استظهار معارف كلية من احد الأمثلة القرآنية
بقلم الشيخ علاء الساعدي
من الأمور الملحوظة في مملكة القرآن الكريم ضرب الأمثال للناس لغايات تختلف حسب ما تقتضيه طبيعة المثل القرآني وهذا ليس ترفا قرآنيا بل يماس عملية التنوير القرآني للناس...
قال تعالى (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[سورة إبراهيم 25]
فواحدة من الغايات المهمة التي تعطيها الآية المباركة هي التذكرة والإقتراب من الحقيقة الوجودية التي يريد المثل بثها وتنزيلها...
قال تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
[سورة الزمر 27]
وواحدة من الأمثال القرآنية التنويرية هو مثل ثنائية الحق والباطل قال تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[سورة الرعد 17]
والآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية إذ تبحث عن طبيعة الحق والباطل فتصف بدء تكونهما وكيفية ظهورهما وآثارهما الخاصة وسنة الله سبحانه الجارية في ذلك ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا فيعطي أن خاصية الباطل هو الزبد الذي يعلو السيل فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا، كما أن خاصية الحق هو المكوث والثبوت وهو معنى كونه حقا وهو الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة وفيهما انتفاع للناس فيمكث في الأرض....
والعدول عن ذكر الماء وغيره إلى قوله (( واما ما ينفع الناس)) للدلالة على خاصة يختص بها الحق وهو أن الناس ينتفعون به وهو الغاية المطلوبة لهم....
وبهذا الصدد قال السيد العلامة في ميزانه:
وقد تبين بهذا المثل المضروب في الآية ((أمور هي من كليات المعارف الإلهية)):
أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية والمطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور والأقدار وإنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر والصورة وما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار والصور فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها واستعداداتها وتختلف باختلاف الاستعدادات والظروف والأوعية.
وهذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21 وقوله: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ الزمر: 6 ومن الدليل عليه جميع آيات القدر.
ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار وإن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه وسلطانه ولا واقعة من غير إذنه وقد قال تعالى، ﴿إليه يرجع الأمر كله﴾ هود: 123، وقال: ﴿بل لله الأمر جميعا﴾ الآية: 31 من السورة وبانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى وأوسع مصداقا.
وثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم وتقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث وفضولات تعلوها وتظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة وعند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق وهو الثابت الباقي وباطل وهو الزائل غير الثابت.
والحق من الله سبحانه والباطل ليس إليه وإن كان بإذنه قال تعالى: ﴿الحق من ربك﴾ آل عمران: 60 وقال: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا﴾ ص: 27 فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى﴾ الأحقاف: 3 وقال: ﴿ويحق الله الحق بكلماته﴾ يونس: 82 وقال: ﴿إن الباطل كان زهوقا﴾ الإسراء: 81 وقال: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ الأنبياء: 18.
وثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره ولا يزاحمه بل يمده وينفعه في طريقه إلى كماله ويسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء والمكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.
وليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع والتزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع والتزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء وماء تفنيها نار وأرض يأكلها نبات ونبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل
المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس والانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية ويتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم والخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، ومثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما وتصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، وهذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق ويخيب السعي فيفسد من غير إصلاح ويضر من غير نفع.
ومن هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾ الجاثية: 13 فكل شيء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.
وهذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع والإيجاد، ولئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق والباطل وأمعنت فيها رأيت عجبا.
واعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية والحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم والاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها وينتفع به الناس وتحيى قلوبهم ويمكث فيهم الخير والبركة، ومثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء ويصير سدى، قال تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ إبراهيم: 27.