محمد شحرور والحشد الشعبي: الحلقة الأخيرة
بقلم الاستاذ علي هذيلي
الحلقة الاخيرة
بدءاً لا علاقة بين شحرور والحشد، من قريب أو بعيد، ولكني وجدتهما يتقاطعان في نقطة معينة، خارجة عن شخصيتهما، وليس لهما أي علاقة بها، هي انه كلاهما متهم، فالأول متهم بأنه إسلامي، والثاني متهم بأنه إيراني، لذا فقد عطفناهما على بعضهما، ونحن نحاول دفع التهمتين وإعادة الأمور إلى نصابها... نعم التهمة هي العامل المشترك بينهما، ثم إنهما يفترقان، بعد ذلك، ليذهب كل منهما في طريقه، لذا فهما أقرب إلى الخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبداً، لا سيما أن الحشد الشعبي تشكيل جهادي عراقي، المرجعية الدينية هي التي شكلته بفتوى الجهاد الكفائي، والتحق به ما يقارب من (140) الف عراقي أغلبهم شيعة وأقلهم سنة وأكراد وتركمان ومسيح، أما شحرور، فيرى أن الدين ليس من وظيفته أن يحشد الناس على المعتدين والإرهابيين، بل وظيفته أن يترك الناس وشأنهم، فهو مجرد علاقة شخصية بين اثنين أحدهما دان والآخر عال... هذه المقدمة أراها ضرورية لمن يسأل عن طبيعة العلاقة بين الإثنين؟ مع التنويه إلى هذا أن المنشور يمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة المنشورات التي كتبناها عن شحرور، وقد كانت غايتنا إزالة الإلتباس الكبير الذي وقع فيه بعض الأخوة عندما عدّوا شحرورا هذا مفكراً إسلامياً كبيراً، فهو الذي جدّد الخطاب، وإعاد النظر، وحرّك المياه الراكدة، وخبطها بوجه أولئك التقليديين الذين لا يؤمنون بالحداثة والتجديد والعقل والتنوير.
بعد التوكل على الله، نقول: ثمة قضية مهمة يجب إزالة إلتباسها، قضية إذا ما حركها من يؤمنون بشحرور، فإنها ستنسف كل ما قلناه سابقا عن ضرورة التفريق بين المفكر الإسلامي وبين الآخر غير الإسلامي، طبعاً، مع أحقية كل منهما في أن يكون ما يشاء، أعني تلك النصوص التي يصرح فيها شحرور بأن الإسلام عام وشامل وصالح لكل زمان ومكان، ومن يقول هذا الكلام لا بد أن يكون إسلاميا، وإليك بعض هذه النصوص:
1- يقول محمد شحرور: نحن لسنا أمة إسلامية، بل أمة محمدية، تتبع ملة محمد، ونسمى بذلك مؤمنين، لأن الإسلام أشمل من ذلك وأوسع من أن يتم تضييقه في تعاليم الشريعة المحمدية، كما فعلت المنظومة التراثية، إذ جعلته محليا مرحليا وظرفيا، مع أنه دين عالمي شمولي أبدي يكفل الحرية لكل الناس، على اختلاف مللهم ومستوياتهم المعرفية، ويستوعبهم جميعا على تعدد مشاربهم وتغاير توجهاتهم (ينظر: الدين والسلطة، محمد شحرور: ص16).
2- يقول شحرور: الإسلام دين عالمي، وسع برحمته كل التشريعات الإنسانية واستوعبها، لأنه الفطرة التي جبل عليها الإنسان وتطبيقاته الحاضرة عبر كل أرجاء المعمورة بمختلف أنماطها التي تدخل ضمن دائرته دون أن تخرج منها (الدين والسلطة، ص18).
3- يقول شحرور: عالمية الرسالة المحمدية تتمثل في شمولها كل جوانب التشريع الإنساني، من خلال نظرية الحدود الخاصة بالتشريع التي سمحت لها بأن تكون شاملة واستحقت بها أن تكون خاتمة الرسالات الألهية كلها، لأن الحدود الواردة في الرسالة تجعل منها رسالة قابلة للتطبيق في كل التشريعات الإنسانية عبر مر العصور والأزمنة، لاستيعابها كل التشريعات الإنسانية مهما تعددت وأختلفت (الدين والسلطة: ص110).
