التفسير حسب تأويلات الباطنية
تطلق الباطنية ويراد بها الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ع بعد رحيل أبيه ، وعرفوا بالباطنية لأخذهم باطن القرآن دون ظاهره.
وقد أشبعنا البحث حول عقائد الإسماعيلية في كتابنا « بحوث في الملل والنحل » و قلنا بأنّ إسماعيل بن جعفر ع بريء من هذه الوصمة ، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه ، نظراء : المغيرة بن سعيد ، وبشار الشعيري ، وعبد اللّه بن ميمون القداح ، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية ، وقد تبرّأ الإمام الصادق ع والأئمّة المعصومون من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم ، ولعنوا الخطابية ، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته ، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن.
إنّ الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وإنّ باطنه يؤدي إلى ترك
العمل بظاهره ، واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه :
( فَضَرَب بَيْنَهُمْ بِسُور لَهُ باب باطنه فيهِ الرّحمة وظاهرهُ مِنْ قبله العَذاب ).
وعلى ضوء ذلك فقد أوّلوا المفاهيم الإسلامية بالنحو التالي :
1. الوضوء عبارة عن موالاة الإمام.
2. التيمم هو الأخذ المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة.
3. والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية 45 من سورة العنكبوت : ( إِنَّ الصَّلاة تَنْهى عَنِ الفَحْشاء وَالْمُنْكر ).
4. والغسل تجديد العهد فمن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد ، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام.
5. والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.
6. والكعبة النبي.
7. والباب علي.
8. والصفا هو النبي.
9. والمروة علي.
10. والميقات الايناس.
11. والتلبية إجابة الدعوة.
12. والطواف بالبيت سبعاً موالاة الأئمة السبعة.
13. والجنة راحة الأبدان من التكاليف.
14. والنار مشقّتها بمزاولة التكاليف.
هذا ما نقلناه عن كتاب « المواقف » ، وإن كنت في شك ممّا ذكره فنحن ننقل شيئاً من تأويلاتهم من كتاب « تأويل الدعائم » للقاضي النعمان الذي كان قاضي قضاة الخليفة الفاطمي المعز لدين اللّه منشئ القاهرة وجامعة الأزهر ، وهذا الكتاب يضم في طياته تأويل الأحكام الشرعية بدأً بالطهارة والصلاة وانتهاءً بكتاب الجهاد ، فقد أوّل كلّ ما جاء في هذه الأبواب من العناوين والأحكام ، وطبع الكتاب في مطبعة دار المعارف في مصر ، وإليك نزراً من هذه التأويلات.
جاء في كتاب « تأويل الدعائم » : عن الباقر ع : « بني الإسلام على سبع دعائم : الولاية : وهي أفضل و بها و بالوليّ يُنتهى إلى معرفتها ، و الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، و الحج ، و الجهاد » ، فهذه كما قال ع : دعائم الإسلام قواعده ، و أُصوله التي افترضها اللّه على عباده.
ولها في التأويل الباطن أمثال ، فالولاية مَثلُها مَثلُ آدم (ص) لأنّه أوّل من افترض اللّهُ عزّوجلّ ولايته ، و أمر الملائكة بالسجود له ، و السجود : الطاعة ، وهي الولاية ، و لم يكلّفهم غير ذلك فسجدوا إلاّ إبليس ، كما أخبر تعالى ، فكانت المحنةُ بآدم (ص) الولاية ، وكان آدمُ مثلَها ، ولابدَّ لجميع الخلق من اعتقاد ولايته ، و من لم يتولّه ، لم تنفعْهُ ولاية من تولاّه من بَعده ، إذا لم يدُن بولايته ويعترف بحقّه ، و بأنّه أصل مَنْ أوجب اللّهُ ولايتَه من رسله و أنبيائه وأئمّة دينه ، و هو أوّلهم وأبوهم.
