مقامات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
.... الحلقة الأولى ....
بقلم فضيلة الشيخ عبد الحكيم الخزاعي
مقدمة:
لقد تعدّدت أبعاد البحث الديني، كلاميًا ومعرفيًا وفقهيًا، في مقامات السيدة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لدى جميع مدارس الإسلام. فـلفاطمة الزهراء (عليها السلام) مكانة محورية في الإسلام، لم يضاهها أحد في ذلك، حتى أفضل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، على الرغم من وصف القرآن الكريم لهن بـ(أمهات المؤمنين).
ويكشف هذا عن منزلة خاصة ومرتبة عظيمة لها عند الله، وعند رسوله، وعند الأئمة المعصومين (عليهم السلام). هذه المقامات هي مقامات واقعية تكشف عنها الأحاديث الشريفة والقرآن الكريم، وهي ليست مقامات ممنوحة في عالم الدنيا، بل لها (عليها السلام) مقام نوراني، وجودي، وتكويني.
حتى إنها اعتُبِرت محور ومركز أصحاب الكساء في التعريف الإلهي للملائكة: (هي فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها) وسنتحدث عن بعض هذه المقامات الكثيرة، ونُعدِّد أبرزها وقبل ذلك سنؤصل لهذه المقامات قرانيا وحديثيا كأصل كلي وهنا ملاحظة مهمة: مهما تحدثنا عنها وعن مقاماتها، فلن نصل إلى كُنه حقيقتها؛ فهي من هذه الجهة غيب لا يعرفه إلا الله وأهل البيت (عليهم السلام) وعلى المؤمن هنا التسليم والتصديق بذلك.
التأصيل القرآني والنبوي لمقام الزهراء عليها السلام
تتفق المصادر الإسلامية على أنّ مقام السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ليس وليد العاطفة أو مجرد مكانة عائلية، بل هو مقام مؤسس على جذور قرآنية ونبوية راسخة، تضعها في قمة شجرة الاصطفاء الإلهي. فهي الامتداد الطاهر لذلك الخط الرباني الذي ابتدأ بآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران، كما أشار إليه قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33).
وكانت مريم ابنة عمران عليها السلام حلقةً مشرقة في هذه السلسلة المباركة، إذ اصطفاها الله وطهرها ورفعها فوق نساء العالمين، حتى جاءت فاطمة الزهراء عليها السلام لتكون خاتمة نساء الاصطفاء، وواسطة النور بين النبوة والإمامة، فهي بنت محمد المصطفى صلى الله عليه وآله، الذي يمثل واسطة العقد في موكب المصطفين المخلَصين
أما المقام القرآني الأسمى للزهراء عليها السلام، فيتجلى في شمولها بآية التطهير:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}،
وهي آية تنصّ على إرادةٍ تكوينيةٍ إلهيةٍ خالصة، تقتضي العصمة المطلقة والطهارة الكبرى، وهما لازمتان للاصطفاء الإلهي. ولهذا أجمع المسلمون على دخول فاطمة عليها السلام في دائرة أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية الكريمة.
ويأتي التأكيد النبوي ليكشف عن عظمة هذا المقام في قوله صلى الله عليه وآله:
«فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني»،
وهو حديث متواتر مروي في أصحّ مصادر المسلمين، ومنها صحيح البخاري. وكلمة بضعة هنا ليست مجرد تعبير لغوي، بل وصف يكشف عن عمق الارتباط الوجودي بين الزهراء وأبيها المصطفى، فهي جزء من نوره، وامتداد لروحه، وإغضابها إغضاب للنبي نفسه، وإرضاؤها إرضاء لله تعالى.
وهكذا، يتأسس مقام الزهراء عليها السلام على تأصيلٍ قرآنيٍّ ونبويٍّ يجعلها في موضع الطهر والاصطفاء والعصمة، لتكون سيدة نساء العالمين، ونقطة التقاء الوحيين: وحي الرسالة، ووحي الإمامة.
المقام الأوّل: سيدة نساء العالمين في الدنيا والآخرة
رُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله قوله:
«إنّها سيدة نساء العالمين، وإنّها عديلة مريم بنت عمران، وإنّها إذا مرّت في الموقف نادى منادٍ من جهة العرش: يا أهل الموقف، غضّوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله»
(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج9، ص119).
بل ورد في الحديث أنّ أفضل نساء العالمين يكنّ بخدمتها، ففي الرواية:
(إنّ آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة)
(عوالم العلوم، ج11، ص49ـ51).
فإذا كانت مريم وآسية وخديجة ـ وهنّ صفوة النساء عبر التاريخ ـ يمشين أمام فاطمة كالحجاب، فكيف ببقيّة النساء دونهنّ مرتبة ومقاماً؟!
وقد روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله:
(أربع نسوة سادات عالمهنّ: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهنّ علماً فاطمة) لكن، ما معنى السيادة هنا؟إنّ سيادة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها السلام ليست سيادةً اجتماعية أو اعتبارية كما يتداولها الناس في دنياهم، حيث يُسمّى سيد القوم كبيرهم أو زعيمهم أو من يتقدّمهم بالنسب أو السن أو النفوذ أو التعاقد الاجتماعي.
