حول الكلام المتشابه في القرآن
حول الكلام المتشابه في القرآن
اعترضَ الفادي المفترِي على وُجودِ الكلامِ المتشابهِ في القرآن، واعْتَبره
نَقصاً في إِحكامِ القرآنِ وبلاغَتِه، وأَنَّ المسلمَ يُلغي عَقْلَه أَمامَه ويُسَلِّمُ به تسليماً أَعمى.
قالَ: " جاءَ في سورةِ آل عمران: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
اعترفَ القرآنُ أَنَّ به آياتٍ مُحْكَمات، لا تَقبلُ الصرفَ عن ظاهرها، ولا الذهابَ في محتملاتِها مذاهبَ شَتّى..
كما قالَ: إِنَّ به آياتٍ متشابهات، لا يَتضحُ مَعْناها، لأَنها مجملة، أَو غيرُ موافقةٍ للظاهرِ إِلّا بتدقيقِ الفِكْر، وما يَعْلمُ تَأْويلَها إِلّا الله.
وإِنَّ على أَشَدِّ الناسِ رسوخاً في العلمِ أَنْ يُسَلِّموا بها تَسليماً أَعمى.
ونحنُ نسألُ: أَليسَ وجودُ هذه المتشابهاتِ نَقْصاً في البلاغةِ والإِحكام؟
فكيفَ نتأكدُ ممَّا لا يَعلمُ تأويلَه إِلّا الله؟.
قالَ الإِنجيل: " امْتَحِنوا كُلَّ شيء، تَمَسَّكُوا بالحَسَن ".
فهل يَحتملُ القرآنُ الامتحان؟ ".
آياتُ القرآن نوعان: آياتٌ محكَمات، وآياتٌ متشابهات.
قالَ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)
ومعظمُ آياتِ القرآنِ محكَمات، والآياتُ المتشابهاتُ آياتٌ
قليلةٌ جدّاً.
والمحكَمات هنَّ أُمُّ الكتاب، والأَصْل الواضحُ الذي يَجبُ
حملُ الآيات ِ المتشابهاتِ عليها، لإِحسانِ فهمِها ومعرفةِ مَعْناها.
والمحكَماتُ واضحاتُ الدلالة، لا لَبْسَ ولا غُموضَ فيها، ولا إِشكالَ عليها.
أَمّا المتشابهات فإِنّ فيها لَبْساً وإِشكالاً، ومَعْناها غيرُ واضحٍ وُضوحَ معنى المحكَمات، ويقفُ العلماءُ أَمامَها باحِثينَ متفكِّرين، ويَجبُ عليهم أَنْ يَحْمِلوها على الآياتِ المحكمَات، لِيُزيلوا اللَّبسَ عنها، ويُحْسِنوا معرفةَ
مَعناها.
ولا يَستحيلُ معرفةُ معنى الآيات ِ المتشابهاتِ كما ادَّعى الفادي المفْتَري، فإِنَّ معرفةَ معناها ممكِنَة، بل هي واجبة، لأَنه يَجبُ علينا معرفةُ كُلِّ معاني القرآن، ولم يُخاطبنا اللهُ في القرآنِ بشيءٍ لا نَعرفُ معناه، فقد أَنزلَه علينا
بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وأَوجبَ علينا فَهْمَه، وتَدَبُّرَه، فكلُّ ما في القرآن مَفهومُ المعنى، ومنه الآيات ُ المتشابهات.
لكن معرفة معنى الآيات المتشابهات يحتاج إلى مزيد من النظر والتفكر والبحث، لأَنها ليستْ بوضوحِ الآياتِ المحكَمات، ولَنْ يُعْرَفَ معناها بدقَّةٍ وإِتْقانٍ إِلّا بَحَمْلها على أُصولِها من الآياتِ المحْكَمات، وهذا ممكنٌ يتمُّ على
أَيْدي الراسخين في العلم.
