غيبة المُصْلِحِ
غيبة المُصْلِحِ
بعد الفراغ من تشخيص المصلح وهو الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عجل الله فرجه الشريف) يقع الكلام عن غيبة هذا الإمام (ع) .
روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): ((لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ وَ الْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الْغَيْبَةُ الْأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلاّ خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ))[1].
بحسب هذا الحديث وأحاديث أنّ للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) غيبتان:
الغيبة الأولى: وهي التي تُسمى بالغيبة الصغرى، بدأت بولادة الإمام المهدي (عليه السَّلام) سنة 255 هجريةـ أو بوفاة والده الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام) سنة 260 هجرية، و انتهت بوفاة السفير الرابع من سفراء الإمام الحجة (عجَّل الله فرَجَه) سنة 329 هجرية .
الغيبة الثانية: و هي التي تُسمى بالغيبة الكبرى ، بدأت سنة 329 هجرية بوفاة السفير الرابع (علي بن محمد السَّمَري) و لا تزال مستمرة حتى الآن, و ستستمر حتى يأذن الله عَزَّ وجَلَّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرَجَه ) بالظهور ليملأ الأرض قسطا و عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
لماذا صارت للإمام غيبتان ؟
1 - تهيئة الأمة لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى وتعويدهم عليها تدريجياً وعدم مفاجئتهم بذلك خصوصاً أن ولادة الإمام عجل الله تعالى فرجه كانت في ظرف صعب وخطرٍ من قبل السلطات العباسية حتى أخفيت ولادته المباركة.
2 - قيام السفارة والنيابة بالقيام بشؤون الأمة, وتعويد الناس على الارتباط بالعلماء أثناء غيبة الإمام سياسياً واجتماعياً.
ما أسباب الغيبة الكبرى؟
إنّ الله تعالى حكيم, وحيث يكتب الغيبة على المصلح (المهدي المنتظر عليه السلام) وذلك لوجد أسبابا أو حِكَمَاً, يمكن إدراك بعضها , ومنها:
(1)إنّ الحكمة من غيبته سرّ من سر الله تعالى, وحيث أنّ الله تعالى حكيم, فلا يفعل إلا لغرضٍ.
فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول : ((إن لصاحب هذا الامر غيبة لا بد منها يرتاب فيها كل مبطل ، فقلت : ولم جعلت فداك ؟ قال : لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم ؟ قلت : فما وجه الحكمة في غيبته ؟ قال : وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى عليه السلام إلى وقت افتراقهما . يا ابن الفضل : إن هذا الامر أمر من (أمر) الله تعالى وسر من سر الله ، وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف))[2].
ويقول الشيخ مقداد السيوري : (( كان الاختفاء لحكمة استأثر بها الله تعالى في علم الغيب عنده ))[3].
(2)خوفه من أعدائه ومناوئيه الذين يبغضوه وكانوا يطالبون بسفك دمه فالتجأ الى الغيبة, وكانت فيها نجاته,
ففي حديث زرارة عن الامام الصادق (ع) قال : ((للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: ولم ؟ قال : يخاف على نفسه الذبح))[4].
يقول الشيخ الطوسي : (( لا علة تمنع من ظهور المهدي إلاّ خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الإستتار ))[5].
(3)من أجل تمحيص البشرية, واختبارهم, فقد أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قـال : (( أمّا والله ليغيبن إمامك شيئاً من دهركم ، ولتمحصن ، حتى يقال : مات أو هلك بأيّ واد سلك ، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تكفأ السنن في أمواج البحر ، فلا ينجو إلاّ من أخذ الله ميثاقه ، وكتب في قلبه الإيمان ، وأيّده بروح منه ))[6].
قال تعالى: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))[7].
(4)عدم بيعته لظالم : ومن الأسباب التي ذكرت لاختفاء الإمام (عليه السلام) أن لا تكون في عنقه بيعة لظالم. وقد أثر ذلك عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، فقد روى الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، أنّ الإمام الرضا قال : ((كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه، قلت له : ولم ذلك يا بن رسول الله ؟ قال : لان إمامهم يغيب عنهم فقلت ولم ؟ قال : لئلا يكون في عنقه لاحد حجة إذا قام بالسيف))[8].
