تفسير القرآن على ضوء المدارس الكلامية

بواسطة |   |   عدد القراءات : 2072
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

تفسير القرآن على ضوء المدارس الكلامية

هذا هو القسم الثاني من تفسير القرآن بالعقل أي بغير الأثر المروي ، والمراد من هذا القسم هو إخضاع الآيات للعقائد التي اعتنقها المفسر في مدرسته الكلامية ، ونجد هذا اللون من التفسير بالعقل غالباً في تفاسير أصحاب المقالات : المعتزلة والأشاعرة ، فإنّ لهؤلاء عقائد خاصة في مجالات مختلفة ، زعموها حقائق راهنة على ضوء الاستدلال ، وفي مجال التفسير حملوا الآيات على معتقدهم ، وإن كان ظاهر الآية يأباه ولا يتحمّله غير انّ هذا النمط من التفسير بالرأي والعقل ، يختلف حسب بُعد المعتقد عن مدلول الآية ، فربما يكون التفسير بعيداً عن الآية ، ولكن تتحمّلها الآية بتصرف يسير ، وربما يكون الأصل الكلامي بعيداً عن الآية غاية البعد بحيث لا تتحمّله الآية حتى بالتصرف الكثير فضلاً عن اليسير.

ولا يمكننا التوسع في هذا المضمار بل نقتصر على تفسير الآيات على ضوء المدرستين الكلاميتين المعتزلة والأشاعرة ، فلنقدم البحث في الأُولى.


تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال

1. الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة

إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالم من قبلُ وخاصةً بين الوثنيّين واليهود. نعم إنّ الإسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات ، وممّا نُسِج حولها من الأوهام ، ومن وقف على آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة الدارجة بينهم كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم في حط الذنوب وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب ، تعويلاً على ذلك الرجاء ، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصة كلها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى ، ولو قُبِلت والمقبول هو هذا المعنى ، وقد أوضحنا في محله  أنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصح تفسيرها إلاّ بتفسير بعضها ببعض ، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.

ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها ، وما هذا إلاّ للموقف الذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب ، في أبحاثهم الكلامية ، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا ، يتنزل منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير ، وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح ، فكذلك هاهنا. 

والذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال ، هو اعتقاده الراسخ بالأصل الكلامي الذي يعدّ أصلاً من أُصول منهج الاعتزال ( خلود العاصي ـ إذا مات بلا توبة في النار ) وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة ، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية باللّه سبحانه كما تقطع الأواصر الروحية بالشفيع ، فأمثال هؤلاء ـ العصاة ـ محرومون من الشفاعة ، وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.

ولو افترضنا صحة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.

يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه : ( أنفِقُوا مِمّا رَزَقنَاكُمْ مِن قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيه ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَة )  : ( ولا خُلَّة ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به ، وإن أردتم أن يحطّ عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل لا غير. 

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى الدارج بين اليهود والوثنيين لأجل أنّـهم كفّار ، وانقطاع صلتهم عن اللّه سبحانه ، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية : ( مَن ذا الّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاّ بإذنِه ) ، وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو تحميل للعقيدة على الآية ، فلو استدلّ القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة للكفّار ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب ، وهو لايتصور في حقّ الكفّار لأنّهم لا يستحقون الثواب فضلاً عن زيادته.

ب : هل مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة أو لا؟

اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة  وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين :

الأُولى : يقول سبحانه ( وإنّ ربَّكَ لَذُو مَغفِرة لِلنّاسِ عَلى ظُلمِهِمْ وإنَّ ربَّكَ لَشديدُ العِقاب )

فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين ، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلاّ لا يصح وصفهم بكونهم ظالمين ، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدلّ على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة ، لرجاء شمول مغفرة الربّ له ، ولمّا كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشاف ، حاول تأويل الآية بقوله : « فيه أوجه :

1. أن يريد ـ قوله ( على ظلمهم ) السيئات المكفَّرة ، لمجتنب الكبائر.

2. أو الكبائر بشرط التوبة.

3. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. 

وأنت خبير بأنّ كل واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

 

الثانية : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاء )

والآية واردة في حقّ غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، فيعود معنى الآية أنّ اللّه سبحانه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن مات بلا توبة ، فتكون نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار ، ولمّا كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال :

الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى : ( لمن يشاء ) كأنّه قيل : « إنّ اللّه لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك » على أنّ المراد بالأوّل من لم يتب وبالثاني من تاب ، نظير قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء ، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله. 

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأوّل مورد عدم التوبة ، والثاني موردها ، حتى تتفق الآية ومعتقده.

كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة ، لأنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل ، بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعظم الذنب ويغفر ما دونه.

ومن هذا القبيل أيضاً ، تفسيره لقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّم خالِداً فِيها وَغَضب اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظيماً )

فقد فسره الزمخشري على ضوء مذهب الاعتزال من خلود أصحاب الكبائر ـ

إذا ماتوا بلا توبة ـ في النار ، وجعل هذه الآية من أدلة عقيدته ، فقال : هذه الآية فيها من التهديد والايعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم وخطب غليظ ، ـ إلى أن قال ـ والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ، ثمّ لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتّباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم ، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ( أَفلا يتدبّرون القُرآن أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالها ).

