غيبة الإمام أم غيبة الإمامة؟
بقلم الشيخ حميد وناس ال عجمي
المقدمة
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: (فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة وثلاثمائة سنة لقست القلوب و لرجعت عامة الناس عن الإيمان إلى الإسلام) , وفي رواية أخرى: (لقست القلوب، و لرجعت عامة الناس عن الاسلام) , تتحدث هذه الرواية الشريفة عن أثر من آثر طول غيبة الامام عليه السلام, وهو قسوة القلوب المنتج الى إنكار عقيدة الامامة لإهل البيت عليهم السلام, والرجوع عن الايمان الامامي الى اللإسلام بمفهومه العامي المخالف لإهل البيت عليهم السلام, أو الخروج من الإسلام بصورة عامة على ما ورد في النص الثاني السابق .
من المعلوم أنَّ لكلِّ عقيدة من العقائد الدينية أو فكرة من الأفكار بصورة عامة, وقع وتأثير في نفس من يعتقد بتلك العقيدة, أو يؤمن بتلك الفكرة, وإذا كانت هذه العقيدة من أمهات المسائل, التي تتفرع عنها مجموعة مسائل وتبتني عليها منظومة فكرية متشعبة, فتأثير تلك العقيدة الأم يكون عميقا لأن الفرد ينظم شؤونه الفكرية و الإعتقادية تبعا لها وإعتمادا عليها, فإذا وقع الشك منه في هذه العقيدة الأم, إنهار تمام المنظومة الفكرية المبتنية عليها, وهذا الإنهيار لن يقف عند حدود المباحث الفكرية والمعرفية, بل يؤثر على شخصية الفرد بصورة عامة فتتغير طباعه ومشاعرة ومواقفه, فيصير إنسانا آخر غير ذلك الذي كان قبل, قبل إنهيار منظومته الفكرية, وقد رأينا كثيرا من الاشخاص الذين وصلت بهم ردة الفعل لإنكار الضروريات العقائدية العامة, وإنطبع سلوكه بالعدوانية والشراسة, وهذا نوع من قسوة القلوب الذي أشارت اليه الرواية الشريفة السابقة .
ثم إن وقوع الشك المؤدي إلى إنهيار المنظومة العقائدية, قد يكون سببه علمي نظري بحت, بأن ينتهي الفرد الى نتيجة علمية مجردة بأن: عقيدته خاطئة ومخالفة للدليل, وقد يكون سبب الشك والإنهيار هو الواقع الخارجي, حين ترتبط تلك العقيدة بجانب واقعي من الحياة, ثم يجد الفرد أنها عاجزة عن تلبية متطلبات الواقع, وغالبا في الحالة الأولى يكون الإنهيار جزئيا وقابل لإعادة البناء, بنقض الدليل المعارض وتدعيم العقيدة الأم بإدلة جديدة ترجع لها صورتها الاولى, أما في الحالة الثانية فالغالب فيه الإنهيار الكلي وصعوبة إعادة بناء المنظومة الفكرية المنهارة إلا بتغيير الواقع الذي تسبب بهذا الإنهيار, وتغيير الواقع الخارجي ليس أمرا هينا ولا سهل التوصل إليه كما في الحالة الاولى .
ومخالفة الواقع الخارجي للعقيدة قد يكون مجرد حالة توهمها الفرد, لأنه وبسبب حبه لهذه العقيدة ومن ينادي بها, وجمال المبادئ المنبثقة منها, يبني في مخيلته واقعا لمخرجات عقيدته طبقا لما يفهمه هو, أو طبقا لما يرغب به ويحبه من صورة للواقع المبتني على تلك العقيدة, فإذا مضت الأيام وتبين بعد هذا الواقع المتخيل عن أصل العقيدة, وكونه غير قابل للتطبيق, ووقع فيه الإنهيار, إنسحب ذلك الإنهيار لنفس العقيدة, مع أن الحق: أن يراجع الفرد نفسه, ويحملها مسؤولية ما وقع, لأنه فهم العقيدة بشكل غير واقعي .
