الخطاب الديني بين ثقافة المتكلم وثقافة السامع، درس من ثقافة الخطاب المهدوي المبارك .
بقلم الشيخ حميد وناس ال عجمي
ورد في المكاتبة الاولى التي وصلت للشيخ المفيد رحمه الله تعالى من مولانا الامام المهدي عليه السلام قوله: ( فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) .
ومما يلفت الانتباه جدا، ضمائر المخاطب بصيغة الجمع الواردة في هذا النص: ( أنبائكم، أخباركم، الذل الذي اصابكم، جنح كثير منكم )، فمولانا الامام عليه السلام على الرغم من انه يخاطب اعلى شخصية في هرم المجتمع الشيعي واكثرها التزما باحكام الشريعة ووعيا وشعورا بالمسؤولية الدينية، الا انه يجعله بظاهر خطابه من ضمن الجماعة التي تستحق العتب والملامة، تلك الجماعة التي ابتعدت عن خط الشريعة وجرت لنفسها الويلات والمصائب، وليس مقصدنا ان الشيخ المفيد رحمه الله تعالى كان مستحقا للعتاب والملامة وتشديد الخطاب، لا والف لا وحاشاه الف مرة، فيكفي الشيخ توضيحا لحاله الايماني العالي ماورد في بداية الكتاب من توصيف فريد بقول الامام المهدي عليه السلام في بداية الكتاب: ( للأخ السديد و الوليّ الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه ـ من مستودع العهد المأخوذ على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد؛ سلام عليك أيها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ونُعلمك ـ أدام الله توفيقك لنصرة الحقّ وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق ـ أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قِبَلك، أعزّهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته )، وما ورد في نهاية الكتاب ايضا: ( هذا كتابنا إليك أيها الأخ الوليّ والمخلص في ودّنا، الصفيّ والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام ), فالشيخ رحمه الله باعلى درجات الايمان والوعي والصدق والاخلاص لخط ال محمد الاطهار ومذهبهم عليهم الصلاة والسلام .
ويمكن اخذ الموعظة والفائدة مما ذكر من إسلوب خطابي ورد في النص المهدوي السابق المشخص لحالة المجتمع, وشمول شخص الشيخ المفيد رحمه الله تعالى بالخطاب المجموعي المعاتب واللائم, من جهتين:
الجهة الاولى: انه من الظواهر الملحوظة في مجتمعنا المعاصر: انه ومع كثرة مجالس الوعظ والارشاد والخطب والمحاضرات التي تلقى في المناسبات الدينية الكثيرة، فان الانحراف والابتعاد عن السلوك الاسلامي القويم لازال شائعا جدا بين افراد المجتمع، ومع ما توفره هذه المجالس والمحاضرات من زخم علمي واخلاقي وتوعوي كبير، فان آثار كل ذلك النشاط التوعوي لازال ضعيفا وليس بالمستوى المرجو له.
ولهذه المفارقة عدة اسباب لسنا بصدد تفصيل الكلام فيها وبحثها كل على حدة, ومن هذه الاسباب: وجود الزخم الاعلامي التخريبي الذي يروج للانحراف القوي بما يفوق الزخم الايماني الاول، ومنها ميل النفس البشرية للتحلل وعدم الالتزام باحكام الشريعة ومنها الطبيعة المجتمعية وبعض العادات والتقاليد التي تسهل الانحراف وتنزع منه صفة القبح والسوء، وغير ذلك من الاسباب التي لا تخفى .
لكن هنا سبب مهم يحتاج للبحث وتفصيل الكلام فيه وتركيز الاضواء عليه, وهو سبب مهم من اسباب عدم تأثر كثير من الافراد بما يسمعه من مواعظ وحكم وارشادات متكررة في كل موسم، وهذا السبب راجع لنفس الجهة الواعظة والمسؤولة عن توفير المادة العلمية للخطب، سواء كان هو نفس الخطيب او مؤسسة او لجنة تتكفل تحضير تلك الخطب, ففي كثير من الاحيان يتحرك الخطاب الوعظي بمساحة ما يفهمه الخطيب من أهمية للمواضيع وما هو مناسب لحاله, فيحاول الخطيب ايصال المجتمع لدرجة يعتقد ان المجتمع يحتاج للوصول اليها، وفي الحقية هو من يحتاج للوصول اليه أو أنه يشعر بأهميتها الذاتية لديه, وتظهر هذه الحالة جلية عند كبار الخطباء والوعاظ ومن كان له مجلس وعظي مستمر منذ سنوات، فالخطيب والواعظ يظهر ما في داخله من تكامل معرفي وثقافة دينية متجددة، ولا يرى اي داع للتكلم بمستويات من الثقافة الدينية هي عنده من البديهيات والواضحات, كالاحكام الفقهية الاولية او الاخلاق البسيطة .