لكي نفهم هذه النصوص علينا أن نعيدها إلى سياقها الذي قيلت فيه، ونعني بالسياق هنا المرجعية التي ينطلق منها المفكر، فنحن معنيون بالمرجعية أكثر من عنايتنا بظاهر الألفاظ، والمرجعية نكتشفها من مجمل الخطاب، لا من هذا النص القصير أو ذاك، وإلا فهي على هذا الوضع تشبه قوله تعالى: (ويل للمصلين)، بمعنى أن السياق أو الإطار العام الذي ينطلق منه مفكر "ما" هو المرجع لفهم كلماته التي قد تبدو على غير ما هي عليه. وهنا تكمن مشكلة الباحث والقارئ، أي في الاستقطاع، استقطاع النصوص من سياقها، والباحث، اي باحث، مضطر إلى ذلك، لاثبات ما يريد اثباته، أي أن الباحث، سواء كان أميناً أم غير أمين، هو مضطر لأن يستقطع من النص ما يثبت قضيته، وإلا فمن غير المعقول أن يستشهد بنصوص الكتاب كلها- على فرض انه يدرس كتابا ما- ليثبت أنه أمين وموضوعي، بل هو يأخذ عينات، ثم يعمم، هكذا هي طبيعة الأمور.
وإذا كنت تسأل: إذن كيف أتأكد من صحة النص المُستقطع، اعني كيف أتأكد من مغزاه؟ أقول:
ثمة اثنان من الوسائل لتحقيق ذلك:
الأولى: أن يكون الباحث أمينا وموضوعيا، وهو يدرك انه يقتبس سياقا لا نصا، وإن كان مضطرا لأن يستشهد بالنص، لا بالسياق.
ولأن الأمانة قضية مشكوك فيها، لذا على القارئ ان يلجأ إلى الوسيلة الثانية: وهي أن يعود إلى الكتاب الأصلي نفسه، ليتأكد من صحة القراءة وأمانتها وموضوعيتها، وهذا ينطبق على كل الكلام الذي قلناه بحق شحرور، فقد قدمنا أن شحرور مفكر علماني يفصل بين الدين والدولة، ولكنه يمرر علمانيته عبر التلاعب بالالفاظ، واختراع القواميس، والكذب والافتراء، ومن ذلك قوله: ان المنظومة التراثية جعلت الاسلام محليا مرحليا ظرفيا، والحال انه ليس ثمة فقيه اسلامي واحد قال ذلك، فقط العلمانيون هم من عد الاسلام والقرآن ظرفيا مرحليا، لا يتجاوز حدود الزمان والمكان الذي نزل فيه. مع ذلك، فإن النصوص السابقة تثبت عكس ما ذهبنا إليه، فكيف نوفق بين علمانية الرجل وظاهر تلك النصوص؟ ماذا يعني شحرور بأن الإسلام دين عالمي شمولي أبدي؟ هل يعني أن على الحكومات أن تتبنى الإسلام، وتطبق الشريعة؟ هل يعني أن الإسلام هو الحل؟
إطلاقا، هو لا يعني ذلك، لأنه يدّعي أن الحكومات، شرقية كانت أو غربية، كلها تطبق الإسلام، وتعمل بالشريعة، فالدستور الأمريكي، والبريطاني والأسباني والفرنسي والكندي والسويدي والروسي والألماني والدنماركي والإسرائيلي والكوري والصيني والهندي والياباني والمكسيكي والاكوادوري والأرجنتيني والكوبي والصربي والأوكراني ... دساتير هذه الدول كلها طبقت الشريعة الإسلامية، ومن ثم فنحن لسنا بحاجة إلى رفع شعار: الإسلام هو الحل، أو شعار: الإسلام يقود الحياة، لأن ذلك هو الحاصل فعلا، بل ليس من حق أحد أن يرفع هذه الشعارات، ومن يفعل ذلك، فهو كذاب وصولي مخادع وتكفيري وارهابي، يريد أن يتسلط على الناس باسم الدين، ويمارس هوايته في استغفالهم، والتحكم بعقولهم، والاستئثار بخيراتهم. ثم إن القضية- من وجهة نظره- سالبة بانتفاء الموضوع، وهي انك تريد أن يكون الإسلام هو الحاكم، كيف ستفعل ذلك، والإسلام هو الحاكم، فعلا، في بقاع الأرض كلها؟! أما طريقة شحرور في إثبات ذلك فهي كالآتي: يجمع المحرمات التي وردت في سورة الانعام، ثم يمر عليها واحدة واحدة، ليثبت أن التشريعات الغربية حرمتها هي الأخرى، ويستنتج من هذا ان التشريع الإسلامي هو تشريع عام وعالمي وشامل وأبدي:
1- (ألا تشركوا بالله شيئا)... يقول شحرور: لا نجد أي تشريع لأي دولة في العالم عرض الوحدانية للإستفتاء أو التصويت، من أي نوع كان (ص164)
2- (وبالوالدين إحسانا)... يقول شحرور: بر الوالدين قيمة مغروسة في الفطرة الإنسانية ومعترف بها في كل العالم، وفي كل المجتمعات الإنسانية (ص165).
