دفع التهافت
بقلم: سماحة الشيخ حسن عطوان
سألني أحد الأخوة أنّه جاء في سورة الكهف على لسان أحد الرَجُليَن المتحاورين :
( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلی رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) [ الكهف : 36 ]
والإشكال هو : أنَّ صدر هذه الآية ينافي ذيلها ،
إذ أنَّ مفاد الصدر أنَّ هذا الرجل لا يؤمن بوجود يوم القيامة ، بينما ظاهر الذيل أنّه يؤمن بذلك .
والجواب :
هذه الآية الكريمة وردت في سياق ذكر القرآن المجيد لقصة رجلين تحاورا في زمن ما ، فضرب بهما القرآن مثلاً :
( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ * ... فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلی رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ... * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّـهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّـهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً * ... وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلی ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلی عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) [ الكهف : 32 - 42 ] .
التفسير :
المراد بالجَنّة هنا : بستان .
النفر : أشخاص يلازمون الإنسان ، سمّوا نفراً لأنهم ينفرون معه ، و لذلك فسره بعضهم بالخدم و الأولاد .
وفسره آخرون بالرهط و العشيرة .
والأول أرجح ؛ بقرينة المقابلة بما سيذكره الله تعالی من قول صاحبه له :
( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً ) .
وهذا الرجل المغرور المعجب بنفسه ، نظر إلی نفسه وهو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال وولد لا يزاحَم فيما يريده في ذلك فاعتقد أنّه مالكه .
ونسي أنَّ الله سبحانه هو الذي مَلَكّه وهو المالك الحقيقي .
فما سخّره الله له وسلّطه عليه من زينة الحياة الدنيا ما هو إلّا فتنة وبلاء يُمتحَن بها الإنسان ليميز الله الخبيث من الطيب .
فهذا المغرور ظن أنّه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه ، وأنَّ التأثير كله للأسباب الظاهرية التي سُخّرتْ له .
فنسي الله سبحانه وركن إلی الأسباب .
فظن أنَّ ذلك انما حصل عليه بقدرته وذكاءه فاستكبر علی صاحبه .
كما في قصة قارون فإنّه لمّا نُصح ألّا يفرح بمّا آتاه الله من المال ، قال :
( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلی عِلْمٍ عنْدي ) [ القصص : 78 ] .
و هذا الذي يكشف عنه قوله :
( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا ) ، فهو يعتقد أنَّ ما حصل عليه بإستحقاقه الذاتي وبذكاءه ، بل أنَّ أمانيه ببقاء جنته وبالتالي خلوده في الدنيا أوصله الى إنكار المعاد .
( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .
أما قوله تعالی :
( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) ،
والمراد بالجنة جنسها و لذا لم تثن .
وقيل : لأنَّ الدخول لا يتحقق في الجنتين معاً في وقت واحد ، و إنّما يكون في الواحدة بعد الواحدة .
وقال الزمخشري في الكشاف مامضمونه :
فإن قلت : لِمَ أفرد الجنة بعد التثنية ؟
قلت : للإشارة الى أنَّه ليس له غير جنته في الدنيا التي أغتّر بها ، ولا نصيب له في الجنة التي وعد الله بها المؤمنين ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين و لا واحدة منهما .
( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلی رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً )
وهنا قد يُشكْل :
بأنَّ مفاد صدر هذه الآية الكريمة أنَّ هذا الرجل يستبعد قيام الساعة ، ولكن ذيلها يشير الى حُسْن ظنه بالله سبحانه بأنّه لو رُدّ الى ربه فسيجد ما هو افضل من جنته في الدنيا .
والسؤال : كيف يُحل هذا التنافي بين الصدر والذيل ؟؟
وجوابه :
أنَّ هذا المغرور لا يؤمن بقيام الساعة ، لكنّه من باب فرض المحال يقول أنّه لو فُرض أنّها قد قامت ورُدّ إلی ربه فأنّه يعتقد أنّه لإستحقاقه الذاتي ووجاهته - وليس برحمة الله وبحسن الظن به سبحانه - فإنّه سيجد عند ربه ما هو أفضل من جنته في الدنيا .
وهذا على وزان قوله تعالی :
( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلی رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنی ) [ حم السجدة : ٥٠ ]
بقلم: سماحة الشيخ حسن عطوان