فمثلا إن حث الافراد على الاتيان بالصلاة والصيام والالتزام بصدق الحديث وعدم السرقة وعدم خيانة الامانة، وتوضيح خطورة الربا والزنا وشرب الخمر، وقطيعة الرحم وايذاء الجار وحرمة الطريق والاملاك العامة، كل هذه وغيرها قد يراها الخطيب من الامور الواضحة التي لا تحتاج لتوضيح او تنبيه، وهي كذلك فعلا في جانبها العلمي النظري لكنها ليست كذلك ابدا في جانبها التطبيقي العملي .
بشهادة إبتعاد المجتمع عنها ومخالفته لها بشكل كبير جدا, وبالرجوع للمكاتبة الشريفة للامام المهدي عليه السلام, فعلى الرغم من كون المكاتبة سرية جدا وهي
صادرة من إمام معصوم وحجة الله على خلقه, الى المرجع الديني الاعلى والفرد الاكثر كمالا في المجتمع الشيعي, الا اننا نلاحظ خلو المكاتبة من المفاهيم العقائدية المعمقة والتوجيهات السلوكية العالية, وان الخطاب المهدوي في هذه المكاتبة ركز على بديهيات الامور الواضحة, التي كان يلتزم بها السلف الصالح من الشيعة وتركه بعض الافراد, وليس هو الا الواجبات الفقهية بمستوى الالتزان بالصلاة والصيام والصدق والامانة وصلة الرحم ومساعدة الضعفاء وامثال ذلك .
فالخطيب او وسيلة الاعلام التي تتكفل بمهمة وعظ المجتمع وارشاده, عليها أن لا تكل من تكرار الواضحات الدينية الفقهية والاخلاقية والدفع للالتزام بها, ما دام المجتمع محتاج اليها فعلا بعدم التزامه بها, فلا ينبغي النظر للتكرار بطرح تلك الامور بمثابة الامور الثانوية المملة التي ينبغي مغادرتها والكف عن طرحا, فهي فعلا لها أهمية عظمى وحاجة للطرح ما دام افراد المجتمع غير مطبقين لها ولا ملتزمين بها, ففائدة المجلس والخطابة تظهر في ميدان التطبيق وليس التخزين المعرفي للعلوم والحقائق الشرعية عند السامع .
الجهة الثانية: أن نيل مراتب التكريم والتقدير من إمام الزمان عليه السلام لشيعته عامة, ولطبقة العلماء والخطباء والكتاب خاصة, تتناسب مع المجهود الشخصي الفعال الذي يقدمه هؤلاء في ميدان إرشاد المجتمع ومنع أفراده من الانحراف, وليس التكريم بحسب العمق العلمي والتميز الفكري والتجديد والتحديث بجانبه الذاتي, فكل هذه الامور على ما لها من قيمة ونفع, تاتي في المرتبة الثانية بعد الطرح العلمي الفعال في الساحة المجتمعية التطبيقية, حتى لو كان المطروح هنا بسيطا وسطحيا من جهة علمية .
وهذا المعنى كما يشمل الطبقة العلمية من المجتمع فهو يشمل العامة منهم, فالاكرم والاقرب لال محمد الاطهار من عامة الناس هو من يلتزم عمليا بما يريدوه منه من اخلاق وسلوك عملي, ومجالس الوعظ والارشاد بجانبيها المتكلم والسامع لابد أن يفهما هذه الحقيقة جيدا, فليس المطلوب منها تكثير الشعارات والديكورات والزخارف والازياء في مجالسنا الوعظية, بل المطلوب هو الوصول لحالة الالتزام بحدود الشريعة واستشعار المسؤولية تجاهها, فلا نفع ولا فائدة من اي نشاط لا يؤدي للوصول لهذه النتيجة .
وان كان لطرح العقائد الحقة منزل وموضع مطلوب من الخطب، وفي المكاتبة الشريفة وردت عبارة: أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قِبَلك، أعزّهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته، وهي عبارة فيها من العمق العقائدي الشيء الكثير لأنها تفسر حالة الحجية الإلهية منه سبحانه للإمام المعصوم لشخص العالم والفقيه وانتهاء بعامة افراد المجتمع، وعلى الرغم من عظم هذه المسألة وجليل خطرها الا اننا نجد الخطاب المهدوي يمر عليها مرورا سريعا وبعيدا عن ذكر اي تفصيل، وكذا الجانب العقائدي في الخطاب الديني ينبغي أن يتضمن درر العقائد الحقة بأسلوب سريع وخال عن التفصيل والتفريع الذي يخرج مجلس الوعظ من صفة المجلس الوعظي العام إلى الدرس العقائدي البحت.
واخيرا لا ينبغي اهمال الاشارة الواردة في مفردة: أذن، المستعملة من مولانا الامام المهدي عليه السلام في هذا المقطع الاخير، والاذن لا يكون الا بعد المنع، فهو اجازة بعد منع، وفي هذه الاشارة ما يكفي لرد الشبهة المثارة حول منافاة مكاتبة الشيخ المفيد للتوقيع الخارج للسفير الرابع بانقطاع السفارة والمشاهدة، فالمفردة: اذن تقر صحة التوقيع السابق، وتشير لوقوع حالة هي اشبه بالبداء والاذن بالمكاتبة في زمن الغيبة الكبرى التامة .