وهذه الحالة تجدها كثيرا عند بسطاء التدين من الشباب وغيرهم, الذين يغلب على تفسيراتهم وفهمهم للعقائد الجانب العاطفي الاندفاعي, فتراهم يتحمسون للدفاع عن تفاصيل وأمور يتوهمون أنها من صلب عقيدتهم, أو أنهم يدافعون عن أشخاص وجهات يعتقدون أنهم الممثل الوحيد لتلك العقيدة والناطق بإسمها, فإذا إنكشف لهم هوان تلك التفاصيل أو أولئك الاشخاص, إنهدمت عندهم المنظومة العقائدية ورجعوا لحالة من الانكار للضروريات والإلحاد عن الحق إلى الباطل .
والقرآن الكريم لم يغفل التنويه لمثل هذه الحالات في عدة آيات, منها قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) , فأهل الذكر هنا بالمعنى العام للذكر, هم: أهل الاختصاص والخبرة في العلوم المعينة, ممن أطلع على المبادئ والأسس الواقعية لذلك العلم, وهؤلاء وإن كان غالب حالهم إخفاء بعض التفاصيل التي يصعب فهمها من الاخرين والتصديق بها, الا أن هذا لا يمنع من تبيانهم لبعض تلك المبادئ بشكل واضح لا لبس فيه لمن يحتاجه من الناس, وجاءه سائلا عن بعض تلك التفاصيل, وكذلك من عادة أهل الذكر: تجنب اطلاق التفسيرات غير العلمية للمفاهيم والامور الخارجية, والمبالغة في تجميل الواقع المروي في الروايات الشريفة فوق الحد المعقول, وهذا الإلتزام العلمي منهم هو سيرة السلف الماضي من أهل الذكر المهدوي, كما ورد في غيبة الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى: (قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس سره من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا يوم أمس [من] عند نفسه؟ فابتدأني فقال: يا محمد بن إبراهيم لئن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه) .
القضية المهدوية وسنن الماضين
بعد هذه المقدمة, ندخل في صلب الموضوع, وهو: البحث في تأثير غيبة الإمام المهدي عليه السلام وإنقطاعه عن الحياة العامة للناس, على أصل عقيدة الامامة والانتساب لمذهب أهل البيت عليهم السلام, أو أصل العقيدة الإسلامية والإنتساب لدين وأمة النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم .
وقضيَّة مولانا الإمام المهدي عليه السلام, بمختلف تفاصيلها من الغيبة وغيرها, مندرجة تحت الأمر الإلهي الوارد في الآية الكريمة: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) , من حيث وجود تفاصيل حقها الإخفاء والكتمان, وأخرى حقها الإظهار والتعريف, وأيضا من ضرورة رجوع العامة من الناس الى أهل الذكر المهدوي, فيسألونهم عما جهلوه وينظموا نظرتهم للواقع الذي يعاصروه, طبقا لتلك المبادئ الحقة التي تلقوها من أهل الذكر المهدوي, وأن يتجنبوا حالة الإجتهاد الفردي والفهم الخاص المنقطع عن الرجوع لأهل الذكر, بدافع الحماسة والحب للقضية المهدوية والإمام المهدي عليه السلام, فيقع لا سامح الله ما أشارت اليه الروايات الشريفة من قسوة للقلوب ورجوع عن المذهب الحق والدين الحنيف .
وحالة قسوة القلوب بسبب غيبة الإمام المهدي عليه السلام, المؤدية للرجوع عن المذهب والدين, تناظر لحد بعيد حالة الانقلاب على الاعقاب التي حصلت لبعض أفراد المسلمين, حين إفتقدوا النبي الاكرم صلى الله عليه وآله في معركة أحد, وهتف فيهم الشيطان وأتباعة بأنه صلى الله عليه وآله قد مات, فأنهارت المنظومة الإيمانية عند البعض من الصحابة وراح يبحث عن مخرج من واقع لم يتصور وقوعه, بموت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله, ولو كان هذا المخرج هو الرجوع للحالة الكفرية والإلتحاق بمشركي مكة .