وهناكَ أَشخاصٌ في قلوبِهم مَرَض، من أَمثالِ هذا الفادي المفتري المجرم، يَتركونَ الآياتِ المحكَماتِ الواضحاتِ الكثيرة، ويَبْحَثونَ عن الآياتِ المتشابهاتِ القليلة، بهدفِ فتنةِ المؤمنين، وتَشكيكِهم في القرآن، ويُثيرون
الشبهاتِ والإِشكالاتِ على معاني الآيات ِ المتشابهات، ولو حَمَلوا الآياتِ المتشابهاتِ على أُصولِها المحكماتِ لأَحْسَنوا فهمَ تلك المتشابهات.
إِذنْ معرفةُ معنى الآياتِ المتشابهاتِ ممكنةٌ بل واجبة، والمؤمنُ يَتعاملُ معها بوعْي عقلي، ولا يُسلمُ بها تَسليماً أَعمى، كما ادَّعى هذا الفادي الأَعْمى.
والذي لا يَعرفُهُ الراسخون في العلمِ من المتشابهاتِ هو كيفيتُها الواقعيةُ
العمليةُ المادية، لأَنها غيبية غيرُ مُدْرَكَةٍ بالعقل، والعقلُ عاجز عن تكييفِها،
فلذلك يَكِلونَ كيفيتَها إِلى الله، ويَقولون: آمَنّا بالقرآن، كُلّ قسمَيْه من المحْكَمِ والمتشابه من عندِ رَبِّنا.
والفادي لجهْلِه وغَبائِه وصِغَرِ عَقْلِه لم يُفَرِّق بين معرفةِ مَعاني الآيات ِ
المتشابهات الممكِنة، التي تتمّ على أَيدي الراسخين في العلم، وبينَ تَكييفِها
الواقعيّ العمليِّ الذي لا يُمكنُ أَنْ تَقومَ به عقولُ الراسخين في العلم، فيَكِلونَ
هذا التَّكييفَ إِلى الله!!.
ووجودُ الآياتِ المتشابهاتِ القليلةِ في القرآن، تأكيد على بلاغةِ القرآن
وسُمُوِّهِ وإحْكَامِهِ وإِعجازِهِ، وليس نَقْصاً في بلاغتِهِ وإِحكامِهِ، كما ادَّعى
الجاهلُ، والقرآنُ يَدعو الراسخينَ في العلم من أُولي الأَلباب إِلى إِمعانِ النظرِ
في الآياتِ المتشابهات، وإِطالةِ الوقفةِ أَمامَها، وحَمْلِها على أُصولِها
المحكَمات، لإِزالةِ اللَّبس الخارجيِّ عنها، وإِحسانِ فَهْمِها، وتَقديمِها
للآخرين.
وكان الفادي الجاهلُ غبيّاً عندما طَرَحَ سؤالَه في آخرِ كلامِه: " فهل
يَحتملُ القرآنُ الامتحان؟ ".
نقولُ: نعم.
القرآنُ يَحتملُ الامتحان.
وهو يَتَحَدّى الكافرين، ويَدْعوهم إِلى امتحانِه، ويحثُّهم على امتحانِه، ويُقررُ لهم أَنهم لن يَجدوا فيه خَطَأً أَو اختلافاً أَو تفاوتاً أَو تناقضاً أَو اضطراباً، ويَتَحَدّاهم باستخراجِ ذلك منه.
وأَوضحُ دعوةٍ قرآنيةٍ لهم في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وامتحنَ الكفارُ القرآن، ونَظَروا فيه بهدفِ الوقوفِ على الخطأ والاختلافِ
والتعارضِ والتناقض، واستمرَّ امتحانُهم ونَظَرُهم خمسةَ عشر قرناً، وقَدَّموا في ذلك كلاماً تافِهاً لا وَزْنَ ولا قيمةَ له، مثلَ هذا الكلامِ الذي قَدَّمَه هذا الفادي
المفتري الجاهل، ويُمكنُ الرَّدُّ على شبهاتِهم بسهولةٍ ويُسْر، ولم يَتَأَثَر القرآنُ بما قالوه عنه، وبَقيَ صخرةً قويةً ثابتة، يَصدُق عليهم وعليه قولُ الشاعر:
كَناطِحِ صَخْرَةٍ يَوْماً لِيوهِنَها ... فَما وَهاها وَأَوْهى قَرْنَهُ الوَعِلُ