من الذي صُلب: المسيح أم شبيهه؟
من الذي صُلب: المسيح أم شبيهه؟
سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في مسألة صَلْبِ المسيح - عليه السلام - وموتِه ورَفْعِه إِلى السماء، عندما أَثارَ موتَ المسيحِ ثم حياتَه بعدَ موتِه، وذَكَرْنا ما قالَه القرآنُ حولَ ذلك.
وقد عادَ الفادي إِلى هذا الموضوع، وخَصصَ له مَبْحثاً خاصّاً، وهو
السؤالُ الثامنُ والتسعون، الذي جَعَلَ عنوانه: " خِدْعَة إِلْقاءِ شبهِ المسيحِ على غيرِه ".
اتهمَ الفادي المفترِي القرآنَ بالتناقُضِ في حديثِه عن عيسى - عليه السلام -، فأَحياناً يَذْكُرُ أَنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوهُ ولم يَصْلُبوهُ، وإِنما قَتَلوا وَصَلَبوا شَبَهَه، وأَحياناً يذكُرُ أَنهم قَتَلوا المسيحَ ودَفَنوه، ثم أحياهُ اللهُ بعدَ موتِهِ، ورَفَعَهُ إِلى السَّماء!!.
قالَ: " جاءَ في سورةِ النساء: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
بسببِ هذه الآيةِ القرآنيةِ الواحدةِ يُنْكِرُ بعضُ المسلمين صَلْبَ المسيح،
مع أَنَّ في القرآنِ ثلاثَ آياتٍ تقطعُ أَنَّ المسيحَ تُوُفِّيَ ومات، وبُعِثَ حَيّاً، ورُفِعَ إِلى السماء.
وهي: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
و (كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) .
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ".
ثم قال: " ونحنُ نَسأل: كَيْفَ يَقولُ القرآنُ مرةً: إِنَّ المسيحَ لم يُصْلَبْ
ولم يُقْتَل، بل رُفِعَ حَيّاً، ويَقولُ مِراراً: إِنه تُوُفِّيَ وماتَ ثم رفِعَ حَيّاً؟!.
وإِنْ جازَ أَنْ يُقالَ: إِنَّ اللهَ يُلقي شَبَهَ إِنسانٍ على آخَر، أَلا يَفتحُ هذا بابَ
الشَّكِّ في كلِّ شَيء؟
فإِذا رأيتَ زيداً، يُحتملُ أَنه ليسَ بزَيْد، بل أُلْقِيَ شَبَهُ زيدٍ
عليه، وعند ذلك لا تَبْقى على الأَرضِ حقيقة! بل إِنّنا نَشُكُّ في التَّواتر، لأَننا
نتساءل إِنْ كانَ ما رواهُ الأَوَّلونَ حقّاً أَو شَبيهاً بالحَق، بل إِنَّنا نَشُكُّ في
الشرائعِ التي جاءَ بها أَشباهُ الأَنبياءِ، بل الأَنبياءُ أَنفسُهم! وهل في إِلْقاءِ الشَبَهِ
على آخَرَ ليَقْتُلَه اليهودُ بَدَلَ المسيح شيءٌ من العَدْلِ على الرجلِ المقْتول؟
أَلَا يَظُنُّ اليهودُ أَنَّ اللهَ يُعِزُّ المسيحَ ويُكْرِمُه؟
إِنَّ الذينَ يُنكرونَ الصلْبَ يَرسمونَ
لنا اللهَ إِلهاً يَرضى بالغِشِّ والكذِب ".
لقد أَثارَ الفادي المفترِي في كلامِه مجموعةً من الإِشكالاتِ
والمغالطات، ويُمكنُ الرَّدُّ عليها في النقاط التالية:
1 - زَعَمَ أَنَّ القرآنَ مُتَناقِضٌ في حديثِه عن نهايةِ المسيح - عليه السلام -، فقالَ: إِنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوه ولم يَصلبوه، وإِنما شُبِّهَ لهم، وقالَ: إِنّ عيسى تُوُفِّيَ وماتَ ثم بُعِثَ حَيّاً، وصَعَدَ إِلى السّماء.
