حول مهمة الهدهد زمن سليمان - عليه السلام -
حول مهمة الهدهد زمن سليمان - عليه السلام -
تَحدثَتْ آياتُ سورةِ النملِ عن قصةِ سليمانَ - عليه السلام -، وأَخبرتْ أَنه وَرِثَ أَباهُ داودَ - عليه السلام - في النبوَّةِ والملك، وأَنَّ اللهَ عَلَّمَهُ منطقَ الإِنسِ والجِنِّ والطيرِ والحَشَرات، وكانَ جنودُه من الإِنسِ والجِنِّ والطير، فَسارَ بهم يوماً حتى أَتَوْا على وادي النَّمل، وسمعَ سليمانُ - عليه السلام - نملةً تنصحُ باقي النملِ، أَنْ يَدخُلوا مساكنَهم تحتَ الأَرض، لئلا يَحطمَهم جنودُ سليمانَ وهم لا يَشْعُرون!
ولما سمعَها سليمانُ - عليه السلام - تَبَسَّمَ ضاحِكاً من قولها..
ثم تفقدَ الطيرَ في جيشِه، فلم يَجد الهدهدَ، فهدَّدَه بالعذابِ إِنْ لم يُبَرّرْ غيابَه، ولما عادَ الهدهدُ أَخبرَ سليمانَ - عليه السلام - عن مملكةِ سبأ وملكتِها وعرشِها، وإِشراكِ أَهْلها بالله، فأَرسلَ سليمانُ معه رسالةً إِلى ملكةِ سَبَأ، يطلبُ منها الإِيمانَ بِه، والإِسلامَ معه للهِ ربِّ العالَمين، ولما استشارت الملكةُ قومَها، ووكلوا الأَمْرَ إِليها، قَرَّرَتْ أَنْ تُرسلَ هديةً رشوةً لسليمان، ولما وصلتْ إِليه ردَّها وهَدَّدَ القومَ بغزوِ بلادهم، وطلبَ من رجالِ حاشِيتِه أَن يُحْضِروا له عرش ملكةِ سبأ، فعرضَ عفريت من الجنِّ أَنْ يأتيَ بالعرشِ قبلَ أَنْ يقَومَ سليمانُ من مقامِه، وعَرَضَ الذي عنْدَه علم من الكتابِ أَنْ يأتيَ بالعرشِ قبل أَنْ ترمش عينُه، وما هي إِلّا لحظةٌ حتى رأى سليمانُ - عليه السلام - عرش ملكةِ سبأ أَمامَه، فحمدَ اللهَ على ذلك.
ولما توجَّهتْ ملكةُ سبأ إِلى سليمانَ طلبَ أَنْ يُنَكِّروا لها عَرْشَها، ولما رأَتْه سُئلَتْ: أَهكذا عرشُكِ؟
قالتْ: كأَنَّه هو.
وأَعَدَّ سليمانُ - عليه السلام - لها مفاجأةً أُخرى، حيث جعلَ
لها بركةَ ماءٍ مغطاةً بالزُّجاج، ولما طُلِبَ منها اجتيازُ البركةِ حَسِبَتْها لجةَ ماء،
فكشفَتْ عن ساقَيْها فقيل لها: إِنّه صَرْحٌ من زجاج!!
عند ذلك اعترفَتْ لسليمانَ بالنصرِ والقوة، وقالَتْ: رَبّ إِنّي ظلمْتُ نفسي وأَسْلَمْتُ مع سليمانَ للهِ ربِ العالمين.
وتحدثَتْ عن قصةِ سليمانَ - عليه السلام - مع النملةِ والهدهدِ وملكةِ سبأ
آياتُ سورةِ النمل: (15 - 44) .
واعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ في إخباره عن ذلك، واعتبرَه
يَتعارضُ مع العقل.
قال: " ونحنُ نسأَل: كيفَ يتصوَّرُ عاقلٌ أَنْ تكونَ حاشيةُ
سليمانَ الملك من الجنِّ والطُّيور؟
وكيفَ يكونُ الهدهدُ أَكثرَ حكمةً وعلماً، ويتحدّى سليمانَ قَائلاً: أَحطتُ بما لم تُحِطْ به، وجئْتُكَ من سبأ بنبأ عظيم؟
وكيفَ يهجو الهدهدُ عِبادَةَ الأَوثانِ ويمتدحُ الوحدانية؟
وكيفَ يقوم الهدهدُ بدوْرِ المراسلة؟
وكيفَ يتصرفُ الهدهدُ في مملكة سليمان تَصَرُّفاً يفوقُ تَصرُّفَ
الملوكِ والوزراءِ والفلاسفة؟ ".
