حول انتباذ مريم مكاناً شرقيّاً
حول انتباذ مريم مكاناً شرقيّاً
أَخبرنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ مريمَ انتبذَتْ من أَهلِها مكاناً شرقيّاً.
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) .
ورفضَ الفادي هذا الكلامَ، واعترضَ عليه، وقال بتهكُّمٍ وسخرية:
" لا يَذكرُ القرآنُ لماذا انبتذَتْ مريمُ العذراءُ من أَهلِها مكاناً شرقيّاً، واتخذَتْ من دونِهم حجاباً، قبلَ أَنْ تُبَشَّرَ بعيسى..
هل كانَتْ في مشاجرةٍ مع أَهلِها، وهم المشهورونَ بالتقوى؟
ولماذا تسكنُ فتاةٌ عذراءُ بَعيداً عن أَهْلِها، مع أَنَّ القرآنَ
يقولُ: إِنها كانَتْ في المحرابِ في كَفالةِ زكريا؟
ويقولُ الإِنجيلُ: إِنَّ مريمَ كانَتْ في الناصرة، وهيَ مخطوبةٌ ليوسفَ النجار ".
يُنكرُ الفادي أَنْ تَكونَ مريمُ - عليها السلام -قد انتبذَتْ من أَهْلِها مكاناً شرقياً، فلماذا تبتعدُ عنهم؟
هل اختلَفَتْ معهم؟
وهل طَردوها؟
وكيفَ ترضى أَنْ تبتعدَ عن الناس، وأَنْ تبقى وحيدةً وهي الفتاةُ العذراء؟
أَلا تخشى أَنْ يَبطش بِها أَو يَعتديَ عليها أَحَدُهم؟
وكيفَ قالَ القرآنُ في سورةِ مريم: إِنها انتبذَتْ من أَهْلِها
وابتعَدَتْ عنهم، مع أَنه هو نفسه أَخبرَ في سورةِ آلِ عمران أَنها كانتْ في
المحرابِ عند زكريا كفيلِها؟.
وتساؤلاتُ واعتراضاتُ الفادي لا معنى لها، والقرآنُ لم يَتناقَضْ في
حديثِه عن مريمَ - عليها السلام -.
أَخبَر في سورةِ آلِ عمران أَنَّ اللهَ كَفَّلَها زكريا وهي طفلة، وهو زوجُ
أُخْتِها كما ذكرنا، فنشأَتْ عنده - صلى الله عليه وسلم -، وكانتْ عابدةً لله في محراب بيتِه ومكانِ صلاتِه، بينما كان يُؤَمِّنُ لها حاجتَها من الطعام.
قال تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) .
وكانتْ مريمُ متفرغةً للعبادة، حيث ملأَتْ عليها وقْتَها، وأَنفقَتْ فيها
عُمْرَها، فلم تَلتفتْ إِلى غيرها.
ولعَلَّها لأَجْلِ هذه الغاية كانت تَنتبذُ عن أَهْلها، وتَذهبُ إِلى مكانٍ
هادِئ، تعتزلُ فيه مُتعبدة، وكان أَهْلُها يَعرفونَ ذلك، وكانوا عابِدين صالحين،
وكانوا يَقومونَ على رعايتِها وحمايتِها وحراستِها، ويُهَيِّئونَ لها جَوَّ العبادةِ، في المكانِ القَصِيّ الشرقي، الذي اختارَتْه شرقى مكانِ إِقامةِ أَهْلها، والذي كانت تتخذُ فيه من دونِهم حجاباً.
فهي لم تكنْ بعيدةً عن عُيونِ وحمايةِ أَهْلِها، ولم تكنْ فتاةً وحيدةً في
مكانٍ بعيد، عرضَةً للخطرِ والأَذى، إِنما كانَ أَهْلُها حارِسينَ لها مُحافظينَ
عليها.
ولم يُحَدِّد القرآنُ - ولا الحديثُ الصحيح - المدينةَ التي كانَتْ تُقيمُ فيها
مريمُ عابدةً لله، ولم يُحَدِّد المكانَ الشرقيَّ الذي كانتْ تعتزلُ فيه لعبادةِ الله،
ولم يُحدد المدةَ التي أَقامَتْها في ذلك المكان.
كلُّ هذا من مبهماتِ القرآن التي لم يَرِدْ بيانا لها في مصادرِنا الإِسلامية..
أَما ما قالَه الفادي من أَنَّ مريمَ كانتْ تُقيمُ في الناصرة، في شمالِ
فلسطين، فهذا مما نتوقَّفُ فيه، فلا نُكَذِّبُه ولا نُصَدِّقُه، لعدمِ ورودِ دليلٍ عليه عندنا..
كذلك نتوقَّفُ في ادِّعائِهِ أَنَّ مريمَ - عليها السلام - كانتْ مخطوبةً ليوسفَ النجار!!.