3- (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم)... يقول شحرور: لا يوجد أي تشريع في العالم يسمح بقتل الأولاد، لأي سبب كان (ص167).
4- (لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)... يقول شحرور: لا نجد أي دولة من الدول تسمح بممارسة الجنس بشكل علني.. ولا يوجد أي دولة أخضعت الفاحشة العلنية للتصويت أو سمحت بها في تشريعاتها (ص168)
5- (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)... يقول شحرور: كل قوانين دول العالم في ايامنا تعتبر قتل الآخر بغير حق جريمة يُعاقب عليها (ص 169).
6- (ولا تقربوا مال اليتيم)... يقول شحرور: كل تشريعات العالم المعاصر تكرم اليتيم بمختلف الأنواع والطرق العصرية المتاحة (ص170)
7- (وأوفوا الكيل والميزان)... يقول شحرور: تضع الدول العالم جميعها مواصفات لكل السلع المنتجة، ومن خلال هذه المواصفات تم وضع مختلف التشريعات الاقتصادية في العالم التي تمنع الغش في الميزان (ص170)
8- (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)... يقول شحرور: كل دول العالم المعاصر تعاقب على شهادة الزور.. ومضمون هذه الآية مذكور في معظم دساتير العالم (ص171).
9- (وبعهد الله أوفوا)... يقول شحرور: كل التشريعات الإنسانية في العالم تطالب الناس بالإلتزام بالعهد واحترام الميثاق الذي يؤسسه (ص172).
10- (حرمت عليكم أمهاتكم)... يقول شحرور: محارم النكاح موجودة في كل مجتمعات العالم الراهن سواء على المستوى الأخلاقي أو التشريعي (ص173).
11- (أحل الله البيع وحرم الربا)... يقول شحرور: إن الربا بمفهومه المذكور في التنزيل الحكيم ممنوع في كل دول العالم (ص174)
12- حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)... يقول شحرور: لا يوجد في كل دول العالم تشريع يمنع أو يجيز أكل نوع معين من اللحم، ولكن معظم تشريعات العالم تمنع أكل الميتة، وهناك شعوب لا تأكل الدم المسفوح والخنزير (ص174)
13- (الإثم والبغي بغير الحق) ... ليقول شحرور: لا توجد بلد في العالم يجبر الإنسان على الأفتراء على الله بالكذب أو الشرك بالله في تشريعاتها (ص175).
14- (أن يقولوا على الله ما لا تعلمون) ... الى اخره
يقول شحرور: يحق لنا هنا أن نفتح ملف الفقه الإسلامي المتوارث لنرى كم فيه من المحرمات التي تمت اضافتها إلى محرمات الله؟ فإذا كان البرلمان البريطاني، مثلا، قد حلل محرما واحدا بقوننته، فكم ياترى من حلال قام فقهنا الإسلامي بتحريمه؟ وكم من حرام أضافه للمحرمات؟ (ص175)
طبعا- من وجهة نظر شحرور- فإن القرآن لا تشريع فيه، بل الموجود فيه هو المحرمات فقط، وهذه المحرمات موجودة في كل دساتير العالم، إذن فالإسلام عام، شمولي، عالمي، وأبدي، وليس من حق احد أن يدّعي خلاف ذلك، أو يرفع شعار تطبيق الشريعة، أو قل: تطبيق المحرمات، لأنها مطبقة، فعلا، في الشرق والغرب، علما أن الخمر- عند شحرور- ليس من المحرمات، بل هو من المنهيات، لذا تستطيع ان تشرب الخمر، كالتدخين، فقد تنهي عنه، ولكنك لا تستطيع تحريمه. يقول شحرور: (أغلب السلطات في العالم، ديمقراطية كانت أو دكتاتورية دينية أو علمانية، مستبدة أو غير مستبدة، ذات حزب واحد أو متعددة الأحزاب، ملكية، أو جمهورية، أو إمارة تحترم الحاكمية الإلهية، ولا تتعدى المحرمات التي حددها الله عز وجل في محكم تنزيله، لأن هذه المحرمات لا علاقة لها بنوع السلطة أو بنوع الدولة، لأن الأمر سيان بالنسبة لها، سواء بالنسبة لدولة عظمى كالصين، أو دولة صغيرة مثل موناكو، وفي هذا تجل وتحقق لخاتمية الرسالة المحمدية وعالميتها- ص163، وكذلك ص127).