يقول الله تعالى في وصف هذه الحادثة الانقلابية: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
فالحكمة الإلهية إقتضت أن يقع التحميص في الجماعة المؤمنة جيلا بعد جيل, وتخليص تلك الجماعة من الافراد الأقل كفاءة وقدرة على تحمل الظروف الصعبة, ومن في قلبه بذور الكفر والإنقلاب, لتصل الجماعة بعد تجارب التمحيص الكثيرة لإستحقاق ظهور الإمام القائد عليه السلام, بعد أن يجاهد المجاهدون ويثبت على الحق الصابرون, ويعرف كل فرد حقيقة نفسه ومن حوله, وحقيقة دعاوي تمني قيام العدل والقبول به والخضوع له, وهنا يأتي دور شخص الإمام المهدي عليه السلام, ليكون هو الإمتحان والإبتلاء الذي تبتلي به الأمة, فيغيب وينقطع خبره, كما إنقطع خبر جده الاكرم صلى الله عليه وآله في يوم أحد, وليهتف الشيطان في أتباعه في زمن الغيب مشككا بوجود الإمام عليه السلام, كما هتف بموته جده من قبله فإنقلب القوم كفارا مرتدين .
ولابد من أن إنقلاب جماعة في زمن الغيبة مرتدين عن دين الله ومذهب آل محمد الأطهار, وهذا الإنقلاب مهما كانت ساحته واسعة وأفراده كثيرون, فشره لا يصل للإمام المهدي عليه السلام أو يضر بمبادئه العادلة, بل سيرجع الشر على أهله فيمحقهم ويفنيهم ويطهر الجماعة المؤمنة منهم, فالإمام المهدي عليه السلام بشر كآبائه الطاهرين عليهم السلام, ولابد من أن يموت يوما ما كما ماتوا, فليس الموت منقصة له أو لهم, ولا سببا كافيا للتخلي عن الحق والانحراف عنه, وسنة الله في الانبياء السابقين جارية فيه, من بقاء جماعة تحمل أعلى درجات الإيمان والإخلاص والوعي والشعور بالمسؤولية تجاهه معه, والصبر على المكاره والإستعانة بالله تعالى لرد كيد أعدائهم وأعداء إمامهم عليه السلام, الى أن يورثه الله تعالى الأرض طوعا ويمتعه فيها طويلا .
وقد روي عن مولانا الإمام المهدي عليه السلام, أنه قال في توقيع صدر منه: (بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياكم من الضلالة والفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإياكم من سوء المنقلب أنه أنهي إلي ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمورهم، فغمنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لان الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا، ونحن صنائع ربنا، والخلق بعد صنائعنا.
يا هؤلاء! ما لكم في الريب تترددون، وفي الحيرة تنعكسون؟ أو ما سمعتم الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) ؟ أوما علمتم ما جاءت به الآثار مما يكون ويحدث في أئمتكم عن الماضين والباقين منهم عليهم السلام؟ أوما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاما تهتدون بها من لدن آدم عليه السلام إلى أن ظهر الماضي عليه السلام، كلما غاب علم بدا علم، وإذا أفل نجم طلع نجم؟ فلما قبضه الله إليه ظننتم أن الله تعالى أبطل دينه، وقطع السبب بينه وبين خلقه، كلا ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة، ويظهر أمر الله سبحانه وهم كارهون) .
جوانب الخفاء في القضية المهدوية
قضية مولانا الإمام المهدي عليه السلام في غيبته وظهوره, حالها حال غيرها من القضايا العقائدية المعرفية، تقوم على أسس نظرية خاصَّة بها، ولها مصادرها الشرعية من النصوص القرآنية والروائية، وهناك جماعة خاصة من العلماء والمفكرين دأبوا على النظر في هذه النصوص والتمعن فيها فصاروا من أهل الذكر المهدوي المختصين به، وهم علموا قبل غيرهم أن بعض جوانب القضية المهدوية, لم يرد فيه توضيحا في النصوص الشرعية, بل ورد التأكيد أن بعض الجوانب كالغيبة من الأسرار الإلهية والأمور التي لا سبيل لمعرفة كنهها الا بعد إنقضاء أمد الغيبة وإنتهائها, وعلى المجتمع أن يعي هذا الامر فيتوقف عن المطالبة بالتفسيرات والبيانات, فلا يسأل لماذا الغيبة ومتى تنتهي وكيف حال الإمام فيها وأين يكون ومع من؟ وغيرها من الأسئلة التي تطرح عادة, فاذا لم يجد صاحبها جوابا يقنعه حدث نفسه بالإنقلاب والرجوع عن الإيمان وكأن له المنة على الله وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين أنه كان مؤمنا في بعض أحواله وفي بعض أيام حياته.
