بين قدر الله وإرادة الإنسان
بين قدر الله وإرادة الإنسان
ذَكَرَ الفادي أَربعَ آياتٍ تُقَرِّرُ أَنَّ كلَّ شيء يَقعُ في هذا الوجودِ - إِنَّما يكونُ
بقَدَرِ اللهِ ومشيئَتِه وإِرادَتِه، سواء كانَ الشيءُ خَيْراً أَو شَرّاً.
منها قولُه تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) .
وقولُه تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .
وخَطَّأَ المفترِي هذه الآياتِ ورَفَضَ ما تُقَرِّرُه، واعترضَ عليها قائلاً: " من
هذهِ الآياتِ وغيرها كثيرٌ يَرى الإِسلامُ أَنَّ كُلَّ ما يَقَعُ في الوجودِ من خيرٍ وشَرٍّ
هو من عندِ الله! فيكونُ اللهُ عِلَّةَ الشُّرورِ ابتداءً، وتكونُ رسالةُ الأَنبياءِ وتكليفهُم
بالكرازةِ والدعوةِ عَبَثٌ لا ضرورةَ له ولا فائدَة فيه!..
وهذا بعكْسِ تعاليمِ الكتابِ المقَدَّس ".
وبعدما أَوردَ بعضَ كلامِ المسيحِ في الأَناجيل عن حريةِ الإِنسانِ وإِرادتِه
قال: " وقال الفلاسفةُ في البيانِ النظريِّ عن الحيوان: إِنَّه الجسمُ الحَسّاسُ
المتحركُ بالإِرادَة..
فإِذا كان حَدُّ الحيوانِ البهيميِّ أَنه متصَرَفٌ بالإِرادة، فكيفَ نتصوَّرُ أَنَّ الإِنسانَ - أَشْرَفَ مخلوقاتِ اللهِ في عالَمِ الحِسّ - عاجِزٌ، مَجْبُورٌ
على العصيانِ أَو الطاعة؟
وإذا كان هناك إجبارٌ فما فائدةُ العَقْل؟ ".
يَتَحَدَّثُ الفادي المفترِي عن قضيةِ الإِيمانِ بالقَدَر، ولذلك جَعَلَ عنوانَها:
" اللهُ قَدَّرَ الشُّرور "!
وهذه القضيةُ مرتبطةٌ بالقضيةِ السابقة، التي أَثارَها في السؤالِ السابق، قضيةِ " الجَبْرِ والاختيار ".
ونَدْعو إِلى استصحابِ ما قُلْناهُ في المسألةِ السابقةِ ونحنُ نناقشُ الفادي
في كلامِهِ عن الإِيمانِ بقَدَرِ الله.
نقررُ بدايةً أَنَّ الإِيمانَ بالقَدَرِ جُزْءٌ سادسٌ من أَركانِ الإِيمانِ، وإذا لم
يؤمن الإنسان بالقدرِ كان كافراً، حَتّى لو آمَنَ بأَركانِ الإِيمانِ الخَمسةِ
الأُخرى: الإِيمانُ بالله، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخِر.
ويَقومُ الإِيمانُ بالقَدَرِ على حقيقةِ أَنَّ كُل شيء يَقَعُ في هذا الوجودِ يكونُ
بقَدَرِ اللهِ، وحاش لله أَنْ يقعَ شيءٌ في الوجودِ رَغْماً عنه، فاللهُ هو الذي قَدَّرَ كُلَّ شيءٍ وأَرادَه وشاءَه.
والآياتُ التي تُقَرِّرُ هذه الحقيقةَ كثيرة.
منها قولُه تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .
وقولُه تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) .
وهذا معناهُ أَنَّ اللهَ قَدَّرَ كُلَّ شيءٍ في الوجودِ وأَرادَه، وجاءَ هذا الشيءُ
كما قَدَّرَهُ اللهُ وأَرادَه، سواءٌ كانَ هذا الشيءُ خَيراً أَو شَرّاً، هُدى أَو ضَلالاً، طاعةً أَو معصية..
وهذا معناهُ أَنَّ الشُّرورَ والمصائبَ تكونُ بقَدرِ اللهِ سبحانه؟
لأَنها إِنْ لم تَكُنْ بقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه يكونُ أَصحابُها قد فَعلوها رَغْماً عن الله،
ويَكونونَ بذلك قد قَهَروهُ وغَلَبوهُ، وأَعْجَزوهُ وهَزموه!!.
وليس معنى كونِ الشُّرورِ واقعةً بقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه أَنَّ اللهَ راضٍ عنها مُحِبّ
لأَصحابِها، أَو أَنَّ اللهَ مُحِبٌّ لهذه الشرورِ راغبٌ فيها وآمِرٌ بها، فإِنَّ اللهَ لا
يَرضى عن الشرور، ولا يُحِبُّ أَصحابَها، ولا يَأَمُرُ بها سبحانَه.