لهذا فهو يشن هجوما عنيفا على كل من يتجرأ، ويطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويعده ارهابيا وتكفيريا، وللتأكد من ذلك، يقول شحرور: (يكفينا النظر إلى التشريعات في كل دول العالم على اختلاف توجهاتها السياسية والإيديولوجية لنجد أن 99% منها تدخل في إطار الحاكميات الثلاث، لندرك من خلال ذلك مدى مصداقية هذه الآية على أرض الواقع بتحقق العالمية لدينه (عز وجل) بشكل كامل فعلا، وليس قولا فقط، مما يدفعنا للتكرار، مرة تلو مرة، أن رفع شعار "تطبيق الشريعة الإسلامية" المروج له من قبل حركات الإسلام السياسي ما هو إلا هراء خاطئ، ووسيلة للتحكم في رقاب الناس ومصائرهم، ويجب إلا يذكر هذا الشعار كبند في أي دستور، لأي دولة كانت.. ينظر: الدين والسلطة: ص201- 202).
إلى هنا يبدو أن شحرور يتحدث بمنطق عمومي، يؤيد فيه الدول الغربية الرأسمالية لأنها طبقت حدود الإسلام، ويدين فيه الدول الدينية، لأنها لم تطبق حدود الإسلام!!!
ولأن الذين وظفوه لأداء هذه المهمة لا يرضيهم العموم، لأنه لا يمس أحداً، فقد تقدم شحرور خطوة أخرى، وانتقل من التلميح إلى التصريح، فقال بصريح العبارة:
(وهذا ما دفع الفلاسفة إلى إلغاء الدين تماما، من كل نظرياتهم المتعلقة بالعقد الإجتماعي والعلاقات السياسية فيه، والدعوة إلى دولة علمانية بالمفهوم الأوربي.. فأي دولة ذات سلطة دينية كالجمهورية الإيرانية حاليا، أو دولة ذات سلطة إيديولوجية كالشيوعية سابقا، تعد فكرها هو الصحيح، وهي وحدها المالكة للحقيقة دون سواها، لأن هذه الدولة بسلطتها القمعية مهما كانت- دينية أو اديولوجية- انما تسعى إلى تحقيق نمطيتها الفكرية الخاصة التي تضمن من خلالها ديمومتها. فالسلطة الطاغية لها سلطة قمعية، وهي دولة أمنية تدار بالتعليمات والتوجيهات، بحيث يصبح الممنوع فيها واجب الإحترام، وهو الأساس، وعلى أفراد المجتمع أن يدركوا جيدا، ما هو الممنوع، وما هو المسموح؟ أما الدولة المدنية التي تقوم على سلطة الضبط، فتدار بالقانون، وفيها المسموح هو الأساس، وعلى المواطن أن يستعلم عن الممنوع- الدين والسلطة: 284- 285)
إذن، فقضية شحور يمكن تلخيصها بالآتي:
إن الإسلام دين عالمي وشامل وأبدي، وبما أن برلمانات العالم الغربي الديمقراطي كلها لم تعارض في دساتيرها أي من محرماته، فهذا يعني، ضمنا، أنها دول إسلام، لهذا ليس من حق أحد أن يدعو لدولة إسلامية، لأنها قضية سالبة بانتفاء الموضوع، وبما أن ايران فعلت ذلك، فهي دولة طاغوتية ارهابية، تريد أن تتسلط على الناس باسم الدين. والغريب أن عداء شحرور للدين وصل إلى درجات مخيفة، إذا أنه يعد اي دولة علمانية تمارس ممارسات دكتاتورية استبدادية مع الشعب يعدها دولة دينية، لأن الدولة الدينية عنده هي مقياس الظلم والطغيان والاستبداد، فالإتحاد السوفيتي السابق مثلا، عند شحرور: (كان دولة طاغية تجبر الناس على اتباع ايديولوجيتها بالقوة والعنف، فاقتربت من أن تكون دولة دينية، علما أن القائمون عليها ملحدون- الدين والسلطة: 303).
من هنا، وبناء على ما تقدم، فنحن ندفع هذه التهمة- اسلامية محمد شحرور- ونُبرئ ساحة الرجل منها، وإذا كان ما قلناه مقنعا لمن يريد ان يقتنع، فإن دفع التهمة الثانية- إيرانية الحشد- يكاد يكون صعبا ومستحيلا إزاء مجاميع من الهمج الرعاع الذين اغلقوا عقولهم، وفتحوا آذانهم لما يقوله الإعلام الامريكي والوهابي والبعثي، وهم غير مستعدين لإعادة النظر، أو مجرد الاستماع لما يثبت خلاف ما يقوله كبيرهم الأحمق، ذلك الذي علمهم الكذب والافتراء على اناس قدموا أرواحهم، وأعز ما يملكون من أجل الإسلام والعراق...