وفي هذا البحث، سأحاول بعون الله تعالى وطلبا لرضا مولاي الإمام عليه السلام تسليط الضوء على بعض الامور المهمّة, التي قد تمنع من إنهيار المنظومة الفكرية عند الفرد, حين حصول شك عنده في بعض جوانب القضية المهدوية الغامضة, ولا يجد الجواب المقنع من أهل الذكر, وهذه الامور هي:
المهدوية العقيدة الحية
الأمر الأوَّل: إنَّ القضية المهدوية وإن كانت تمثل فرعا من فروع العقيدة الإسلامية الإمامية, إلا أنه يمتاز بأنه الفرع الحي منها, فمسائله ترتبط بحاضر الفرد كما ترتبط بماضيه ومستقبله, فإننا اليوم ننظر للإئمة السابقين عليهم السلام بنظرة الأفراد الماضين, المنقطعين عنا, ولسنا لهم كأصحابهم الذين عاصروهم وسمعوا منهم, أما مولانا الإمام المهدي عليه السلام فليس كذلك نهائيا, فهو فرد معاصر لنا وإمام زماننا, ونحن له كما كان أصحاب الأئمة الماضين لهم, ولا يضر بهذا الأمر غيبته وإنقطاعه عنا, لأن الغيبة لا تعني العدم والفناء, بل تعني العجز عن الوصول إليه من كثير من الناس لا أكثر .
وهو بهذه الحال كغيره من الأئمة المعصومين الماضين عليهم السلام, فأولئك الأئمة وعلى الرغم من ظهورهم ومعروفية مكان سكناهم, إلا أن حال غالب الشيعة يومذاك هو العجز عن الوصول اليهم والسماع منهم مباشرة ورؤيتهم, فالشيعة منتشرون في البلاد البعيدة, والإمام محاط بظرف التقية من السلطة الظالمة الحاكمة, فكان أكثر الشيعة يعجزون عن الوصول إليه والتشرف بمحضره, فهم ولحد بعيد كما نحن اليوم من حيث الإنقطاع والعجز عن الوصول لإمام الزمان عليه السلام .
فالحكمة والمنطق يحكمان أن ننظر بفعلهم, وأن نسير على طبق ما ساروا عليه, عند تجدد حالة من الشك والإستفهام في شأن من شؤون العقيدة الاسلامية, والتاريخ يحدثنا أن أولئك الشيعة كانوا أشد الناس ثياتا على دينهم وصبرا في سبيله, ومتى ما إحتاجوا لجواب عن مسألة ما, لجأوا لوكلاء الإمام أن توفر الوكيل او للعلماء المطلعين على الروايات الشريفة, فيتلقون منهم الأجوبة بكل رحابة صدر, ولا يحتاجون للسفر لبلد الإمام المعصوم عليه السلام وتحمل المشاق لتلقي الجواب منه مشافهة, وقطعا لم يكن هذا حال عامة الشيعة في البلدان البعيدة, فكان بعض الأفراد يدب لنفوسهم الشك وتجول في نفوسهم خيالات الشيطان فتنبعث دواعي الإنحراف والزيغ منهم, فيقولون في دين الله بآرائهم وظنونهم التي لا تغني من الحق شيئا, فما يلبثوا أن ينحرفوا ويسقطوا .
فوجود بعض الخفاء في جوانب العقيدة الاسلامية, وعدم معرفة رأي الإمام المعصوم الصريح فيها, لم يكن حالة شاذة ونادرة في تلك الأزمان, بل هي الحالة الغالبة شائعة الإنتشار في الوسط الشيعي الإمامي, وما كان الشيعة يتعاملون مع هذه الحالة بروح الإنكسار والضعف, فيتأثرون بشبهات المنحرفين وتقولاتهم, بل كانت نفوسهم قوية تأبى الإنكسار, فيتعاملون مع الخفاء العقائدي على أنه علم مجهول, فإن وجدوا من العلماء من يكشف لهم المجهول حمدوا الله تعالى, وإلا لم يسمحوا لهذا الجهل والخفاء أن يسبب الدمار في منظومتهم العقائدية العامة .