وورد عن الإمام المنتظر (عليه السلام) ذلك بقوله : ((إنه لم يكن لأحد من آبائي (عليهم السلام) إلاّ وأوقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، واني أخرج حين أخرج ، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي))[9].
(5)جرياً على سنن الأنبياء(ع):
فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «ان للقائم منا غيبة يطول أمدها فقلت له: يا بن رسول الله ولم زال؟ قال: لأن الله عز وجل أبى إلاّ ان تجري فيه سنن الانبياء عليهم السلام في غيباتهم وانه لابد له من استيفاء مدد غيباتهم، قال الله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي سنن من كان قبلكم»[10].
فكما أنّ بعض الأنبياء(ع) قد جرت لهم غيبةً, فإنّ المصلح العالم هو المستجمع لكل الكمالات من كان قبله من الأنبياء(ع) السابقين, فلابد له من غيبة, حتى تستجمع شروط ظهوره.
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ((في صاحب هذا الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء عليهم السلام: سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلى الله عليه وآله.
فأما من موسى: فخائف يترقب، وأما من يوسف فالحبس، وأما من عيسى فيقال: إنه مات، ولم يمت، وأما من محمد صلى الله عليه وآله فالسيف))[11].
(6)حتى يُطمئن بفشل جميع الأنظمة:
فإنّ الله تعالى أخفى المصلح, وأعطى الفرصة لجميع المخالفين في تطبيق نظرياتهم التي آمنوا بصحتها مع مخالفتها للمذهب الحق, حتى يتيقنوا بفشلهم ويستسلموا للأمر الواقع حتى إذا ظهر الإمام الحجة لا يبقى احد على الارض يقول لو ثنيت لي الوسادة قبل ظهوره لأصلحت الارض, فعندها يكون الاقرار والاذعان إلى أنّ الاصلاح لم يكن إلاّ باتباع اوامر الله ورسوله وأهل بيته.
فقد ورد عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: «ما يكون هذا الامر حتى لا يبقى صنف من الناس إلاّ وقد ولوا على الناس حتى لا يقول قائل: انا لو ولينا لبدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل»[12].
(7)عدم توفر شرائط ظهوره: بمعنى إنّ الإمام المهدي(ع) إذا ظهر فلابد أنْ يقوم بدوره الذي بُعث من أجله, وهو نشر العدل والقسط, وهذا يتوقف على توفر العدد الكافي من الأنصار, وبما أنّ العدد غير مكتملٍ, فتتعين غيبته.
وصدق أحد الفقهاء قوله: إنّ ذنوبنا هي من غيبت إمامنا المهدي (ع), فإنّ ظلم الناس وجورهم وبُعدهم عن الله ورسوله والائمة (عليهم السلام) وبُعْدِهِم عن الإمام الحجة (عليه السلام) كانا سبباً لغيبته (ع).
وقد ورد عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: ((إذا اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاث مائة وثلاثة عشر وجب عليه القيام والتغيير))[13].
ومعنى هذا أن جملة أصحاب الإمام المهدي عليه السلام أشخاص معدودون ومعينون، وليس حالهم حال غيرهم بل هم النخبة والصفوة من الناس، فجملة منهم أصحاب أهل الكهف كما قيل، والباقي من سائر الناس، كما أن جملة منهم أيضاً لم يولدوا بعد، وعلى كلّ حال إذا تكامل هذا العدد خرج قائماً بالحق, لينشر العدل والقسط .
[1] - الكافي : 1 / 340 .
[2] - كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 482.
[3] - مختصر التحفة الاثنى عشرية : 199.
[4] - كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق, ص471.
[5] - الغيبة : 199.
[6] - البحار : 53 / 7 و 281.
[7] - سورة الانفال: 42.
[8] - علل الشرائع, للشيخ الصدوق, ج1, ص245.
[9] - منتخب الاثر : 267.
[10] - كمال الدين وتمام النعمة, للشيخ الصدوق, ص 381.
[11] - كمال الدين وتمام النعمة, الشيخ الصدوق:236
[12] - كتاب الغيبة, للنعماني, ص 282 .
[13] - دعائم الإسلام, القاضي النعمان المغربي, ج1, ص342.