حول ولادةِ مريم وكلام وليدها
حول ولادةِ مريم وكلام وليدها
أَخبرَنا اللهُ أَنه بَعدما نفخَ جبريلُ في مريمَ - عليها السلام -، حَمَلَتْ بعيسى - عليه السلام -، وابتعدَتْ عن أَهْلِها مكاناً قصيّاً، وهُناكَ وَضَعَتْ وَليدَها تحتَ نَخْلَة، وأَنَّ اللهَ أَنطقَه وهو في الدقائقِ الأُولى من عمرِه، وأَرشدَها إِلى التصرفِ المناسب.
قال تعالىْ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
ورفضَ الفادي ما وردَ في القرآن، واعتبرَهُ خطأً تاريخيّاً، لمخالفتِه ما
وَرَدَ في كتابه المقدس.
قال: " لقد وَلَدَتْ مريمُ السيدَ المسيحَ في بيت لحم، كما تَنَبَّأَ أَنبياءُ التوراةِ بذلك قبلَ حدوته بمئات السِّنين، وليسَ بجوار جِذْع نخلة!..
وَوَضَعَتْ وَليدَها في مِذْوَد ألوقا: 2/ 1 - 20، وغَريبٌ أَنْ يُكَلّمَها
وَليدُهَا من تحتِها: أَنْ تَهُزَّ جذْعَ النخلة، وتأكلَ من البَلح، وتشربَ من
الجدول، فإِذا مَرَّ بها أَحَدٌ تقول: إِني نذرتُ للرحمنِ صَوْماً فلن أُكَلِّمَ اليومَ
إِنْسِيّاً! فأَينَ الصومُ وهي الآكلةُ الشاربةُ المتكلمة؟ ! " .
يَرى النَّصارى أَنَّ مريمَ وَلَدَتْ عيسى - صلى الله عليه وسلم - في بيت لحم..
ووردَ حديثٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى..
روى النَّسائيُّ عن أَنَسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُتيتُ بدابَّةٍ فوقَ الحمار، ودونَ البَغْل، خَطْوُها عندَ مُنْتَهى طَرْفِها، فركبْتُ، ومعي جبريل - عليه السلام -..
فَسِرتُ..
فقال: انْزِلْ فَصَلّ.
فنزَلْتُ فصلَّيْتُ..
فقال: أَتَدري أَينَ صَلَّيْتَ؟
صَلَّيْتَ بطَيْبَة، وإِليها المُهاجَر..
ثم قال: انزِلْ فَصلِّ.
فنزلْتُ فصلَّيْتُ..
فقال: أَتَدري أَينَ صَلَّيْتَ؟
صَلَّيْتَ بطورِ سيناء، حيثُ كَلَّمَ اللهُ - عز وجل - موسى - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: انْزلْ فَصَلِّ..
فنزلْتُ فصَلَّيْتُ..
فقال: أَتَدْري أَيْنَ صَلَّيْتَ؟.
صَلَّيْتَ ببيت لحم، حيثُ وُلِدَ عيسى - صلى الله عليه وسلم -..
ثم دخلْتُ بيتَ المقدِس، فَجُمِعَ لي الأَنبياءُ - عليهم السلام -، فقدَّمَني جبريلُ حتى أَمَمْتُهم ".
يُخبرُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المحطّاتِ التي مَرَّ بها في ليلةِ الإِسراء، عندما أُسْرِيَ به من مكةَ إِلى بيتِ المقْدِس، حيثُ أَمَرَهُ جبريلُ - عليه السلام - أَنْ يَنزلَ ويُصلِّيَ
مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها
لقد ولدت مريم السيد المسيح فى بيت لحم كما تنبأ أنبياء التوراة بذلك قبل حدوثه بمئات السنين، وليس بجوار جذع نخلة. ووضعت مريم وليدها فى مذود [لوقا 2: 2 - 20] وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول. فإذا مرّ بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟
الرد على الشبهة:
1 - ولادة المسيح فى بيت لحم - كما قال المؤلف - تدل على أن مريم من سكان الخليل التى هى حبرون، ولا تدل على أنها من سكان الناصرة. ففى خريطة فلسطين تجد بيت لحم تحت أورشليم، وبعدها حبرون. وعلى هذا تكون مريم بعد حملها بالمسيح وإحساسها بدنو الوضع. قد اتجهت إلى حَبرون (فأجاءها المخاض (عند بيت لحم. ولو كانت من الناصرة وأحست بالحمل وبالوضع. لاتجهت إلى الناصرة. وعندئذ يكون الوضع فى مكان بين أورشليم وبين الناصرة. فقولهم بالمخاض فى بيت لحم يصدق القرآن فى أنها كانت من نسل هارون الساكنين فى حبرون.