للنور المهدوي حق التسليم على المؤمنين
الأمر الثاني: إنَّ الإمام المهدي عليه السلام إمام عصرنا المعصوم، وله حق الطاعة والانقياد على أفراد المجتمع والتسليم لأوامره, وليس من الصحيح أن ينسب الفرد نفسه في هذا العصر لفئة المتمردين على أئمة الزمان, الذين كان دأبهم في تلك العصور الماضية الإعتراض والتشكيك وسوء الأدب مع أئمتهم, فوجود الإمام المعصوم ظاهر بالنسبة لهم, لم ينتج عندهم حالة التسليم والإنقياد والطاعة, بل نحن نمتاز عن أفراد تلك العصور بعدم معاصرة الإمام ظاهرا, فان صبرنا وثبتنا كان مقامنا أعظم من مقام الصابرين والثابتين من أبناء تلك العصور, وإن ترددنا وشككنا كنا والفئة المتمردة على الإمام الظاهر في جانب واحد من الخسارة .
وقد ورد عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السَّلام, أنَّهُ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ذَاتَ يَوْمٍ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: (اللَّهُمَّ لَقِّنِي إِخْوَانِي) مَرَّتَيْنِ, فَقَالَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَ مَا نَحْنُ إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! فَقَالَ: لَا، إِنَّكُمْ أَصْحَابِي، وَ إِخْوَانِي قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ آمَنُوا وَ لَمْ يَرَوْنِي، لَقَدْ عَرَّفَنِيهِمُ اللَّهُ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ، لَأَحَدُهُمْ أَشَدُّ بَقِيَّةً عَلَى دِينِهِ مِنْ خَرْطِ الْقَتَادِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، أَوْ كَالْقَابِضِ عَلَى جَمْرِ الْغَضَا، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الدُّجَى، يُنْجِيهِمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ) .
فنحن في هذا الزمان إن ثبتنا على الحق وصبرنا, دخلنا في زمرة أخوان النبي الأعظم صلى الله عليه واله, والأخوة أعظم منزلة وحقا من الصحبة الناتجة من الرؤية الحسية له عليه وآله الصلاة والسلام, والفرد بنيل مقام الاخوة النبوية يصير مصباحا يضيء للآخرين طريق الهداية, ومعنى صيرورة الفرد مصباحا: أن قلبه يشرق بنور الائمة الطاهرين ومنهم إمام الزمان المهدي صلوات الله عليهم أجمعين .
فقد روي عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فقال: يا أبا خالد النور والله الأئمة من آل محمد عليهم السلام إلى يوم القيامة وهم والله نور الله الذي أنزل، وهم والله نور الله في السماوات وفي الأرض والله يا أبا خالد: لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا أبا خالد: لا يحبنا عبد يتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا، فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر) .
والإمام الباقر عليه السلام حين أشار إلى الائمة عليهم السلام بأنهم: النور الذي أنزله الله تعالى, فهو عليه السلام في مقام بيان حقائقهم التي تخفى عن الناس, فهم وإن ظهروا بهيئة البشر وصاروا أفرادا يراهم الشخص ويسمع منهم, فهذا لا يعني أنهم وغيرهم سواء من كل جانب, فحقيقتهم أنهم أنوار منزلة من الله تعالى, وليس كذلك غيرهم من الأفراد المعاصرين لهم, وإنما كانوا بهيئة البشر تيسيرا لهداية الناس وإرشادهم, وليسهل لغيرهم الوصول إليهم والتلقي منهم لأحكام الشريعة الإسلامية وما نزل به الوحي .
فلتوقف هداية الناس على ستر أنوار حقائقهم, وظهورهم بهيئة البشر كان ذلك, فهم إذن حقائق غيبية مستورة بالهيئات البشرية وغائبة فيها, ونفس هذا الغرض الذي هو هداية الناس إستوجب أن يكون الستر لتلك الأنوار الإلهية أشد في مولانا الإمام المهدي عليه السلام, فكان مجهول الهوية والمسكن في غيبته عليه السلام, فالغيبة بهذا البيان كانت موجودة منذ البداية مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام, ولو قارنا حالة الإخفاء والستر للأنوار المحمدية في الهيئات البشرية, وحالة إخفاء عنوان الإمام المهدي عليه السلام ومسكنه في غيبه, لتبين واضحا أن الغيبة والستر في الأولى أعمق وأكثر بمراحل .