وهذا زَعْمٌ باطلٌ مردود، فلم يَتَناقض القرآنُ في حديثِه، ولا تَناقُضَ بين
الآياتِ القرآنيةِ التي تتحدَّثُ عن الموضوعِ الواحد، وإِذا كان هناكَ تَناقُضٌ أَو
تَعارض فهو موهوم، ناتِجٌ عن سوءِ فَهْمِها، ويُمكنُ إِزَالةُ ذلك التعارضِ بإِمْعانِ النظرِ فيها، وإِحسانِ فَهْمِها، ودِقَّةِ الجَمْعِ بينها.
2 - المعْتَمَدُ في أَمْرِ المسيحِ - عليه السلام - آياتُ سورةِ النساء، التي تُصَرِّحُ أَنَّ اللهَ حمى رسولَه عيسى - عليه السلام -، وعَصَمَه من كيدِ اليهود، فلما أَتَوْا بالجنودِ الرومانِ لصَلْبِه وقَتْلِه، أَلْقى اللهُ شَبَهَهُ على أَحَدِ تلاميذِه المتَبَرِّعين، فأَخَذوا المؤمنَ المتَبَرِّعَ، وقَتَلوهُ وصَلبوهُ على أَنه عيسى، ثم أَنْزَلوهُ ودَفَنوه! أَمّا عيسى - عليه السلام - فقد أَنْجاهُ اللهُ وعَصَمَه وحَماه، ورَفَعَه إِلى السماءِ مُباشَرَة، فلم يُصَبْ بأَذى.
3 - لم يَتَحدث القرآنُ عن صَلْبِ عيسى ودَفْنِه وموتِه، ثم قيامَتِه حَيّاً من
قَبْرِه، كما ادّعى الفادي ذلك ونَسَبَهُ للقرآن.
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْناهُ في مَعْنى قولِه تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
وخُلاصةُ مَعْنى الآيةِ: أَنه بعدَ أَنْ أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى - عليه السلام - على ذلك الشابَ المتطوّع، بحيثُ صارَ كَأَنَّه عيسى تَماماً، أَلقى اللهُ النومَ على
عيسى - عليه السلام -، فنامَ وهو وسطَ تَلاميذِهِ الحَوارِيّين، في تلك الليلةِ المثيرة، وتوفّاة اللهُ بأَنْ أَنامَه، ثم رَفَعَه إِلى السماءِ وهو نائم، وكان ذلك بروحِه وجَسَدِه، وتَمَّ بآيةٍ خارقةٍ ومعجزةٍ باهرةٍ من الله!.
فليسَ معنى قولِه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) : سأَسْمَحُ لليهود بصلْبِك
وقَتْلِك ودَفْنك، وأَكونُ بهذا قد أَمَتُّكَ وَتَوَفَّيْتُكَ، ثم أْحْييكَ بعدَ دفنِك مباشرة، وأَرفعكَ إِلَيَّ حَيّاً.
كما يؤمنُ بذلك الفادي وأَهْلُ مِلَّتِهِ من النصارى.
وإِنما مَعْناها: إِنّي مُنيمُك، ورافِعُكَ إِلَيَّ وأَنتَ نائِم، وبذلك أُطهِّرُكَ من الذين كَفَروا، فلم تَمتدَّ أَيديهم إِليكَ بسوء.
4 - لا يَدُلّ قولُه تعالى: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) : لما
أَمَتَّني عَلى الصليب، كما فهمَ ذلك الفادي المفترِي، إِنّما المرادُ بها هنا
الوفاةُ الحقيقيةُ، التي سَيَتَوَفّى اللهُ بها عيسى - عليه السلام -، عندَ انتهاءِ أَجَلِه، وذلك بعدَ نزوله في آخرِ الزمان، حيث سيتوَفّاهُ اللهُ ويُميتُه كما يَتَوَفّى ويُميتُ أَيَّ إِنْسان!.
