من هو المصلوب؟
من هو المصلوب؟
الْتَبَسَ على النَّصارى صَلْبُ عيسى - عليه السلام -، كما الْتَبَسَ على اليَهود..
وحَلَّ القراَنُ الإِشكالَ، وأَزالَ اللَّبْسَ، لكنَّ النَّصارى لم يُصَدِّقوا القرآن.
قال الله - عز وجل -: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
واعترضَ الفادي على نَفْيِ القرآن قَتْلَ عيسى - عليه السلام - وصَلْبَه، واعتبرَه خَطَأً من أَخطاءِ القرآن، واستغربَ من إِنكارِ القرآنِ أَمْراً مُجْمَعاً عليه بينَ اليهودِ والنصارى واليونان والرومان.
ونُسجلُ اعتراضَ الفادي قبلَ أَنْ نفَنِّدَه: " لماذا ينكرُ القرآنُ صَلْبَ المسيحِ
وقَتْلَه بأَيدي اليهود، مع أَنَّ اليهودَ يَعْترفون بذلك، والنصارى يُؤَكِّدونه
ويَفْتَخرون به؟
والإِنجيلُ كُلّه هو خَبَرُ صَلْبِ المسيحِ والبشارةِ به، كَفادٍ للبشر؟.
ويذكُرُ القرآنُ في مواضعَ أُخْرى موتَ المسيحِ وقيامتَه، وارتفاعَه إِلى
السماء.
كقوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، وفيه يَقولُ المسيحُ: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، ويقولُ أَيضاً: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
أَليسَ غريباً أَنْ يَجيءَ مَنْ يُنكرُ صَلْبَ المسيحِ بعدَ حدوثِه بستمئة سنة؟! " .
إِنَّ حادثةَ الصَّلْبِ حقيقةٌ تاريخية، سَجَّلَها اليونانُ والرومانُ واليهودُ
والمسيحيون..
وفي مجمع " نيْقية " الذي انعقدَ سنةَ (325 م) كتبَ أَساقفةُ العالَم
المسيحيِّ قانونَ الإِيمان، مُقَرّراً صَلْبَ المسيحِ لأَجْلِ خَلاصِنا، وهو القانون
إنكار الصَّلب
إن القرآن ينكر صلب المسيح. والتاريخ يثبته.
الرد على الشبهة:
إن العلّة المترتبة على صلب المسيح هى غفران خطايا من يؤمن به ربًّا مصلوباً والغفران لكل من كان فى المدة من آدم إلى المسيح إذا قدّر أنهم لو كانوا له مشاهدين، لكانوا به مؤمنين. فهل هذه العلة صحيحة؟
بالتأكيد ليست بصحيحة. وذلك لأن آدم لما أخطأ هدته الحكمة أن يعترف بخطئه وأن يتوب. فتاب الله عليه. وإذ هو قد تاب، فأى فائدة من سريان خطيئة آدم فى بنيه؟ ففى سفر الحكمة: " والحكمة هى التى حمت الإنسان الأول أب العالم الذى خلق وحده لما سقط فى الخطيئة؛ رفعته من سقوطه، ومنحته سلطة على كل شىء" [حك 10: 1 - 2] .
وفى التوراة: أن نجاة المرء من غضب الله يكون بالعمل الصالح حسبما أمر الله. ومن لا يعمل بما أمر الله؛ فإنه لا يكون له نجاة. ففى سفر الحكمة عن نوح - عليه السلام - وولده: " وعندما غاصت الأمم فى شرورها؛ تعرفت الحكمة برجل صالح، وحفظته من كل عيب فى نظر الله، وجعلته قويًّا يفضل العمل بأمر الله على الاستجابة إلى عاطفته تُجاه ولده " [حكمة 10: 5] .
انظر إلى قوله " تجاه ولده " أى ولده الذى غرق لعدم إيمانه وعمله. وهذا النص من سفر الحكمة عن " ولده " ليس له نظير فى قصة نوح الموجودة فى التوراة العبرانية.
ويقول المسيح عيسى - عليه السلام -: " كل كلمة فارغة يقولها الناس؛ يُحاسبون عليها يوم الدين. لأنك بكلامك تُبرّر، وبكلامك تُدان " [متى 12: 36 - 37] .
وفى التوراة: " لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيئته يُقتل " [تث 24: 16] .
وفى الأناجيل أن المسيح بعد حادثة القتل والصلب؛ ظهر أربعين يوماً للحواريين، وتكلم عن ملكوت الله معهم. وهو ملكوت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففى بدء سفر أعمال الرسل: " الذين أراهم أيضاً نفسه حيًّا ببراهين كثيرة بعدما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً، ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله " [أع 1: 3] وظهوره وكلامه عن الملكوت؛ يدلان على استمراره فى الدعوة. اهـ (شبهات المشككين) .
الذي يَتْلوهُ كُلُّ مسيحي في كُلّ كنيسة، في كلِّ مكانٍ وزمان! وآثارُ المسيحيينَ في القرونِ العشرين الفائتة في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ تحملُ شاراتِ الصليب؟
فكيفَ ينكرُ أَحَدٌ تاريخيةَ الصليب؟! ".
يُؤمنُ كُلّ النصارى أَن اليهودَ والرومانَ قَتَلوا عيسى - عليه السلام - وصَلَبوه، وأَنَ روحَه خرجَتْ على الصَّليب، وبعد ثلاثةِ أيامٍ من دفْنِه رُدَّتْ إِليه روحُه، فقام من قَبْرِه، وصَعَدَ إِلى السماء!.
وكانَ اليهودُ يَتَباهون ويَتَفاخَرون بقتْلِ عيسى - عليه السلام -، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ..
أَما النَّصارى فقد جَعَلوا الصليبَ جُزْءاً من عقيدتِهم ودينهم، والشعارَ المميزَ لهم عن باقي أَتْباعِ الأَدْيان، وَوَضَعوا الصليبَ في أَعناقِهم وعلى كنائِسهم وملابِسهم ومرافقِ حياتهم..
فإِذا نفى القرآنُ صَلْبَ عيسى - عليه السلام - نَفْياً صَريحاً فإِنَ النصرانيةَ تَتَهاوى من أَساسِها، ولذلك كَذَّبَ الفادي القرآنَ في نفيهِ صَلْبَ عيسى - عليه السلام -.
وعندَ النظرِ في كَلامِ القرآنِ عن الصَّلْب نَرى أَنه لم يَنْفِ الصَّلْبَ جملةً
وتَفْصيلاً، وإِنما نفى صلبَ عيسى - عليه السلام -، وكَذًّبَ اليهودَ في ادعاءِ ذلك..
قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ؟
فنفى أَنْ يَكونوا قَتَلوا عيسى - عليه السلام - أَوْ صَلَبوه.
ويُقررُ القرآنُ أَنَّ المختَلِفين في موضوعِ القتلِ والصلبِ من اليهودِ
والنَّصارى في شكٍّ منه، لم يَصِلوا إِلى اليقين، لأَنهم لا يَنْطَلقونَ من العِلْم،
وإِنما يَتَّبِعونَ الظَّنَّ، والظَّنّ لا يوصِلُ إِلى يَقين: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ... .
ويؤكِّدُ القرآنُ مرةً أُخرى أَنهم لم يَقْتُلوا عيسى يَقيناً، لأَنَّ اللهَ العزيزَ
الحكيمَ رَفَعَهُ إِليه: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
وتَدلُّ الجملُ القرآنيةُ السابقةُ على أَنَّ القرآنَ لم يَنْفِ الصلبَ مُطْلَقاً،
وإِنما نفى صَلْبَ عيسى - عليه السلام -، فاليهودُ والرومانُ أَرادوا صلْبَ عيسى - عليه السلام -، ولكنَّ اللهَ حَماهُ وعَصَمه منهم، ورفَعَهُ إِلى السماءِ حَيّاً بِجسْمِه وروحِه..
أَمّا هم فقد صَلَبوا رَجُلاً آخَر، وكُل ظَنَهم أَنه عيسى! فقالَ اليهود مُتَبَجّحين: إِنّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله.
معنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) : شُبهَ لهم أَمْرُ الصلْبِ والقَتْل،
والْتَبَسَ عليهم، وَوَقَعوا في لَبْسٍ وشَبَهٍ بشأنِه! وهذا معناهُ أَنهم قَتَلوا وصَلَبوا
شَخْصاً مَشْبوهاً، وكلُّ ظَنَهم أَنه عيسى، مع أَنَ المقتولَ المصلوبَ لم يكنْ
عيسى، إنما كانَ شَخْصاً آخَر.
ومعنى قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ) : لم يقتل
اليهودُ عيسى - عليه السلام - يَقيناً، ولم يكن الشخصُ المقتولُ المصلوبُ عيسى حقيقة، إِنما كانَ شَخْصاًاَخَرَ غَيْرَه، بينما كان عيسى - عليه السلام - في السماء!!.
وهذا معناهُ أَنَّ هُناكَ شخصاً مقتولاً مصلوباً، يَجزمُ اليهودُ والنصارى
والرومانُ وغيرُهم أَنه المسيحُ عيسى ابنُ مريم رسولُ الله، ويَنفي القرآن الذي أَنزلَه اللهُ بعد ستمئة سنةٍ من الحادثةِ أَنْ يكونَ عيسى، ويُشيرُ إِلى أَنَّه شخصٌ آخرُ غير عيسى!! فمن هو هذا الشخصُ الآخَرُ المقتولُ المصلوب؟!.
لم يتحدَّثْ عنه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ صحيحٍ مرفوع، وذَكَرَ قَصَّتَه الصحابى الجليلُ عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما -.
وهو أَصَحُّ ما جاءَ في مصادِرِنا الإِسلامية، بشأنِ الأحداث الخطيرة في تلك الليلة، ورواية ابن عباس تتفق مع حديث القرآن عن عدم قَتْلِ عيسى وصَلْبِه، وتُشيرُ إِلى شخصيةِ القَتيل.
ونسجل فيما يلي رواية ابن عباس، وتمهيد ابن كثير لها، وحديثه عن
أحداث تلك الليلة المثيرة:
قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيره: " وكانَ من خبرِ اليهودِ - عليهم لَعائنُ اللهِ وسَخَطُه وغَضَبُه وعِقابُه - أَنه لما بَعَثَ اللهُ عيسى ابنَ مريم بالبيناتِ والهدى، حَسَدوه على ما آتاهُ اللهُ من النبوة، والمعجزاتِ الباهراتِ التي كان يُبرئُ بها الأَكْمَهَ والأَبرصَ
ويُحيي الموتى بإِذْنِ الله ...
فخالَفوه وكَذَّبوه، وسَعَوْا في أَذاهُ بكُل ما أَمْكَنَهم، حتى جعلَ نبيُّ اللهِ عيسى - عليه السلام - لا يُساكنُهم في بلدة، بل يُكثرُ السياحةَ هو وأُمُّه ...
ثم لم يُقْنِعْهم ذلك حتى سَعَوا إِلى ملكِ دمشق في ذلك الزمان - وكانَ
رَجُلاً مشركاً من عبدةِ الكواكب، وكانَ يُقالُ لأهْلِ مِلَّتِه: اليونان - وأَنْهَوْا إِليه أَنَّ في بيتِ المقدسِ رجلاً يَفتنُ الناسَ ويُضلُّهم، ويُفسِدُ على الملكِ رعاياه.. فغضبَ الملكُ من هذا، وكتبَ إِلى نائبِه بالقُدْس، أَنْ يَحتاطَ على هذا
المذكور، وأَنْ يَصْلُبَه، ويَضَعَ الشوكَ على رأْسِه، ويكفَّ أَذاهُ عن الناس..
فلما وَصَلَ الكتابُ امتثلَ والي القدس ذلك.
وذهبَ هو وطائفة من اليهودِ إِلى البيتِ الذي فيه عيسى - عليه السلام -، وهو في جماعةٍ من أَصحابِه، اثْنَيْ عشر رجلاً.
فلما أَحَسَّ عيسى بهم، وأَنه لا مَحالةَ من دخولِهم عليه، أَو خروجِه
إِليهم، قالَ لأَصحابِه: أَيكم يُلْقى عليه شَبَهي، وهو رفيقي في الجنة؟.
فانتدبَ لذلك شابٌّ منهم، فكأَنه استصغَرَه، فأَعادَها ثانيةً وثالثة، وكُلّ
ذلك لا يَنْتِدبُ إِلّا ذلك الشّابّ ...
فقالَ له عيسى: أَنتَ هوإ! وأَلقى اللهُ شَبَهَ عيسى عليه، فكأَنَّه هوإ!.
وفُتِحَتْ " رُوزَنَة " من سَقْفِ البيتِ، وأَخَذَتْ عيسى - عليه السلام - سِنَة من النوم، فرُفعَ إِلى السماءِ وهو كذلك ...
فلما رُفعَ عيسى من سَقْفِ البيت، خَرَجَ أُولئك النفرُ من البيت.
فلما رأى اليهودُ والجنودُ ذلك الشابَّ ظَنّوه عيسى، فأَخَذوهُ فى الليل
وصَلَبوه، وَوَضَعوا الشوكَ على رأْسهِ..
وأَظهرَ اليهودُ أَنهم سَعَوْا في صَلْبِه، وتَبَجَّحوا بذلك..
وسَلَّمَ لهم طوائفُ من النصارى ذلك؟
لجهْلِهِم وقلةِ عَقْلِهم..
ما عدا مَنْ كانَ في البيتِ مع المسيح، فإِنهم شاهَدوا رَفْعَه..
وأَما الباقونَ فإِنهم ظَنُّوا كما ظَنَّ اليهودُ أَنَّ المصلوبَ هو المسيحُ ابنُ مريم ...
حتى ذَكَروا أَنَّ مريمَ جَلَسَتْ تحتَ ذلك المصلوبِ وبَكَتْ.
وهذا كلُّهُ من امتحانِ اللهِ لعبادِه، لما لَه في ذلكَ من الحكمةِ البالغة.
وقد أَوضحَ اللهُ الأَمْرَ وجَلّاه وأَظْهَرَه وبَينَه في القرآنِ العظيم، الذي أَنزلَه على رسولِه الكريمِ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ بَينَ أَنهم ما قَتَلوا عيسى - عليه السلام - وما صلَبوه، ولكن شُبِّهَ لهم، حيثُ أَلْقى اللهُ شَبَهَه على ذلك الشّابّ، فَبَدا لهم عيسى، فقَتَلوه وصَلَبوه، ظانّينَ أَنَّه عيسى! وأَخبرَ اللهُ أَنَّ الذينَ اخْتَلَفوا في عيسى - عليه السلام - من اليهودِ الذين ادَّعَوْا قَتْلَه، والنصارى الجُهّالِ الذين سَلَّموا لهم بذلك، كُلُّهم في
شَكٍّ وحَيْرةٍ وضلالٍ من ذلك! وأَخبرَ أَنهم ما قَتَلوه مُتَيَقنِين أَنه هو، وإِنما كانوا شاكّين مُتَوَهِّمين ...
قالَ ابنُ عباسٍ رضتها: " لما أَرادَ اللهُ أَنْ يرفعَ عيسى - عليه السلام - إِلى السماء، خَرَجَ على أَصحابِه، وفي البيتِ اثْنا عَشَرَ رَجُلاً من الحواريّين، خَرَجَ عليهم من عينٍ في البَيْت، ورأسُه يَقطرُ ماءً، فقالَ إِنَّ منكم مَنْ يكفرُ بي اثنتَي عَشْرَةَ مرة، بعد أَنْ آمَنَ بي!.
ثم قال: أيكم يُلْقى عليه شَبَهي، فيُقْتَلُ مكاني، ويَكونُ معي في دَرَجتي؟.
فقامُ شابّ من أَحْدَثِهم سِنّاً، فقالَ له: اجلسْ، ثم أَعادَ عليهم، فقامَ
ذلك الشابُّ، فقالَ له: اجلسْ! ثم أَعادَ عليهم، فقامَ ذلك الشاب، فقال: أنا! فقالَ له عيسى - عليه السلام -: هو أَنت!!.
فأُلْقِيَ عليه شَبَهُ عيسى - عليه السلام -، ورُفِعَ عيسى من " روزَنَةٍ " في البيتِ إِلى السماء، وجاءَ الطَّلَبُ من اليهود، فأَخذوا الشَّبَهَ، فَقَتَلوه، ثم صَلَبوه.. ".
وعلى ضوءِ كلامِ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - وابنِ كثيرٍ - رحمه الله -، يمكنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أَحداثَ تلك الليلةِ المثيرةِ كما يَلي:
1 - نجحَ اليهودُ في إِقناعِ الحاكمِ الروماني في إِلقاءِ القبضِ على
عيسى - عليه السلام -.
2 - توجِّهَتْ مجموعةٌ من الجنودِ الرومانِ واليهودِ إِلى المكانِ الذي فيه
عيسى - عليه السلام -.
3 - كان عيسى - عليه السلام - في أَحَدِ بيوتِ القُدْس في تلك الليلة، وكانَ معه اثْنا عَشَرَ رَجُلاً من الحوارِيّين.
4 - عَلِمَ عيسى - عليه السلام - بقدومِ الجنودِ لاعْتِقالِه وقَتْلِه، فلم يَخَف ولم يَقْلَقْ ولم يَحْزَنْ، لأَنَّه يوقنُ أَنَّ اللهَ معه، بِحِفظِه وعنايتِه ورعايتِه.
5 - أَخبرَ اللهُ عيسى - عليه السلام - أَنهم لن يَصِلوا إِليه، وطَلَبَ منه أَنْ يَنتدبَ من أَتْباعِه شاباً، ليُلقيَ شَبَهَهُ عليه.
6 - أَخبرَ عيسى - عليه السلام - الحواريّين أَنَّ الله سيحميه، وعَرَضَ عليهم أَنْ ينتدبَ أَحدهم ليفديَه بنفسِه، بأَنْ يُلْقى عليه شَبَهُه، فيُؤْخَذَ ويُقْتَلَ ويَموتَ شهيداً، ويكونَ معه في الجنة.
7 - استجابَ لعيسى - عليه السلام - شابٌّ من أَصْغَرِ الحوارِيّين سِنّاً، وبقيَ اسْمُه مبهماً.
8 - أَجرى اللهُ على ذلك الشابِّ الفدائيِّ آيَتَه الخارقة، فَحَوَّلَه إِلى
عيسى، بأَنْ أَلْقى شَبَهَه عليه، بحيثُ لا يَشُكُّ مَنْ رآهُ أَنه عيسى.
9 - رَفَعَ اللهُ رسولَه عيسى - عليه السلام - إِلى السماء، بعدَ أَنْ أَلْقى عليه النَّوْم، وكانَ الحوارتون معه في البيت، فرأَوْه وقد أُلْقِيَ عليه النوم، ورأَوْهُ وهو يُرْفَعُ من فتحةٍ في البيت!.
15 - لما دخلَ الجنودُ واليهودُ البيتَ، رأَوْا أَمامَهم " عيسى "، وهو في
الحقيقةِ " عيسى المُتَحَولُ "، شبيهُ النبي عيسى الذي رُفِعَ إِلى السماء.
11 - أَخَذَ الجنودُ عيسى المتحوِّلَ، وهم لا يَشُكّونَ أَنه عيسى
المطلوبُ، ولم يَنْفِ الشابّ أَنَّه عيسى.
12 - لا نَعرفُ ماذا جَرى للحوارِيّين الأَحَدَ عَشَرَ الذين كانوا في البيت،
هل هَرَبوا أَم اعْتُقِلوا، أَم اعْتُقِلَ بعضُهم وهربَ آخرون.
13 - أَخَذَ الجنودُ " عيسى الثاني الشّبِيه "، وصَلَبوهُ على الخشبة، وقَتَلوهُ
على الصَّليب، ولقيَ وَجْهَ اللهِ شهيداً، بينما كان عيسى الرسولُ - عليه السلام - في السماء.
14 - كان الناسُ يَأتونَ إِلى الشّابِّ المقتولِ المصلوب، ولا يَشُكونَ أَنه
عيسى، لأَنَّ اللهَ أَلْقى شَبَهَه عليه، فأَنزلوه عن الصَّليبِ ودَفَنوه.
15 - كان اليهودُ فَرِحين شامِتين، لأَنهم قَتَلوا عيسى وصَلَبوه، وأَذاعوهُ
في الناس، وقالوا: إِنا قَتلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله..
بينما كانَ القتيلُ عيسى الشبيه.
16 - لَم يَعلم النَّصارى ماذا جَرى من معجزاتٍ ربانيةٍ في تلك الليلة،
وأَيْقَنوا أَنَّ الشابَّ الذي خَرَجَتْ روحُه على الصليب، ودُفِنَ في الأَرضِ هو
عيسى رسولُ الله، عليه الصلاة والسلام، وقالوا: قَتَلَ اليهودُ رسولَنا
وصَلَبوه.
17 - صَبَّ اليهودُ والرومانُ العذابَ على الحوارِيّين والمؤمنين
بعيسى - عليه السلام -، وقَتَلوا منهم وصلَبوا، وشَرَّدوا وطَرَدوا..
ولم يلتقطْ ذلك الجيلُ من النصارى أنفاسَهم ليُفَكِّروا بتَأَن وتَمَهُّلٍ فيما جرى في تلك الليلةِ المثيرة.
18 - بقيتْ حقيقةُ ما جَرى في تلك الليلةِ خافيةً على اليهودِ والنصارى،
وهم يوقنون أَنَّ المقتولَ المصلوبَ هو عيسى رسولُ الله عليهِ الصلاة والسلام، حتى بَعَثَ اللهُ محمداً رسولاً - صلى الله عليه وسلم -، بعد ستة قُرون، وأنزل عليه القرآن، وَوَضَّحَ حقيقةَ الأَمْرِ وأَزالَ اللبس، وذَكَرَ أَنَّ المصلوبَ هو ذلك الشابُّ الفدائيُّ الشهيد، وأَنَّ عيسى الرسولَ - عليه السلام - في السماء!!.
معى قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)
ادّعى الفادي أَنَّ القرآنَ ذَكَرَ موتَ عيسى - عليه السلام -.
قال: " ويذكُرُ القرآنُ في مواضِعَ أُخرى موتَ المسيح، وقيامتَه وارتفاعَه إِلى السماء، كقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، وقوله: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) .
وقوله: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
وهذا فهمٌ خاطى للآياتِ الثَّلاث، فهي لا تتحدَّثُ عن موتِ عيسى - عليه السلام - على الصليب، ثم دفنِه وقيامتِه، وإِنما تتحدَّثُ عن موتِه، وبعثِه يومَ القيامة.
معنى آيةِ سورةِ مريم: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) :
أَنَّ اللهَ سيمنَحُه السلام، ويُنْجيه من الخَطَرِ في المواطنِ الثلاثةِ التي
يتعرَّضُ فيها الإِنسانُ لخطرٍ كبير: يومَ ميلادِه، ويومَ موتِه، ويومَ بعثِه حَياً يومَ القيامة!.
والمرادُ بقولِه: (وَيَومَ أَمُوتُ) : موتُه الحقيقيُّ بعدَ إِنزالِه على الأَرضِ
قُبَيْلَ قيامِ الساعة، حيثُ سيُنزلُهُ اللهُ حاكِماً بدينِ الإِسلام، وسيكسرُ الصَّليب ويقتلُ الخنزير، ويضعُ الجزية، ويُقاتلُ النَّصارى، ولا يقبلُ منهم إِلّا
الإِسلام..
ثم يموتُ الموتةَ التي كَتَبَها اللهُ على كُلّ مخلوقٍ حيٍّ، ثم يُصَلي
عليه المسلمونَ ويَدفنونه.
والمرادُ بقوله: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) : بَعْثُه يومَ القيامة، معَ باقي الأَنبياءِ
والإِنسِ والجِنّ.
فليس المرادُ بقولِه: (وَيَومَ أَمُوتُ) : موتَهُ على الصليبِ وخروجَ روحِه
عليه.
كما أَنه ليس المرادُ بقولِه: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) : قيامَه من قبرِه الذي دَفَنوهُ
فيه، بعد ثلاثةِ أَيامٍ من صَلْبِه ودَفْنِه.
أمّا معنى آيةِ سورةِ آلِ عمران: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فإِنه
يَحتاجُ إِلى توضيح، لنفيِ اللَّبْسِ وحَلِّ الإِشكال.
(مُتَوَفِّيكَ) في الآيةِ خبرُ " إِنَّ " مرفوعٌ بضمةٍ مقدَّرَةٍ على الياء، وهو اسْمُ
فاعلٍ من الفعلِ الخُماسيّ: تَوَفّى.
تقول: تَوَفّى، فهو المتوفِّي.
والتوفّي في القرآنِ قد يُسْنَدُ إِلى الله.
قالَ تعالى: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) .
وقد يُسْنَدُ إِلى الملائكة؟
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) .
وقد يُسْنَدُ إِلى مَلَكِ الموت؟
قالى تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) .
وقد يُسْنَدُ إِلى الموتِ نفسِه؟
قالى تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
والتَّوَفّي المسنَدُ إِلى اللهِ في القرآنِ ليس كُلُّه بمعنى الموت، بل إِنه يَرِدُ
فيه بمعنَيَيْن:
الأوَّل: الموتُ.
فاللهُ يتوفّى الناسَ. أَيْ: يُميمُهم ويَقبضُ أَرواحهم.
قال تعالى: (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ، وقالى تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) .
الثاني: النّومُ.
فاللهُ يتوفّى النّاسَ.
أَي: يجعلُهم يَنامون.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) .
ومعنى الآية: اللهُ يجعلُكم تَنامون في الليل، ويَقبضُ أَرواحَكم أَثناءَ
نومِكم، ثم يُعيدُ أَرواحَكم إِلى أَجسادِكم عند استيقاظِكم، ويبعثكم في النهار.
وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
اعتبرت الآيةُ النومَ مَوْتاً، وقَسَّمَت الناسَ بِالنوم إِلى قسمَيْن:
هناك أُناسٌ يَنامونَ، ويَموتون أَثناءَ النّوم، لأَن اللهَ أَنهى آجالَهم أَثناءَ النوم،
وقبضَ أَرواحَهم، ولم يُرْجِعْها إِلى أَبدانهِم: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) .
وهناك أُناسٌ يَنامونَ، ويتوفّى اللهُ أَرواحَهم أَثناءَ النوم، ثم يُعيدُها إِلى
أجَسادِهم عند الاستيقاظ، لأَنه بَقيَتْ في أَعمارِهم بقية: (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
والفريقان يتوفّاهم اللهُ أَثناءَ نَومِهم: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) ..
والتوفّي معناه القبضُ، أَيْ: اللهُ يَقبضُ أَرواحَ الأنفس كُلِّها حينَ نومِها، فإِن انتهى عُمْرُ بعضِ الأَنفسِ أَمسكَ أَرواحَها أَثناءَ نومِها، وإِنْ بقيتْ في عمرِ بعضِ الأَنفسِ بقيةٌ أَعادَ لها أَرواحَها.
وتدلُّ الآياتُ السابقةُ على أَنَّ التوفّي في القرآنِ بمعنى: " القبضِ "
والتغييب.
وهذا القبضُ والتغييبُ نوعان: قبضُ نَوْمٍ.. وقَبْضُ مَوْت.
فالتوفّي في القرآنِ نوعان: تَوَفّي نَوْم.. وتوفّي مَوْت.
والمعْنَيانِ مذكورانِ في قصةِ عيسى - عليه السلام -: فاللهُ تَوَفّى عيسى - عليه السلام - تَوفّي نَوم، ثم سيتوفَّاهُ توفّي مَوْت ...
التوفّي الأوَّل: وَرَدَ في قولِهِ تعالى: (إِد قَالَ اَدفَهُ يَعِيممَئَ إِقِ مُتَوَفيلثَ
وَرَافِعُكَ إِلَىَّ) : أَي: إِنَّني أُلْقي عليكَ النَّوْم، وأَتَوَفّاكَ تَوَفّي النَّوْم، وأَقبضُكَ أَثناءَ نومك، وأَرفعُك إِلَيَّ وأَنت نائم، وأُطَفَرُكَ من الذينَ كفروا.
التوفي الثاني: وَرَدَ في قوله تعالى: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: لما أَمَتَني وقَبَضتَ روحي، كنتَ أَنْتَ الرقيبَ عليهم.
والخلاصةُ: توفّى اللهُ عيسى - عليه السلام - تَوَفي نَوْم، وذلك عندما أَتاهُ الجنودُ واليهودُ لقَتْلِه وصَلْبِه، فحماهُ اللهُ منهم، وأَلْقى عليه النوم، وتوفّاهُ وقَبَضَه أثناءَ نومِه، ورَفَعَه إِليه، وجَعَلَه في السَّماء، وهو حيّ بروحِه وجسمِه في السماءِ، حياةً خاصةً معجزة، ليستْ كحياتِنا..
وسيَنزلُ قُبيلَ قيامِ الساعة.
وسوفَ يَتَوَفَّى اللهُ عيسى - عليه السلام - تَوَفي الموت، عِندما يُنزلُه في آخِرِ الزمان، ويَعيشُ بين المسلمين ما شاءَ اللهُ له أَنْ يَعيش..
ثم يتوفّاهُ اللهُ بقبضِ روحهِ وموته ...
هذا ما قَرَّرَهُ القرآنُ بشأنِ تَوَفّي عيسى - عليه السلام -، وهو الحَق الذي لا خَطَأَ فيه والله أَعلم!! ..
المسألة الثانية:
اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات:
الصفة الأولى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها
والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها،
أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن
والثاني: {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع
وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه
الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42] .
الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سينزل ويقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.
الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [النساء: 113] .
والوجه السابع: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن: أن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً.
قلنا: قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.
الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم. اهـ (مفاتيح الغيب 8 / 60 / 61)