زعَمَ الفادي أَنَّ القرآنَ جَعَلَ حاشيةَ سليمانَ - عليه السلام - مكوَّنَةً من الجنّ والطيور، واعتبرَ هذا كلاماً لا يُصدِّقُه عاقل! وهو بهذا يُكذِّبُ قولَ الله - عز وجل -: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) .
ولم يَجعل القرآنُ حاشيةَ سليمانَ من الجِنّ والطيورِ فقط، والكلامُ في
الآيةِ عن جَيْشِ سليمان، حيثُ كانَ مُكَوَّناً من " الجِنِّ والإِنْسِ والطير ".
ولا غَرابَةَ في هذا، فاللهُ أَخْضَعَ له الجنّ، وجَعَلَهم يُنَفّذونَ أَمْرَه، واللهُ عَلَّمَه لُغَةَ الجنِّ والطيرِ! فالأمْرُ أَمْرُ الله، وليس على اللهِ شيءٌ غريب، فهو الفَعّالُ لما يريدُ، سبحانه.
وحَديثُ القرآنِ عن الهدهد لا يَدْعو للاستغراب، وليسَ فيه ما يتناقَضُ
مع العلمِ والعقل، وأسئلةُ المفترِي حولَه مردودَةٌ عليه!
فالهدهدُ طائرٌ من خَلْقِ الله، مؤمنٌ بالله، مُسَبِّحٌ بحمدِ الله، كَباقي المخلوقاتِ الِحية التي خلَقها اللهُ مُسَبّحَةً ساجدةً له.
قالَ الله - عز وجل -: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .
وقالَ أيضاً: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) .
وهذا الهدهدُ المؤمنُ باللهِ جَعَلَ اللهُ عندَه بعضَ العلمِ والحكمة، وبعضَ
الجهدِ والاهتمامِ، وبعضَ الفهمِ والإِدراك، وبعضَ الحرصِ في الدعوةِ إِلى الله، وكانَ هذا معجزةً من اللهِ، جعلَها في هذا الطائر، ومَيَّزَهُ بهذا عن باقي
" الهَداهِدِ " الطيورِ، ليقومَ بهذه المهمةِ الخاصَّةِ، ويَكتشفَ مملكةَ سبأ، لتدخُلَ بعد ذلك في الإِسلام! لقد أَرادَ اللهُ الحكيمُ أَنْ يَعرفَ سليمانُ - عليه السلام - مملكةَ سبأ عن طريقِ ذلك الهدهد، وليس عن طريقِ الوحيِ المباشر ...
وأَخبرَنا اللهُ عن مهمةِ الهدهدِ ودوْرِه في الدعوةِ إِلى الله، ليكونَ هذا عبرةً لنا، وليوجِدَ عندَنا نوعاً من الباعثِ على الدعوة، والاقتداءِ بذلك الهدهدِ الداعية!.
ولم يكن الهدهدُ أَكثرَ علماً وحكمةً من سليمانَ - عليه السلام -، فكلامُ الفادي عنه باطل، وذلك عندما تَساءَل: " كيفَ يكونُ الهدهدُ أَكثرَ حِكْمَةً وعلماً؟! ".
سليمانُ رسولٌ كريمٌ عليه الصلاةُ والسلام، وهو الأَكثرُ عِلْماً وحكمة، وعِلْمُ الهدهدِ خاصٌّ بمملكةِ سَبَأ! وعَلَّمَهُ اللهُ ذلك ليتعلَّمه سليمانُ - عليه السلام -، فهو وسيلةٌ ربانيةٌ لتعليمِ سليمانَ - عليه السلام -.
وقالَ المفترِي الجاهل: " كيفَ يَتَحَدّى الهدهدُ سليمانَ قائلاً: أَحطتُ بما
لم تُحِطْ به.. "؟
ولا أَدري كيفَ فهمَ الفادي تَحَدّي الهدهدِ لسليمانَ - عليه السلام -،
عندما أَخْبرَهُ عن مملكةِ سبأ، وهو المهَدَّدُ بالتعذيبِ لغيابِه؟
قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) .