فإن قلت : هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت : ما أبين الدليل ، وهو تناول قوله ( ومن يقتل ) أي قاتل كان ما من مسلم أو كافر ، تائب أو غير تائب ، إلاّ انّ التائب أخرجه الدليل ، فمن ادّعى اخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله. 

إنّ ما ذكره الزمخشري بطوله قد ذكره القاضي عبد الجبار على وجه الإيجاز ، وقال : وجه الاستدلال انّه تعالى بين أن من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنم. 

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالإطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفضل عليه بالعفو ، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً : انّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحل لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات. و مثل هذا يكون كافراً خالداً في النار.

 

التفسير على ضوء منهج الأشعري

إنّ فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ( 543 ـ 606 هـ ) ممّن فسر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري ، وهو أشعري في العقيدة ، شافعي في الفقه ، فلنذكر نماذج من تفاسيره.

1. جواز التكليف بما لا يطاق

إنّ جواز التكليف بما لا يطاق من مذاهب الأشاعرة ولقد احتج الرازي على مذهبهم بالآيات التالية :

( إِنَّ الّذين كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون )

وقوله سبحانه : ( لَقَدْحَقَّ الْقَولُ عَلى أَكْثرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمُنُون )

وقوله : ( ذَرني وَمَنْ خَلْقتُ وَحيداً ـ إلى قوله : ـ سأُرهِقُهُ صعوداً )

( تبّت يدا أَبي لَهَب )

ثمّ أخذ بتقرير دلالة هذه الآيات على جواز التكليف بما لا يطاق بوجوه أربعة :

أوّلاً : أنّه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين انّهم لا يؤمنون قط ، فلو صدر منهم الإيمان ، لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً.

وثانياً : انّه تعالى لمّا علم منهم الكفر ، فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً.

وثالثاً : انّه تعالى كلّف هؤلاء ـ الذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون ـ بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق اللّه تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه انّهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات.

يلاحظ عليه : أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم انّ المأمور غير قادر على العمل ، ولذلك قلنا في محله إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، ولذلك يقول سبحانه : ( لا يُكَلّف اللّه نَفساً إِلاّ وُسعَها )

وأمّا الوجوه التي اعتمد عليها الرازي فموهون جداً ، وذلك انّ علمه الأزلي الذي اعتمد عليه في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع. 

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تحليل ما ذكره الرازي بلفظه ، فقال :

فلو صدر منهم الإيمان لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً ، فنقول :

إنّ هؤلاء لا يصدر منهم الإيمان إلى يوم القيامة قطعاً لكن لا من جهة إخباره سبحانه عنه بل لأجل اختيارهم وانتخابهم عدم الإيمان إلى يوم القيامة ، فالإخبار عن عدم تديّنهم شيء ، و كون الإيمان خارجاً عن الاختيار شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.

ومنه يظهر ضعف كلامه الثاني حيث قال : « فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً » ، وذلك لأنّه سبحانه أخبر عن عدم صدور الإيمان وبما انّه مخبر صادق لا يصدر منهم الإيمان لكن لا لأجل انّ اللّه أخبر عنه ، بل لأجل مبادئ كامنة في أنفسهم تجرّهم إلى عدم الإيمان ، فالإخبار عن عدم الإيمان شيء وكون الإيمان خارجاً عن اختيارهم شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.

وبما ذكرنا من التحليل تقدر على تحليل الوجه الثالث إذ نمنع انّهم كانوا مكلّفين بعدم الإيمان بل كان أبو لهب مكلفاً بالتوحيد والرسالة فقط.

2. امتناع رؤية اللّه أو إمكانها

ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة ، وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية ، ثم إنّ هناك آيات تدلّ بصراحتها على امتناع رؤيته

سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم ، وإليك نموذجاً واحداً ، يقول سبحانه :

( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيء فَاعبدُوهُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيء وَكيلٌ * لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وَهُو يُدرِكُ الأبصارَ وَهوَ اللَّطيفُ الخَبير ) .

ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عام لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي إلاّ بالإضافة إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، هذا هو ظاهر الآية ، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.

ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي ، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر ، قال : إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة ، وذلك لوجوه :

1. أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها « لا تدركه الأبصار » فثبت أنّ قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد المدح ، إلاّ إذا صحت الرؤية.

والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط ، أعني : ( لا تدركه الأبصار ) ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول : واللّه جلّت عظمته يدرك أبصاركم ، ولكن لا تدركه أبصاركم ، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأُولى 


2. أنّ لفظ « الأبصار » صيغة جمـع دخل عليها الألـف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار ، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار. 

يلاحظ عليه : أنّ الآية تفيد عموم السلب لاسلب العموم ، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته ، وشموخ مقامه.

كأنّه سبحانه يقول :

« لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم ، وهذا نظير قوله سبحانه : ( كَذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلبِ مُتَكبِّر جَبّار ). وقوله : ( إنَّ اللّهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُختال فَخُور ) 

إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكرها إلاّ ليُخضِعَ الآيةَ ، لمعتقده.

Powered by Vivvo CMS v4.7