5 - أَمّا قولُه تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) فليس كما فهمَه الفادي المفترِي، بما يَتفقُ مع هَواه، من أَنه ماتَ
ودُفِنَ، ثم بَعَثَه اللهُ حَيّاً بعد ذلك ورَفَعَه إلى السماء، وإنما يُخبرُ عن
المراحلِ الثلاثةِ التي يَمُرُّ بها عيسى - عليه السلام -، كما يَمُرُّ بها كلُّ إِنسان، وهي ميلادُه، ثم موتُه، ثم بعثُه حيّاً يومَ القيامة.
فعيسى الحيّ الآنَ في السماءِ، سيُنْزِلُهُ اللهُ في آخرِ الزمان، ثم يُميتُه، ثم يَبْعَثُه حَيّاً يومَ القيامة كما يَبْعَثُ باقي الناس.
وبهذا نُزيلُ التناقضَ الموهومَ بين الآيات، ونَعْرِفُ من القرآنِ أَنَّ اليهودَ
لم يَقْتُلوا عيسى ولم يَصْلبوه، وأَنامَه اللهُ، وتوفّاه تَوَفِّيَ نَوْمٍ، ورَفَعَه إِليه وهو
نائم، وسيُنزلِهُ في آخرِ الزمان، ويُميتُه كما يُميتُ باقي البشر، ويبعثُه حَيّاً يوم القيامة كما يَبْعَثُ باقي البَشَر!!.
6 - لا يَتَرَتّبُ على إِلقاءِ شَبَهِ عيسى - عليه السلام - على تلميذه المتطوِّعِ
الإِشكالاتُ التي ذَكَرَها الفادي، لأَن هذا أَمْرٌ خاصٌّ أَرادَهُ الله، ومعجزةٌ
خاصَّةٌ قَدَّرَها الله، ليحميَ بها عَبْدَه ورسوله عيسى - عليه السلام -، ولا يَصيرُ ذلك الشابُّ المؤمنُ على شَكْل عيسى - عليه السلام - إِلّا بأَمْرِ الله، ولا يُؤَدي هذا إِلى الشَكِّ في الحقائقِ والأَشياءِ والأَشخاص، لأَنَّ هذه المعجزةَ لا تُعَمَّم على الجميع! كما أَنه ليسَ في الأَمر ظلمٌ للشاب المتطوِّع، الذي أُخِذَ وقُتِلَ وصُلِبَ على أَنه عيسى - عليه السلام -، لأَنه تبرعَ بذلك ورضيَ به، طالِباً الأَجْرَ من الله، حيثُ استَجابَ لدعوةِ عيسى - عليه السلام -: " مَنْ منكُم يَرْضَى أَنْ يُلقى عليه شَبَهي، فيؤْخَذَ ويُقْتَلَ، ويكونَ معي في الجنة؟ ".
فقالَ ذلك الشاب: أنا.
7 - الجملةُ الأَخيرةُ من كلامِ الفادي فاجرةٌ قَبيحةٌ مرذولة: " إِنّ الذينَ
يُنْكرونَ الصَّلْبَ يَرسمونَ لنا اللهَ إِلهاً يَرضى بالغِشِّ والكَذِب! ".
أَيْ أَنَّ ذلك الشابَّ الفدائى المتطوِّعَ كان كاذِباً غَشّاشاً عندما صارَ شَبيهاً بعيسى - عليه السلام -، علماً أَنَّ الأَمْرَ لم يَتِمَّ بفعْلِه، إِنما تَمَّ بفعلِ الله، وبما أَنَّ اللهَ الذي أَرادَ ذلك وفَعَلَه فهو الصوابُ الذي لا خَطَأ فيه!.