إنَّه يُخاطِبُ سليمانَ - عليه السلام - بافتخارٍ واعتزاز، وليسَ بتَحَدٍّ وتَكَبُّر، ويُخبرُهُ أَنَّ اللهَ عَلَّمَه عِلْماً لم يُعَلِّمْه سليمانَ - عليه السلام -: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، ولم يُنكرْ سليمانُ - عليه السلام - عليه قولَه، ولم يُعاقِبْه عليه، وهو القائِدُ الحازم، لأَنه فهمَ الإِشارةَ من الهدهد، فعليه أَنْ " يَتَواضَعَ " بينَ يديه، وهو النبيُّ المعَلِّمُ - عليه السلام -، ويَعترفَ بقُصورِ عِلْمِه، فاللهُ أَعطى الهدهدَ عِلْماً لم يُعْطِه منه وهو النبي!!.
ويَستغربُ الفادي من ذَمِّ الهدهدِ لشركِ ملكةِ سبأ وقومِها بالله، وعبادتِهم
للشمسِ من دونِ الله، فلم يَستوعبْ عَقْلُه " الصغيرُ " فهمَ طائرٍ للإِيمانِ والشرك، ودعوتِه إِلى وحدانيةِ اللهِ والسجودِ له وحْدَه! ولقد قُلْنا: إِنه هدهدٌ خاصٌّ، عَلَّمَهُ اللهُ وفَهَّمَه بتعليمٍ وتفهيم خاص، وأَخْبَرَنا عن بيانِه الدعويّ في قولِه تعالى: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) .
ونقول: لقد كانَ هذا الهدهدُ المؤمنُ أَكثرَ عِلْماً من الفادي المفترِي،
وأَعمقَ إِيماناً وتَوحيداً لله منه، فهذا الفادي المتعالمُ المتفلسفُ لا يَتبعُ الحَقَّ
الموجودَ في الإِسلام، ويُصِرُّ على الإِيمانِ بالأَقانيمِ الثلاثة: الآبِ والابنِ
والروحِ القُدُس، ويجعلُ المسيحَ - عليه السلام - ابْناً لله، وها هو الهدهدُ يَدْعو إِلى توحيدِ اللهِ بهذا المنطقِ الدعويّ الرائعِ، وهذا الحماسِ الإيمانيِّ المؤَثِّر!!
ويتساءل الفادي الجاهلُ بإِنكار؟ " كيفَ يَقومُ الهدهدُ بدوْرِ المراسَلَة؟! ".
وقد سبقَ أَنْ قُلْنا: إِنه هدهدٌ خاصٌّ، عَلَّمَه اللهُ ومَيَّزَهُ عن باقي الطيور، ومَكَّنَهُ من أَنْ يَقومَ بمهمتِه الدعويةِ في مملكةِ سبأ، فَحَمَلَ الرسالةَ الخاصة، وقَطَعَ المسافَةَ الطويلة، وأَلقى الرسالةَ إِلى ملكةِ سَبَأ، وتوقَّفَ عندَ قَصْرِها يُراقبُ ويَرصد، ويَرى ماذا سيكون رَدُّ فعْلِها هي وقومُها! إِنه ليسَ مجرَّدَ طائر، ولكنّه هدهدٌ خاصّ، جعلَ اللهُ فيه فهماً وإدراكاً خاصّاً!! وقد أَخبرَ اللهُ عن مهمةِ الهدهد، والكتاب الذي حَمَلَه.
قال تعالى: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) .
ولا تَدُلُّ مهمةُ الهدهدِ الدعويةُ على أَنَه أَعلى منزلةً من كُلِّ الوزراءِ عند
سليمان - عليه السلام -، وكان الفادي غبيّاً في تَساؤُلِه: " وكيفَ يتصرَّفُ الهدهدُ في مملكةِ سليمانَ تَصرُّفاً يَفوقُ تَصَرفَ الملوكِ والوزراءِ والفلاسفة؟! ".
فمن غيرِ المعقولِ أَنْ يُعَيِّنَ سليمانُ - عليه السلام - الهدهدَ الطائرَ وَزيراً عنْدَه، مَسؤولاً عن الوزراءِ البَشَر..
كلُّ ما في الأَمْرِ أَنَّ هذا الهدهدَ قامَ بمهمةٍ دعويَّة، أَعانَهُ اللهُ على القيامِ بها، ووفَّقَهُ إِليها، ونتجَ عنها دخولُ ملكةِ سبأ وشعْبِها في الإِسلام، ومتابعةِ النبيِّ الملكِ سليمانَ - عليه السلام -.
***