2 - وقول المعترض: إن التوراة تنبأت بولادة المسيح فى بيت لحم. يقصد به ما جاء فى سفر ميخا وهو " أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل " [ميخا 5: 2] .
والنبوءة موضوعة وليست من النص الأصلى. بدليل: أن المسيح كان من الهارونيين من جهة أمه، وبيت لحم من مدن سبط يهوذا. ولو كان له أب لأمكن للنصارى نسبته إلى سبط أبيه. ولكنه لا أب له؛ فكيف ينتسب إلى سبط يهوذا أو غير سبط يهوذا؟ وبدليل: أن المتسلط على إسرائيل وهو النبى الأمى الآتى على مثال موسى. يكون ملكاً وفاتح بلاد. ولم يكن المسيح ملكاً ولا فاتح بلاد.. وبدليل: أن سفر ميخا مرفوض من السامريين. وبدليل أن شراح سفر ميخا يصرحون بالتناقض فيه. والنبوءة من مواضع التناقض التى صرحوا بها. يقول الشراح: "هناك تعليمان متشابكان فى كتاب ميخا: الأول: الله يدين شعبه ويعاقبه [ف1 - 3: 6: 1 - 7: 7] الله يعد شعبه بالخلاص [ف 4 - 5 و 7: 8 - 20] حين يُعيده إلى حاله السابقة ويجعله بقيادة رئيس من نسل داود [5: 1 - 4] .
3 - وقد جاء فى إنجيل متى الأبوكريفى معجزة النخلة.
4 - وكلام المسيح فى المهد جاء فى برنابا وفى إنجيل الطفولية العربى، وجاء فى تاريخ يوسيفوس.
5 - وقال المعترض: إن المسيح كلم أمه من تحتها: أن تهز جذع النخلة.. إلخ. وهو قد قال بذلك على قراءة " مِن تحتها " والحق: أن الذى ناداها هو ملاك الله نفسه. وسياق الكلام يدل على أنه الملاك. فإنه قد قال لها: (كذلك قال ربك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً) ، ولما حملته وانتبذت به وأجاءها المخاض وتمنّت الموت؛ عاد إلى خطابه معها فقال: (ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلى واشربى وقرى عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) .
وأما كلام المسيح فهو لم يقل إلا (إنى عبد الله أتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيًّا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقيا والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) .
6 - المعترض قد غالط فى نقل المعنى بقوله: " وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول؛ فإذا مر بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟ ".
ووجه المغالطة: أنه يقول فإذا مر بها أحد تقول.. إلخ. والمعنى الصحيح: أنها لا تقول لكل أحد يمر عليها إنها صائمة عن الطعام والشراب. وإنما تقول: لا أتكلم مع أحد فى أمر ابنى فى هذه الأيام. فجملة (فإما ترين من البشر.. (جملة مستأنفة لا صلة لها بالطعام وبالشراب. وقولها: (إنى نذرت للرحمن صوما (تعنى به المعنى المجازى وهو الإمساك عن الكلام بدليل: (فلن أكلم (ولم تقل فلن آكل. اهـ (شبهات المشككين) .
في المدينة، التي سيهاجِرُ إِليها، وسيَموتُ ويُدْفَنُ فيها..
وأَنْ يَنزلَ ويُصَلِّيَ في طورِ سيناء، حيثُ كَلَّمَ اللهُ نبيَّه موسى - صلى الله عليه وسلم -..
وأَنْ يَنزلَ ويُصَلِّيَ في بيتِ لحم، حيثُ كانَتْ وِلادةُ عيسى - عليه السلام -..
