ثم يتأهلُ لها مثلُ عيسى المسيح وهو في المهد فيفوقُ في أهليَّتِه أكثرَ الأنبياء ليكون في مصافِّ أولي العزم منهم رغم انَّ عمره المساوقَ لعمرِ نبوَّتِه لم يمتد لأكثرَ من ثلاثةِ عقود بعدها توفَّاه اللهُ إليه ورفعه إلى سمائِه.
فتىً في عمرِ الصبى يجلسُ بين يديه ذوو السنِّ من الفقهاء والمتكلمين ممّن تتلمذوا على يد الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) فيسألونَه وهو يجيبُ دون تريُّثٍ أو إعداد حتى احصى بعضُ الرُواة - كما في الصحيح - ثلاثينَ ألفَ مسألةٍ كانت مجموعَ ما ألقي على الإمام من الأسئلة في إحدى المواسمِ وكانت اجاباتُه كلُّها مطابقةً لما كانوا قد تلقَّوه من اجاباتِ الصادقين من آبائه (عليهم السلام).
إذا اتَّضحت هذه الحقائقُ يتضحُ أنَّ ظاهرةَ الإمامةِ المبكِّرة لم تكنْ مغمزاً في العقيدةِ الإمامية، بل كانت برهاناً يُضافُ إلى البراهين الدامغةِ على حقانيةِ المذهبِ الإمامي، فقد وجد كلُّ من عاصرَ الإمامَ الجواد (عليه السلام) ما نشأ عنه الإذعانُ بتميِّزه وتفوِّقه وأنَّه كان –بحق - امتداداً لرسول الله (صلى الله عليه واله) في سجاياه وعلمِه واتصالِه بالغيب، وما كان يظهرُ على يديه من الكرامات التي لا يتفق صدورها إلا ممَّن اجتباه الله لدينه، ولهذا أذعن الشيعةُ بإمامته، رغم انَّ أبناء الرسول (صلى الله عليه واله) كانوا كثيرين لكنَّهم لم يقبلوا بإمامة أحدٍ منهم من شيوخ البيت النبوي ممَّن كان قد عاصره، وذلك مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّ الأمرَ لم يكن خاضعاً للعاطفةِ والمحاباة وإنَّما كان خاضعاً للنصِّ والبرهان.
ولم يزل الامام الجواد (عليه السلام) يسكن المدينة المنورة حتى ملك المعتصم العباسي ـ العدو اللدود لآل البيت (عليهم السلام) ـ فاشخصه الى بغداد ، فدخلها ولقي بها صنوف الإيذاء من المعتصم وزبانيته حتى دس له السم وقتله ببغداد في آخر شهر ذي القعدة ، وقيل في الخامس من ذي الحجة سنة ٢٢٠ ه ، وقيل سنة ٢١٩ ه ، فدفن بها في مقابر قريش عند مرقد جده الإمام الكاظم (عليه السلام)، فأصبح مرقده من البقاع المقدسة لدى الشيعة والمسلمين في العالم، يقصدونه من شتى بقاع المعمورة للتقرب به الى الله وقضاء حوائجهم.