والطهارة : مَثَلُها مَثَلُ نوح ع ، وهو أوّل مبعوث و مرسل من قبل اللّه ـ لتطهير العباد من المعاصي والذنوب التي اقترفوها ، ووقعوا فيها من بعد آدم (ص) ، و هو أوّل ناطق من بعده ، وأوّلُ أُولي العزم من الرسل ، أصحاب الشرائع ، وجعلَ اللّه آياته التي جاء بها ، الماء ، الذي جعله للطهارة و سمّاه طهوراً.
والصلاة : مَثَلُها مَثَلُ إبراهيم (ص) وهو الذي بَنى البيتَ الحرام ، ونصبَ المقام ، فجعل اللّه البيت قبلة ، والمقامَ مصلّى.
والزكاة : مثلها مثل موسى ، وهو أوّل من دعا إليها ، و أُرسل بها ، قال تعالى : ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى * اذْهَبْ إِلى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ).
والصوم : مَثَلُه مثل عيسى ع وهو أوّل ما خاطب به أُمّه ، أن تقولَ لِمَنْ رأته من البشر ، وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها : ( فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَومَ إِنْسِيّاً ). وكان هو كذلك يصوم دهره ، و لم يكن يأتي النساء ، كما لا يَجوز للصائم أن يأتيهنّ في حال صومه.
والحج : مَثَلُه مَثَلُ محمّد ص ، و هو أوّل من أقام مناسك الحج ، و سنَّ سنته ، وكانت العرب و غيرها من الأُمم ، تحجّ البيت في الجاهليّة و لا تقيم شيئاً من مناسكه ، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : ( وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً ).
وكانوا يطوفون به عُراة ، فكان أوّلُ شيء نهاهم عنه ذلك فقال ، في العُمرة التي اعتمرها ، قبل فتح مكة ، بعد أن وادعَ أهلَها ، وهم مشركون : « لا يطوفنّ بعد هذا بالبيت عريان ، ولا عريانة » ، وكانوا قد نصبوا حول البيت أصناماً لهم يعبدونها ، فلمّا فتح اللّهُ مكّة كسّرها ، وأزالها ، وسنَّ لهم سُنن الحجّ ، و مناسكه ، وأقام لهم بأمر اللّهِ معالمه. وافترض فرائضه. وكان الحجّ خاتمة الأعمال المفروضة ، وكان هو ص خاتم النبيين ، فلم يبق بعدَ الحجّ من دعائم الإسلام غير الجهاد ، وهو مثل سابع الأئمّة ، الذي يكون سابع اسبوعهم الأخير ، الذي هو صاحب القيامة.
مع الشهرستاني في كتابه « مفاتيح الأسرار »
الرأي السائد في مذهب الشهرستاني ( 467 ـ 548 هـ ) هو انّه سنّي أشعري يدافع عن السنّة على ضوء المذهب الأشعري ، وقد قمنا بترجمة حياته في موسوعتنا « بحوث في الملل والنحل على ضوء تأليفاته لا سيما كتابه المشهور « الملل والنحل » غير انّا وقفنا على كتابه في تفسير القرآن الكريم أسماه « مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار » الذي طبع عام 1409 هـ في طهران على نسخة وحيدة منه في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي. وقد تصفّحنا بعض فصوله ووقفنا على أنّه إسماعيلي يتستر بغطاء التسنّن ، ولكنّه إسماعيلي غير متطرف فيأخذ بظواهر القرآن وفي الوقت نفسه يطلب له تأويلاً تنسجم مع الفكر الإسماعيلي.
يقول في مقدّمته : لقد كانت الصحابة ( رضي اللّه عنهم ) متّفقين على أنّ علم القرآن مخصوص بأهل البيت : ، إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب ع هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ وكان يقول : « لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ بما في قراب سيفي هذا ».
فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه ، تنزيله ، وتأويله مخصوص بهم ، ولقد كان حبر الأُمّة عبد اللّه بن عباس ( رضي اللّه عنه ) مصدر تفسير جميع المفسرين ، وقد دعا له سول اللّه ص بأن قال : « اللّهمّ فقّهه في الدين ، وعلّمه التأويل » فتلمّذ لعلي ع حتى فقّهه في الدين وعلَّمه التأويل.