ولم تَتَحدث الأَناجيلُ عن النخلةِ التي وَلَدَتْ مريمُ ابْنَها عيسى تحتَها،
ولذلك خَطَّأَ الفادي القرآنَ في حديثِه عن النخلَة، وأَنكرَ أَنْ يُكَلِّمَها ابْنُها من
تحتِها، ويُوَجِّهَها إِلى التصرفِ المناسِب!!.
ومَعنى قولِه تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) :
جاءَ المَخاضُ بمريمَ إِلى جِذْعِ النخلة، واضطرَّها إِلى القُدوم، وأَكْرَهَها على المجيء.
والمخاض: آلامُ الطَّلْقِ التي تَأخُذُ المرأة، عندما تَدْنو ساعَةُ ولادتِها!..
وكَأَنَّ هذا المخاضَ شَخْصٌ قوِيّ شَديد، يُخضعُ مريمَ له إِخْضاعاً ويَدْفَعُها
دَفْعاً، ويُكْرِهُها ويَضْطرُّها، ويَجعلُها تَسيرُ أَمامَه مُضطرة، إِلى أَنْ تَستندَ إِلى
جِذْعِ النخلة، وتعمدَ عليها..
وجِذعُ النخلة الذي تَقومُ عليه..
وإِضافةُ الجِذْعِ إِلى النخلةِ تَدُلُّ على أَنها نخلةٌ حيةٌ خضراءُ نامية، وليس جُزْءاً مقطوعاً يابساً ملقىً على الأَرض..
وما هي إلّا لحظاتٌ قصيرةٌ قَضتْها مريمُ تحتَ جذعِ النخلة، حتى وَلَدَتِ
انْبنها: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) .
وما هي إِلَّا لَحظاتٌ حتى خاطَبَها ابنُها الذي أَنْطَقَه الله، فَكَلَّمَها
بوضوح..
قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
استغربَ الفادي أَنْ يُكَلمَ الوليدُ أُمَّه بعدَ لحظةٍ من ولادته، لأَنَّ هذا لا
يكونُ في عالَمِ المواليد! ومَن الذي قالَ: إِنَّ كلامَه لها كان كَلاماً عاديّاً مَألوفاً
معتاداً، حتى يَستغربَ ذلك؟ !
لقد كانَ الوليدُ معجزةً خارقةً للعادة، واللهُ هو الذي أَنطقَه، وبما أَنَ هذا
من أَمْرِ اللهِ فلا غرابةَ فيه، لأَنَّ اللهَ فَعّالِّ لما يُريد، وإِذا كانَ كلامُه لأُمِّه بعدَ
لحظةٍ من ولادتِه أَمراً مُدْهِشاً، فإِنَّ حَمْلَها به من غيرِ أَبِ، وولادتَها له بعدَ
ساعاتٍ من حَمْلِها به هو الأَكثرُ دهشة! فلماذا صَدَّقَ الفَادي بالثاني الأَكثرِ
دهشةً وأَنكرَ الأَوَّل؟!.
وقد يُكَذِّبُ بعضُهم القرآنَ في حديثِه عن النخلة، التي وَلَدَتْ مريمُ ابْنَها
تَحْتَها، بزعْمِ أَنَّ مدينةَ بيت لحم ليستْ مدينةَ نخل، لأَنها منطقةٌ باردةٌ نسبيّاً،
والنخلُ يَحتاجُ إِلى أَرضٍ دافئة.
واتفقَ الإِخباريّون على أَنه كانتْ في كنيسةِ المهْدِ في بيت لحم نخلةٌ
كبيرة، وهذه النخلةُ ماتَتْ وقُطعتْ فيما بعد.
ومَرَّ الشيخُ عبدُ الوهّاب النجارُ مؤلِّفُ كتابِ " قَصَصِ الأَنبياء " بكنيسةِ
المهدِ في مطلعِ القرنِ العشرين.
قال: " وأَقولُ أَيضاً: إِنَّ وُجودَ النخلِ ببيت لحم - وهي البلدةُ التي كانتْ بها مريمُ يومَ ولادهِ المسيح - نادر..