إذن لا ينبغي التعامل مع غيبة الإمام المهدي عليه السلام, بصورة أبعد مما تم توضيحه, وكأن الإمام عليه السلام بغيبته صار معدوما, والحقيقة انه زاد في ستره وخفائه المادي درجة واحدة, إضافة لما كان موجود قبل ذلك فعلا, ثم إن أصحاب الأئمة الماضين عليهم السلام, كان بعضهم يفهم الأمام على أنه فرد بشري مثله مقابل له, وكذلك حال العامة من الناس وأعداء الأئمة عليهم السلام, بينما كان البعض الآخر كسلمان المحمدي رضوان الله تعالى عليه ونظرائه, يفهمون الإمام بحقيقته النورانية.
والفخر كل الفخر أن ننظر لإمام زماننا المهدي عليه السلام ونفهمه بالحقيقة النورانية التي فهمها سلمان وأمثاله رضوان الله تعالى عليهم, وهذا الفهم لا يفرق فيه كون الإمام عليه السلام معروف العنوان او لا, أما التعامل معه على الاساس الذي كان يتعامل به العامة من الناس وأعداء أهل البيت عليهم السلام, ذلك التعامل المحكوم بالحس فلا فخر فيه, وهو قول الإمام الباقر عليه السلام السابق: (لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة), فنور الإمام عليه السلام نور معرفي غيبي ينير العوالم الغيبية الباطنية للفرد المؤمن, ويفتح له طرق السير فيها تقربا لله تعالى, وهذا النور لا يقارن به ما يصدر من الشمس من ضوء ظاهري ينير الأرض الظاهرية .
ومن هنا يظهر لنا بفضل الله تعالى معنى جديد لما روي عن الرسول الأعظم بحق مولانا الإمام المهدي عليه السلام بقوله: (إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها السحاب) , فمعنى نور الإمام المذكور هنا والإنتفاع بولايته في غيبته, فسرتهما رواية الإمام الباقر عليه السلام, فخفاء الشمس خلف السحاب, قد يفهم منه إنقطاع الأسباب الحسية المادية في التعامل مع الإمام عليه السلام, ليحل محلها التعامل النوراني الغيبي, وتنور قلوب المؤمنين بنوره .
وبالرجوع لرواية الإمام الباقر عليه السلام السابقة, نجده عليه السلام يشير إلى أن الأنوار المحمدية تؤثر في قلوب المؤمنين من شيعتهم, فاذا عظمت طهارة القلوب وصار ذلك النور أكثر إشراقا في القلوب, صارت تلك القلوب مصدرا يصدر منه نور الإمام عليه السلام للآخرين, والسبيل لنيل هذه المرتبة العالية من المعرفة هو التسلسل بالتعامل مع إمام الزمان عليه السلام, من الولاية الى الحب الى التسليم المنتج للطهارة الباطنية المؤهلة لتلقي نور الإمام عليه السلام وإصداره, كما صرح بذلك الإمام الباقر عليه السلام في الرواية السابقة: ( لا يحبنا عبد يتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا) .
ولمن يسأل عن فائدة وجود الإمام المهدي عليه السلام حال غيبته, وكيف يمكن أن يكون إماما للامة وحجة الله عليها وهم لا يرونه, فالرواية السابقة تقول أنه عليه السلام كآبائه المعصومين: (ينورون قلوب المؤمنين), وهذا هو الدور الرئيسي الذي تظهر به إمامتهم وحجيتهم على الخلق, وليس دورهم أن يأكلوا كما يأكل الناس ويشربوا كما يشرب غيرهم وأن يمشوا بالأسواق, وغيرها من الأفعال التي يقوم بها غيرهم من الأفراد, ممن ليسوا بأئمة ولا حجج لله تعالى على خلقه, لان الدور الأهم للإمام والحجة هو هداية الناس وإرشادهم وإستمالة قلوبهم لله تعالى, وهذا الدور لم ينقطع من الإمام المهدي عليه السلام حال غيبته, لعدم توقف هذا الدور على الظهور الجسدي له عليه السلام .
