وقفةٌ مع آياتٍ ومصداق (عندما تكون الفضيلةُ مثلبةٌ والرذيلةُ منقبةٌ)
وقفةٌ مع آياتٍ ومصداق
(عندما تكون الفضيلةُ مثلبةٌ والرذيلةُ منقبةٌ)
يحدثنا ربنا عزوجل في القران الكريم عن معاناة انبياءه مع اقوامهم، ولكن مصيبة ومعاناة نبيه لوط (على نبينا واله وعليه الصلاة والسلام) كانت الأشد والاعظم اذا تدبر فيها المتدبر؛ فأي مصيبة اعظم من ان يعيش الانسان في مجتمع خرج عن الفطرة الحيوانية فضلا عن الإنسانية؟
هل في الحيوانات ما يأتي فيه الذكور الذكور والعكس بالعكس؟
انها أفعال لم يأتها احدٌ من الناس او الحيوان قبلهم، ﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٨ أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ﴾ [العنكبوت 28_ 29]
وهنا تكمن مصيبة أخرى، وهي:
ان هذا المجتمع الذي انقلب على الفطرة انقلبت عنده كل الموازين فصار يرى طهارة ونبل ومروءة النبي لوط واله يراها مثلبة عليهم!
يعيرونهم بها، ويحاصرونهم في دارهم ويمنعونهم عن التواصل مع العالمين ﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ٧٠﴾ [الحجر: 70] !
بل ويجعلونها سببا كافيا لإخراجهم من دارهم ومن بلدتهم!
والسبب: لأنهم اناسٌ يتطهرون ويتعففون ويبتعدون عن الارجاس والرذائل!
هل يمكن ان يصل الانسان الى هذه المرحلة من انقلاب البديهيات؟
نعم يمكن والدليل: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ٨٢﴾ [الأعراف: 82]
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ٥٦﴾ [النمل: 56]
ولكن لمن كانت الغلبة في نهاية الامر؟
كانت الغلبة لله عزوجل وللفطرة والطهارة ﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ٨٣ وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ٨٤﴾ [الأعراف 84].
اما المصداق الذي وجدناه لهذه الآيات:
ان هذا المثل القراني يجعلنا نفهم أفعال الكثيرين ممن انقلبت عندهم الموازين حتى صار التفاخر بسب آل محمد (صلوات الله عليهم اجمعين) والشماتة بقتلهم والانتصار لأعداء الدين ...كل تلك مناقب يفخرون بها ويعددونها بلا أدنى حياء؛ انه حقاً انقلاب الموازين.
فقد روى ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن بن السائب قال:
كان من اوفى أصحاب الحجاج إليه رجل يسمى: عبد الله بن هانئ ـ وهو رجل من بني أود ـ وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته. وكان دميما شديد الأدمة مجدورا في رأسه عجر مائل الشدق أحول قبيح الوجه شديد الحول.
قال له الحجاج يوما:
والله ما كافأتك بعد على صحبتك لي.
فأرسل إلى (أسماء بن خارجة) سيد بني فزارة:
أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك.
فقال لا و الله و لا كرامة.
فدعا الحجاج بالسياط، فلما رأى الشر قال: نعم أزوجه.
ثم بعث الحجاج إلى (سعيد بن قيس الهمداني) رئيس اليمانية:
زوج ابنتك من عبد الله بن أود.
فقال: و مَن أود؟ لا و الله لا أزوجه و لا كرامة.
فقال الحجاج: عليّ بالسيف.
فقال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم فقالوا: زوجه و لا تعرض نفسك لهذا الفاسق. فزوجه.
فقال الحجاج لعبد الله:
قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان و عظيم كهلان و ما أود هناك.
فقال عبد الله: لا تقل أصلح الله الأمير ذاك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب.
قال الحجاج: وما هي؟
قال:1ـ ما سُبَّ أمير المؤمنين عبد الملك في نادٍ لنا قط.
قال الحجاج: منقبةٌ والله.
2ـ قال: وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد وكان والله ما علمته امرأ سوء.
قال الحجاج: منقبةٌ والله.
3ـ قال: ومنا نسوةٌ نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص ففعلن.
قال الحجاج: منقبةٌ والله.
4ـ قال: وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة.
قال الحجاج: منقبةٌ والله. انتهى
فقد تفاقم الأمر بعد قتل الحسين صلوات الله عليه واله و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي صلوات الله عليه واله و موالاة أعدائه و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم و أكثروا من الغض من علي صلوات الله عليه واله و عيبه و الطعن فيه و الشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج ـ يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج.
فتضاحك له الحجاج و قال: للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا .
هذا هو حال الأمم إذا انقلبت عندها الموازين وحكمها مقلوبي القلوب والعقول، وهو مرض لا يصيب الأمم فقط بل حتى الافراد، فمن صار يرى الفضيلة رذيلة لابد ان يراجع نفسه وينتقذها من هذا الداء حتى لا يستشري في نفسه فيرى المعروف منكرا والمنكر معروفا.