بل إنّ سيادة الزهراء عليها السلام سيادةٌ حقيقيةٌ إلهيّة، راجعة إلى مقامها من الله تعالى، وإلى حقيقة قربها منه عزّ وجلّ، فهي سيّدة نساء العالمين لأنّها الأقرب إلى الله تقوى وعبادةً وطهراً ونوراً.
إنّ القرآن الكريم قد رسم معيار الكرامة والسيادة الحقيقيّة بقوله تعالى:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
ومن هنا، فسيادتها ليست مكتسبة من الناس، بل هي موهوبة من الله، لأنّها بلغت أسمى درجات الطهارة والتقوى حتى اصطفاها الله لتكون حجاباً لنوره، وجعل أولياءه وأصفياءه من بعدها في خدمة مقامها الرفيع.
فإذا كان المقرّبون من الله هم الحجاب لفاطمة عليها السلام، فما شدّة قربها هي من الله تعالى؟!
إنّه قربٌ لا يُقاس، واتصالٌ لا يُحدّ، فهي في ذروة القرب من المولى، تشعّ نوراً من نوره، وتفيض رحمةً من رحمته، وتبقى إلى أبد الآبدين سيدة النساء في الدنيا والآخرة.
المقام الثاني: مقام العصمة المطلقة
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
(الأحزاب: 33)
روت أمّ سلمة رضي الله عنها قائلة: «نزلت هذه الآية في بيتي، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتي».
وقد أورد هذا الحديث عددٌ من المفسّرين، منهم البغوي في تفسيره لسورة الأحزاب، وهو ممّا انعقد عليه الإجماع بين المسلمين.
ولعلّ أبلغ ما يؤكد وعي السيدة الزهراء عليها السلام بعصمتها وطهارتها قولُها في خطبتها الفدكية، حيث قالت:
«لا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً»،
فهي بذلك تُعلن أنّ كلامها وفعلها منسجمان مع إرادة الله، خاليان من الزلل والهوى، لتُثبت عملياً أنّها معصومة قولاً وفعلاً، كما دلّت عليها الآية الكريمة
إنّ قوله تعالى: «ويطهّركم تطهيراً» يحمل دلالة واضحة على العصمة، إذ إنّ التطهير هنا ليس مجرّد تنزيهٍ عن الرجس الظاهري، بل هو تطهيرٌ إلهيّ شامل للفكر والعقيدة والسلوك، بحيث تنتفي عنهم إمكانات الذنب والخطأ والزلل.
وليست آية التطهير وحدها الدليل على عصمة السيدة الزهراء عليها السلام، بل تؤيّدها آية المباهلة، وحديث البضعة، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وغيرها من النصوص النبوية التي تضع فاطمة وأهل بيتها في مقام الطهارة المطلقة.
وقد بلغ من وضوح هذا المقام أن فخر الدين الرازي ـ وهو المعروف بإمام المشكّكين ـ لم يتردّد في الإقرار بعصمتها، كما أشار إلى ذلك الشيخ حسن زاده آملي في كتابه ألف نكتة ونكتة (ص 603، نكتة 748).
وهذه العصمة الإلهية تعني أنّ السيدة الزهراء عليها السلام مطهّرة فكراً وعقيدةً وسلوكاً، فلا يُحتمل في حقّها خطأ ولا ذنب، ولا يصحّ أن تُدّعى عليها دعوى باطلة. ولذلك، فإنّ من وقف بوجهها، أو غصبها حقّها، أو طالبها ببيّنة على ما تقول، فقد تعدّى على العصمة الإلهية ذاتها، واعتدى على المقام الفاطمي الرفيع، وهو في الحقيقة مواجهةٌ مع غضب الله ورسوله.
وللعصمة الفاطمية تجلّيات وآثار عظيمة، وقد ذكر العلماء والباحثون جملةً من النتائج المترتّبة على إثباتها، نوجز أهمّها فيما يأتي:
امتلاك بعض شؤون الأنبياء والأئمّة عليهم السلام:
إذا ثبتت العصمة للسيدة فاطمة، فإنّ قولها وفعلها وتقريرها يكون حجّة، ويُعتدّ بها كمرجعية دينية، لها أهلية البيان والتفسير في أمور الدين، شأنها في ذلك شأن الأنبياء والأوصياء.
أن تكون معياراً لتمييز الحق من الباطل:
فبناءً على عصمتها، تصبح مواقفها وسيرتها معياراً ثابتاً يُعرف به الحقّ من الباطل، كما ظهر ذلك في احتجاجها على غصب الخلافة ومصادرة فدك، حيث جسّدت صوت الحقّ في وجه الانحراف.
أن تكون قدوة وأسوة كاملة:
إنّ عصمتها تجعلها أسوةً صالحة لكلّ مؤمن ومؤمنة، في الفكر والعبادة والجهاد والصبر. فهي النموذج الأكمل للمرأة المؤمنة، كما كانت مريم عليها السلام في عصرها، مصداقاً لقوله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21)،
وهذه الأسوة تمتدّ إلى الزهراء التي جسّدت روح النبوّة في أنوثتها الطاهرة.
وهكذا يتّضح أنّ مقام العصمة المطلقة للسيدة الزهراء عليها السلام ليس مقام تكريمٍ فحسب، بل هو مقام تشريعٍ واحتجاجٍ وقيادة ، به يُعرف الحقّ ويُستبان طريق الهدى، وتبقى فاطمة الزهراء مناراً إلهياً لا يطفأ نوره على مرّ العصور.