التقية والورع حصن العقائد الحصين
الأمر الثالث: يمكن القول أن قسوة القلوب التي وردت في رواية الإمام الكاظم عليه السلام السابقة, والمؤدية لرجوع الفرد عن الإيمان أو الإسلام, لها مناشيء مرتبطة بحال المجتمع البشري في زمن الغيبة, فالقلوب تقسوا ليس بسبب غيبة الإمام المهدي عليه السلام وعدم الوصول اليه, بل بسبب الإندفاع المبالغ به من بعض الأفراد لمسايرة الأحداث الإجتماعية في زمن الغيبة, خاصة عند وقوع أحداث كبيرة يتوقع الفرد أن تكون بابا للفرج وظهور الإمام عليه السلام .
فبينما ينشط الفرد وتزداد حركته بمعاصرة تلك الظروف لما يرى من نفسه من حماسة داخلية, تأتي الروايات الشريفة لتنهي عن هذه النشاطات الحماسية, فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: (كلما تقارب هذا الامر كان أشد للتقية) , فتوقع الفرج وإقتراب أمر الظهور يستدعي الدخول في التقية أكثر مما سبق, حفاظا على نفوس الأفراد المؤمنة من الموت في تلك الاحداث, وحفظا لعقائدهم لو أن الامور آلت لغير ما كانوا يتوقعون, فإن إلتزموا بالتقية وتركوا النشاط المبالغ به, ووقع غير المتوقع سلمت نفوسهم من الموت وعقائدهم من الإنهيار .
ولمزيد من التوضيح لهذا الامر ننقل رواية أخرى عن الامام الصادق عليه السلام, عن التقية وأثرها العظيم في زمن الغيبة, وهي ما روي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: ( أَجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدمًا ) ,قال: التقية, ( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقبًا) , قال ما استطاعوا له نقبا إذا عمل بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة، وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا، قال: وسألته عن قوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) , قال : رفع التقية عند الكشف فينتقم من أعداء الله) .
فمخالطة الفرد المؤمن للأفراد المنحرفين من المجتمع ومعاشرتهم, أولئك الأفراد الذين دأبهم سلوك أفعال الجاهلية الأولى التي حاربها ذو القرنين وبنى دونها سدا منيعا, مع عدم التزام ذلك الفرد المؤمن بالتقية والحذر من تسرب إنحرافهم اليه, يؤدي بصورة تدريجية لخفوت صوت الحق الإيماني في داخله, ولا إلتزامه بالورع عن مشاهدة تلك الإنحرافات والتعامل مع أهلها, يصير الفرد أكثر تقبلا لإنحراف المنحرفين وشذوذ الشاذين, لسقوط قبح تلك الأفعال من عينه بعد عدم ورعه ولا عمله بالتقية, وذلك بسبب إعتياده على التعامل مع أصحاب المنكرات والجرائم الإخلاقية, ومع عدم إستشعاره بهذا التحول الذي حصل في داخله, وما أصابه من ضعف إيماني وتخلخل لأركان التدين عنده, يصير أي حدث ولو كان بسيطا كاف لإنهيار منظومة عقائده ورجوعه لعادة أصحابه من أهل السلوك الجاهلي المنحرف, فالسبب الحقيقي لإنهيار المنظومة العقائدية عند بعض الافراد هو, عدم الورع المؤدي للخروج من الدين, أو عدم التقية من المنحرفين المؤدي للخروج من الإيمان, يفهم هذا مما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام بقوله: (لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية)، فقيل له: يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال: (إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا) .
فمع غيبة الإمام المهدي عليه السلام وشيوع الإنحراف, ظهرت ضرورة العمل بالتقية ولزوم جانب الورع في الدين, فإذا خالف الفرد: خرج من الدين أو من الايمان, بسبب عدم ورعه أو عدم تقيته وليس بسبب غيبة الإمام المهدي عليه السلام, وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: (من سره أن يكون من اصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق, وهو منتظر. فان مات وقام القائم بعده, كان له من الاجر مثل اجر من ادركه, فجدوا وانتظروا, هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة) .
