هل خاف يعقوب على أبنائه من العين؟
هل خاف يعقوب على أبنائه من العين؟
عندما تَوَجَّهَ أَبناءُ يَعقوبَ الأَحَدَ عَشَرَ إِلى عَزيزِ مِصر - الذي هو أَخوهم
يوسُفُ وهم لا يَعرفونَه - طَلَبَ منهم أَبوهم أَنْ لا يَدْخُلُوا من بابِ واحد،
وإِنما يَدخلونَ من أَبوابٍ متفرقَة، قالَ اللهُ - عز وجل -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .
لماذا طلبَ يعقوبُ - عليه السلام - من أَبنائِه هذا الطَّلَب؟
أَتْعَبَ بعضُ المفَسِّرينَ والإِخباريّين أَنفسَهم في محاولةِ معرفةِ ذلك..
وذَهَبَ الفادي كعادَتِه إِلى تفسير البيضاوي، ونَقَلَ منه قولَه: " قال البيضاوي: لأَنهم كانوا ذَوي جَمالٍ وأُبَّهَة، مُشْتَهرينَ في مِصرَ بالقُرْبِ والتَّكريمِ عندَ الملِك، فخافَ عليهم أَنْ يَدْخُلوا كوكبةً واحدةً فَيُعانُوا - أَيْ يُصابُوا بالعَيْن - ولعَلَّهُ لم يُوصِهِم بذلك في المرةِ الأَولى لأَنهم كانوا مَجْهولين حِينئذٍ، أَو كانَ الداعي إِليها الخَوْف على بُنْيامين..
وللنفس آثارٌ منها العين ... ".
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ البيضاويِّ بقوله: " ونحنُ نسأل: مِنْ أَينَ جاءَ
القرآنُ بهذه القصَّةِ التي لم تَذْكُرْها التوراة، فَنَسَبَ لواحدٍ من أَنبياءِ اللهِ خُرافَةً تُنافي العِلْم، وتُنافي الإِيمانَ بعنايةِ الله؟! ".
مَن الذي أَخبرَ رُواةَ الإِسرائيلياتِ أَنَّ يَعقوبَ - عليه السلام - كان يَخشى على أَبنائِه أَنْ يُصابُوا بالعين، لجَمالِهم وكثرتِهم وتَقريبِ العَزيزِ لهم؟
وحتى يَنْجوا من شَرِّ العَيْن أَمْرَهُم أَنْ يَدْخُلوا من أَبواب متفرقَة! لم يُذْكَرْ هذا التعليلُ في حديثٍ صحيحٍ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نتوقًّفُ في قَبولِ هذا التعليل!.
وقد أَبهمَ القرآنُ الحديثَ عن ذلك، ودَعا إِلى عَدَمِ الخوضِ فيه، لِعَدَمِ
وُجودِ دليلٍ عليه.
ولْنقرأ هاتَيْنِ الآيتَيْن بإِمعانٍ، قالَ تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) .
قالَ يَعقوبُ - عليه السلام - لأَبنائِه مُعَلِّلاً دُخولَهم من أَبوابِ متَفَرّقة: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .
أَيْ: دُخولكُم من أَبوابٍ متفرقَةٍ لاَ يُغْني عنكم شيئاً من الله، ولا يَدْفعُ عنكم شَيْئاً من قَدَرِ الله، ومهما حَذِرْتُم فإِنَّه لا يُغْني حَذَرٌ من قَدَر!.
وأَكملَ كلامَه لهم بالإِشارةِ إِلى أَنَّ الحُكْمَ حُكْمُ الله، نافذ على عبادِه،
وهو متوكَلٌ على الله، مُسَلّم أَمْرَهُ لها: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) .
وأَشارَ القرآنُ إِلى أَنَّ يَعقوبَ - عليه السلام - قَضى وحَقَّقَ حاجَةً في نفسه، عندما نَفَّذَ أَبناؤُه طَلَبَه، ودَخَلوا من حيثُ أَمَرَهم: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) .
وإِبهامُ القرآنِ لتلك الحاجةِ دَعوة لنا لعَدمِ البحثِ فيها، وعَدَمِ مُحاولةِ
بَيانِها، ومعرفَتُها لا دلَيلَ عليها ولا فائدة منها، ولا يَضيرُنا الجهلُ بها، ولو
علمَ اللهُ في ذِكْرِها خَيْراً لنا لَذَكَرَها.
وليتَ الذينَ حَدَّدوا تلك الحاجةَ فَهموا هذه الإِشارة القرآنية، ولم يُتْعِبوا أَنفسَهم في تحديدِ تلك الحاجةِ بأَنها لدفْعِ العَيْن!.
وبهذا نعرفُ أَنَّ يعقوبَ - عليه السلام - كان كل متوكّلاً على الله عندما طَلَبَ من أَبنائِه أَنْ يَدْخلُوا من أَبوابٍ متفرقة، وأَنَّ هذا ليس خرافةً تُنافي العلْمَ والإِيمان، كما زَعَمَ المفْتَري.
وقد نفى الفادي هذه الحادثة، رَغْمَ وُرودِها في القرآن لأَنها لم تُذْكَرْ في
التوراة وهذا باطل، ومرجَعِيَّتُنا ليست التوراة، إِنما هي القرآن، وذِكْرُ الحادثةِ في القرآن يَكفي لقَبولِها والإِيمانِ بها، سواءٌ ذَكَرَتْها التوراةُ أَمْ لا.
***