ولذلك رَدَّ الله على الذين بَرَّروا فواحِشَهم بأَنَّ اللهَ يُحِبُّها ويأمُرُهم بها بقولِه (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) .
ولقد فَرَّقَ القرآنُ بينَ تقديرِه للكفرِ وعَدَمِ رضاهُ به، وبينَ تقديرِه للإِيمانِ
والشكرِ ورِضاهُ به.
قالَ تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
وهذا مَعناهُ أَنَّ القرآنَ يُفَرِّقُ بينَ القَدَرِ والرِّضا والإِرادةِ والمحَبَّة، فليس
كلُّ ما يُقَدِّره يَرضى عنه ويَأْمُرُ به، وليس كُلُّ ما يُريدُهُ اللهُ يُحِبُّه، فالشُّرورُ
يُقَدِّرُها اللهُ ويُريدُها، لكنَّه لا يَرضى عنها ولا يُحِبُّها، ولذلكَ يُعاقبُ أَصحابَها، أَمّا الطاعاتُ فإِنَّ اللهَ يُقَدِّرُها ويَرضى عنها، ويُريدُها ويحبُّها، ولذلك يُثيبُ أَصحابَها!!.
ومِن كُرْهِ اللهِ للشّرورِ أَنه نهى عنها، ومن محبتِه للطاعاتِ أَنه أَمَرَ بها،
وأَرسلَ رسلَهُ بالدعوةِ إِلى الخيرِ، والأَمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر.
ومن جانبِ آخَر، فإِنَّ اللهَ مَنَحَ الإِنسانَ حريةَ الاختيار، والقدرةَ على
الاختيار، وتمكينَه من الاختيار، ولم يُجْبِرْه على شيء، ولم يُكْرِهْهُ على اختيارِ شيء.
عند الإِنسانِ الكافرِ قدرةٌ على اختيارِ الكفر، وعندَ الإِنسانِ المؤمنِ قدرةٌ
على اختيارِ الإِيمان، لم يَمنع اللهُ الكافرَ عن كُفْرِه بالقَسْرِ والإِكراه، ولم يُجبر اللهُ المؤمنَ على الإِيمانِ إِجباراً، فالكافرُ كَفَرَ باختيارِه، والمؤمنُ اَمَنَ باختيارِه.
لكنَّ اللهَ شاءَ كُفْرَ الكافرِ وأَرادَه، بمعنى أَنه عَلِمَهُ منذُ الأَزَل، وقَدَّرَهُ
بقدرته، وأَرادَه بإِرادتِه الكونيةِ العامة، وكان الكافرُ بكفرِه مُتَوافقاً مع علمِ اللهِ وقدرتِه وإِرادتِه، ويُحاسبُه اللهُ عليه، لأَنَّه نَهاهُ عنه وكَرِهَهُ ولم يَرْضهُ منه.
أَمّا إِيمانُ المؤمنِ فإِنَّ اللهَ شاءَهُ وأَرادَه، بمعنى أَنَّه عَلِمَه منذُ الأَزَل،
وقَدَّرَهُ بقدرَتِه، وأَرادَه بإِرادتِه الكونية والشرعية، والمؤمنُ بإِيمانِه متوافقٌ مع
عِلْمِ اللهِ وقدرتِه وإِرادتِه، واللهُ يُحِبُّ ذلك ويَرْضاهُ، ويتقبَّلُهُ منه، ويُثيبُه عليه.
بهذا البيانِ الواضحِ يتمُّ التوفيقُ والتنسيقُ بين قَدَرِ اللهِ وقُدْرَةِ الإِنسان،
وبينَ إِرادَةِ اللهِ واختيارِ الإِنسان، وكُرْهِ اللهِ للشرورِ التي يَختارُها الإِنسانُ
الشّرّير، ومحبةِ اللهِ للطاعاتِ التي يَخْتارُها الإِنسانُ المطيع!! وعلى هذه
الحقيقةِ آياتٌ عديدة، منها قولُه لعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) .
وقولُه تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) .
وقولُه تعالى: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) .
وبعدَ هذا نعرفُ جهلَ الفادِي الجاهلِ في اعتراضِه على قدرِ اللهِ قائلاً:
" كيف نَتَصَوَّرُ الإِنسانَ أَشَرفَ مخلوقاتِ الله في عالمِ الحِسّ، أَنه عاجزٌ مَجْبورٌ على العصيانِ أَو الطاعَة؟!
وإِذا كانَ هناكَ إِجبارٌ فما فائدةُ العَقْل؟! ".