ولقد كنت على حداثة سنّي أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعاً مجرداً حتى وُفقْتُ ، فعلّقته على أُستاذي ناصر السنّة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري ( رضي اللّه عنهما ) تلقفاً ( كذا ).
ثمّ أطلعتني مطالعات كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم ( رضي اللّه عنهم ) على أسرار دفينة وأُصول متينة في علم القرآن ، وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيبة ( يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصّادِقين ) فطلبت الصادقين طلبَ العاشقين ، فوجدت عبداً من عباد اللّه الصالحين كما طلب موسى ع مع فتاه ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً ) فتعلّمت منه مناهج الخلق والأمر ، ومدارج التضاد والترتيب ، ووجهي العموم والخصوص ، وحكمي المفروغ والمستأنف ، فشبعت من هذا المِعَا الواحد ، دون الامعاء التي هي مآكل الضُّلاّل ومداخل الجُهّال ، وارتويت من شرب التسليم بكأس ، كان مزاجه من تسنيم فاهتديت إلى لسان القرآن : نظمه ، وترتيبه ، وبلاغته وجزالته ، وفصاحته ، وبراعته.
ثمّ إنّه بعد ما يشير إلى أنّ القرآن بحر لا يدرك غوره ، ولا يدرك ساحله ، والسباحة في هذا البحر كان مقروناً بالخطر ، يقول : فوجدت الحبر العالم فاتّبعته على أن يعلِّمني ممّا عُلّم رُشداً ، وآنست ناراً ، فوجدت على النار هدى فنقلت القراءة والنحو واللغة ، والتفسير ، والمعاني من أصحابها على ما أوردوه في الكتب نقلاً صحيحاً ، من غير تصرّف فيها بزيادة أو نقصان ، سوى تفسير مجمل ، أو تقصير مطوّل ، وعقّبتُ كل آية بما سمعت فيها من الأسرار ، وتوسمتها من إشارات الأبرار ، ولقد مرّ على الخوض فيها فصول في علم القرآن هي مفاتيح العرفان ، وقد بلغت اثنا عشر فصلاً ، قد خلت عنها سائر التفاسير وسمّيت التفسير ب « مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار » واستعيذ باللّه السميع العليم من القول فيها برأي واستبداد دون رواية واسناد ، والخوض في أسرارها ومعانيها جزافاً وإسرافاً دون العرض على ميزان الحقّ والباطل ، وإقامة الوزن بالقسط وتقرير الحقّ وتزييف الرأي المقابل له.
ثمّ إنّه ذكر في الفصل الثامن معنى التفسير والتأويل وبما انّ لأكثر كلامه مسحة من الحق نأتي به.
يقول : ثمّ التأويل المذكور في القرآن على أقسام :
منها : تأويل الرؤيا بمعنى التعبير ( هذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل ).
ومنها : تأويل الأحاديث ( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الأَحادِيثِ ).
ومنها : تأويل الأفعال ( ذلك تَأويلُ ما لَمْ تَسَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ).
ومنها : الرد إلى العاقبة والمال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ ).
ومنها : الرد إلى اللّه والرسول ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ).
ومنها : تأويل المتشابهات ( فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ).
وفي القرآن أحكام المفروغ ، وأحكام المستأنف ، وأحكام متقابلات على
التضاد ، وأحكام متفاصلات على الترتب ، فرؤية المستأنف هو الظاهر والتنزيل والتفسير ، ورؤية حكم المفروغ هو الباطن والتأويل والمعنى والحقيقة ( وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الأَلْباب )
فهذا المقطع من كلامه يبيّن موقفه من تأويل القرآن ، فالأسرار التي يودعها في تفسيره إن كان مستنداً إلى نص معتبر فهو مقبول ، وإلاّ فيرجع إلى التفسير بالرأي. ومن أراد أن يقف على منهج تفسيره وتأويله ، فلينظر إلى تفسير قوله سبحانه ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا الاّ إِبْليسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الكافِرِينَ ) فلاحظ ص 117 ـ 121 من التفسير المذكور.