وقد رأيتُ بكنيسةِ بيت لحم المبنيةِ على موضعِ ولادةِ المسيح مكاناً قد " قُوِّرَ " البَلاطُ فيه..
ويقولون: إِنَّ في موضعِ هذا التقويرِ كانت النخلةُ التي وَلَدَتْ عندَها
مريمُ..".
وأَخبرَنا اللهُ أَنَّ الوَليدَ عيسى خاطبَ أُمَّه قائلاً: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
السَّرِيّ هو جدولُ الماء.
فاللهُ أَنبعَ لمريمَ عينَ ماءٍ إِكراماً لها، ودَعا الوليدُ أُمَّهُ إِلى رؤيةِ ذلك السَّرِيّ، والشربِ من مائِه.
كما أَنه دَعاها إِلى أَنْ تَهُزَّ جِذْعَ النخلة، فيتساقَطَ عليها الرطبُ الناضج، فتأكلَ منه.
ويَعتقدُ النَّصارى أَنَّ ولادةَ عيسى - صلى الله عليه وسلم - كانَتْ في شهرِ كانونِ الأَول، أَيْ
في الشتاء، ومن المعلومِ أَنه لا يَكونُ على النخلِ بَلَحٌ ولا تَمْرٌ ولا رُطَبٌ في
الشتاء، لأَنَّ البلحَ ينضجُ في الصيْف، وقد يَستغربُ بعضهم وُجودَ رُطَبِ على النخلةِ التي لجأَتْ مريمُ إِليها!.
والراجحُ أَن اللهَ أَثمرَ النخلةَ إِثْماراً مُعْجِزاً، إِكراماً لمريم، مثلَ ما أنبعَ
لها عينَ الماء، فمن المتفقِ عليه أَنَّ النخلةَ لا تُثمِرُ في الشتاء، ولكنَّ اللهَ جَعَلَ
تلك النخلةَ تُثمر، وجَعَلَ تَمْرَها رُطَباً، واللهُ سبحانه فَعّالٌ لما يُريد.
واعترضَ الفادي لغَبائِه على قولِه تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
وحملَ الصومَ في الآيةِ على الصيامِ المعروف، الذي هو الإِمساكُ عن الطعامِ والشراب.
ولذلك تساءَلَ بغَباء: " فأينَ الصومُ وهي الآكلةُ الشاربةُ المتكلمة؟ ! ".
الصومُ هنا ليس بمعنى الإِمساكِ عن الطعام والشراب، وإِنما هو بمعنى
الإِمساكِ عن الكلام، وهو ما تُفَسرُه بقيةُ الآية: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ..
فصومُها بامتناعِها عن تكليمِ أَيّ إِنسان.
وهي لم تنطقْ بهذه الجملة: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) بلسانِها، إِذْ إنها لو نطقَتْ بها لما كانَتْ صائمةً عن الكلام..
وإِنما كانَتْ توحي للذي تراهُ بإِشاراتِ يَدَيْها ومَلامحِ وجْهِها، بحيثُ يَفهمُ منها أَنها صائمةٌ عن الكلام..
واعتبرت الآية ُ هذه الإِشاراتِ المفهمةَ قَوْلاً: "فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي) .
ولماذا امتناعُها عن الكلام؟
لأَنها في موقفِ تُهْمَة، ومهما تَكَلَّمتْ فلن يسمعوا لها.
ولقد أَنطقَ اللهُ وَليدَها ليُدافعَ عنها.
ولذلك لما وَصَلَتْ قومَها، وفوجئوا بالغلامِ على حِضنِها، ولاموها مُتَعَجّبين، لم تَتكلمْ بكلمة، وإِنما أَشارتْ إِليه، فتكلَّمَ هو وسْطَ ذُهولِ المستمعين.
قال تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) .
فلا خَطَأَ في ما قالَه القرآنُ عن ولادةِ مريم، وإِنما أَفهامُ الفادي وقومِه
هي القاصرة، لأَنها لم تُحسنْ فهمَ الآياتِ المتحدثةِ عن مريمَ وابنِها - عليهما السلام.