ترك السؤال عن الخفايا المهدوية
الأمر الرابع: كثيرا ما يحصل الإنقلاب العقائدي عند الأفراد الذين ينشطون في البحث عن غرائب الامور وخفيها, سواء في العقيدة المهدوية أو غيرها من العقائد الاسلامية, فحين يصير دأب الفرد البحث عن كل ما هو غريب إنقادت نفسه طوعا للإنحراف والخروج عن الخط العام المعروف من العقائد, وكثير من هؤلاء الأفراد يجد لذة في داخله من تتبع الغرائب والسؤال عن الخفايا, فيتوهم لنفسه مكانة علمية شامخة بوصوله لأمور لم يصل اليها غيره من عامة المؤمنين, والعقيدة المهدوية وإن تضمنت بعض الجوانب الخفية, إلا أنها من الأمور التي تنسجم مع بداهة العقول وإنبساط النفوس الفطرية, وأي زج للعقيدة المهدوية بعيدا عن هذا المعنى الواضح البسيط, يمثل حالة إنحراف .
وفي الروايات الشريفة ورد الربط بين قضية مولانا الإمام المهدي عليه السلام, وأحداث قصة نبي الله موسى مع العبد الصالح الخضر عليهما السلام, والربط يكون من زاوية وجود علل خفية وأحكام سرية في القضية المهدوية لا سبيل لكشفها قبل الظهور, تناظر العلل والأسباب الخفية التي على أساسها كان يتحرك العبد الصالح ويقوم بدوره, فكما أن أفعال العبد الصالح لم تتبين عللها والحكمة منها إلا بعد الإنتهاء من مرافقة النبي موسى عليه السلام, وكان على النبي موسى عليه السلام الإنتظار وعدم التدخل في مجريات الأحداث ولا السؤال عن اسبابها, فكذلك على المؤمنين الالتزام بالإنتظار وعدم السؤال عن علة الغيبة والحكمة منها .
عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: (إن لصاحب هذا الأمر غَيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له ولِم جعلت فداك؟ قال عليه السلام: (لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم), قلت فما وجه الحِكمة في غَيبته؟ قال عليه السلام: (وجه الحِكمة في غَيبته، وجه الحِكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحِكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لا ينكشف وجه الحِكمة لما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى عليه السلام, إلا وقت افتراقهما يا بن الفضل: إن هذا الأمر أمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله وغيب من غيب الله ومتى علمنا أنه عزّ وجلّ حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلها حِكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا) .
فلو أن العبد الصالح كشف الحكمة من أفعاله قبل الإتيان بتلك الافعال, لأعترض عليها النبي موسى عليه السلام, ولعله يمنع من وقوعها لأنه يراها من الافعال المخالفة للمنهج الإلهي العادل, بحسب ما يعرفه عن ذلك المنهج, ووكل من قبل الله تعالى بتطبيقه والدعوة إليه, وقد روي في تفسير القمي: أنه - أي العبد الصالح - قد قال للنبي موسى عليه السلام: (إني وكلتُ بأمر لا تطيقه، ووكلتَ بأمر لا أطيقه) .
ومن الواضح أن الفرد المؤمن يحمل مقدارا من المعرفة الدينية أقل بكثير مما يحمله الإمام المهدي عليه السلام, وأولياءه الموكل اليهم القيام بمهام خاصة في زمن الغيبة, وكذلك فان الفرد ليس له نظرة عميقة وشاملة لمجريات الإحداث التي يعاصرها, وهذه النظرة والإطلاع على حقائق الامور عند الإمام المهدي عليه السلام, فالإعتراض والسؤال عن خفايا الأمور سينتهي بالمكلف, إما الى التمرد على أرادة الله والخروج من الدين والإيمان, أو معارضة بعض النشاط المهدوي فلا يصل ذلك النشاط لغايته المنشودة, وهذا معناه ان مزيدا من الويلات والمصائب سيقع على الفرد ومجتمعه, بسبب سلوكه الخاطيء تجاه الأمور الخفية من القضية المهدوية .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .