الرخصة لمن أكره على الكفر
الرخصة لمن أكره على الكفر
رَخَّصَ اللهُ لمنْ أُكْرِهَ على الكفرِ أَنْ يَنطقَ بكلمةِ الكُفْر.
قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) .
تُهَدِّدُ الآية ُ من ارْتَدَّ عن الإِسلام، وعادَ إِلى الكفر، وشَرَح صَدْرَه
بالكفر، وتتوعَّدُه بالغضبِ من الله، والعذابِ العظيمِ في الآخرة.
و" مَنْ " في أَوَّلِ الآيةِ اسْمُ شرْط.
وجملةُ (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) فعْلُ الشرط، وجَوابُ الشرطِ مَحْذوف، والتقدير: فهو مُؤاخَذٌ مُعَذَّب.
والمعْنى: مَنْ كَفَرَ باللهِ مُخْتاراً راضياً، وعادَ إِلى الكفرِ بعدَ الإِيمان، برضاهُ واختيارِه، فهو الملعونُ المغضوبُ عليه الخاسرُ.
وتَستثني الآية ُ من التهديدِ والوعيدِ الذي أُكْرِهَ على الكفر، وتُرَخِّصُ له
بالنطقِ بكلمةِ الكفرِ بسببِ الإِكراه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) .
ونزلت الآية في ما جَرى لعمارِ بنِ ياسر - رضي الله عنه -، عندما أَكْرَهَه الكفارُ على النطقِ بكلمةِ الكفر.
قال ابنُ كثير: " عَنْ أبي عبيدةَ محمدِ بنِ عمارِ بنِ ياسر قال: أَخَذَ المشركونَ
عَمّارَ بنَ ياسر، فَعَذَّبوهُ حتى قارَبَهم في بعضِ ما أَرادوا، فشكا ذلك إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " كيفَ تَجِدُ قَلْبَك؟ ".
قال: مطمئِناً بالإِيمان.
قال: " إِنْ عَادوا فَعُدْ..
" فأَنزلَ اللهُ قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) ..
ولما أرادَ الفادي أَنْ يُثيرَ إِشكالاً على الآية، ذَهَبَ إِلى تفسيرِ البيضاوي،
ونَقَلَ منه ما قيلَ عن نُزولِ الآيةِ فيما جَرى لعمارِ بنِ ياسر - رضي الله عنه -، وهو بمعنى الروايةِ السابقةِ عندَ ابنِ كثير في تفسيره.
وعَلَّقَ البيضاويُّ على الآيةِ والروايةِ بقوله: " وَهوَ دَليلٌ على جَوازِ التكلمِ بالكفرِ عندَ الإِكراه ... ".
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ البَيْضاويِّ بقوله: " ونحنُ نسأل: هل من الأَمانَةِ
أَنْ يُزَوِّرَ الإِنسانُ في عقيدتِه ويُنْكِرَ إِلهه الحَيَّ في سبيلِ إِرضاءِ النّاس؟
قالَ المسيحُ: ومَنْ أَنْكَرَني قُدّامَ الناس، يُنْكَرُ قُدّامَ ملائكةِ الله ".
واعتراضُ الفادي على الآيةِ لا قيمةَ له، لأَنَّ الآيةَ تتحدَّثُ عن رخصةٍ
رَخَّصَ اللهُ بها لبعضِ المسلمين، أَنْ يَنْطِقوا بكلمةِ الكفر، عندما يُكْرَهون على
ذلك، بمعنى أَنهم إِنْ لم يَنْطِقوا قُتِلوا، وبعضُ الناسِ قد يُحِبُّ الحياةَ، فتُجيزُ
له الآيةُ ذلك بشرطِ أَنْ تكونَ كلمةً باللسان، للنَّجاةِ من القَتْل، وأَنْ يكونَ
القلبُ مطمئِنّاً بالإِيمان.
ومع أَنَّ الإِسلامَ يُجيزُ النطقَ بكلمةِ الكفْرِ للنجاةِ من القَتْلِ إِلَّا أَنَّ الأَوْلى
والأَفضلَ للمسلمِ أَنْ لا يَنطقَ بها، وأَنْ يَثْبُت على الإِيمانِ حتى لو أَدّى ذلك
إِلى قَتْلِه.
قالَ ابنُ كثير: ".. اتفقَ العلماءُ على أَنَّ المكْرَهَ على الكفرِ يَجوزُ له أَن
يُوالي، إِبقاءً لمهْجَتِهِ، ويَجوزُ له أَنْ يأبى، كما كان بلالٌ - رضي الله عنه - يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلونَ به الأَفاعيل، حتى إِنهم ليَضَعُونَ الصخرةَ العظيمةَ على صَدْرِه، في شدةِ الحَرّ، ويأمرونَه بالشرك، فيأبى عليهم وهو يقول: أَحَدٌ، أَحَدٌ..
ويقول: واللهِ لو أَعلمُ كلمةً هي أَغيظُ لكم منها لقُلْتُها.
رضيَ اللهُ عنه وأَرضاه.
وكذلك حَبيبُ بنُ زَيْدٍ الأنصاري، لما قالَ له مسيلمةُ الكذاب:
أَتشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله؟
فيقولُ: نعم.
فيقولُ: أتشهدُ أَني رسولُ الله؟
فيقولُ: لا أَسمع! فلم يَزَلْ يُقَظعه إِرْباً إِرْباً وهو ثابتٌ على ذلك ".
وقد كان الفادي صاحبَ هوى خبيثاً في نَقْلِه عن تفسيرِ البيضاوي، حيثُ
أَخَذَ منه ما يوافق هواه، ليتَّهمَ القرآنَ ويُخَطّئَهُ.
فبعدَما ذَكَرَ البيضاويًّ نُزولَ الآيةِ في حادثةِ عمارِ بن ياسر، واستدلَّ بها على جوازِ التكلم بالكفر عند الإِكراه، ذكَر أَنَّ الأَوْلى والأَفضلَ للمسلم أَنْ لا يَنطقَ بالكفر، وأَنْ يَثبتَ على الإِسلام، حتى لو أَدّى ذلك إِلى قَتْلِه..
قال: ".. وهو دليلٌ على جَوازِ التكلمِ بالكفرِ عندَ الإِكراه..
وإِنْ كانَ الأَفْضَلَ له أَنْ يَتَجَنَّبَهُ عنه، إِعْزازاً للدين، كما فعلَه أَبُو عمار، ولما رُوِيَ أَنَّ مسيلمةَ أَخَذَ رجلَيْن، فقالَ لأَحَدِهما: ما تقولُ في محمد؟
قال: هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فما تقولُ فِيَّ؟
قال: أَنتَ أَيضاً رسولُ الله!! فَخَلّاه.
وقالَ للآخَر: ما تقولُ في محمد؟
قال: هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فما تقولُ فِيَّ؟
قال: أَنا أَصَمّ.
فأَعادَها عليه ثلاثاً، فأَعادَ جوابَه، فقَتَلَه..
فبلغَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " أَمّا الأَوّلُ فقد أَخَذَ برخصةِ الله، وأما الثاني فقد صَدَعَ بالحقّ، فَهنيئاً له ".
ولو كان الفادي يَتصفُ بالموضوعيةِ والأَمانةِ العلميةِ لَذَكَرَ كَلامَ
البيضاويِّ كاملاً، وَذكَرَ ما رَجَّحَه البيضاويُّ من أَنَّ الأَفضلَ للمسلمِ أَنْ لا
يأخذَ بالرخصة، وأَنْ يَثبتَ على الحَقّ حتى لو قُتِل! ولكنه غيرُ أَمينٍ على العلمِ
والنقل.