التفسير و حاجة القرآن إليه
التفسير مأخوذ من « فسَّر » بمعنى : أبان و كشف.
قال الراغب : الفَسْر ، والسَفْر متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، والفرق بينهما انّ الأوّل يستعمل في إظهار المعنى المعقول ، كقوله سبحانه : ( وَلا يَأتُونَكَ بِمَثَل إلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا ) أي أحسن تبييناً.
والثاني يُستعمل في إبراز الأعيان للأبصار ، يقال : أسفر الصبحُ ، أو سفرتْ المرأة عن وجهها.
وأمّا في الاصطلاح فبما انّ التفسير علم كسائر العلوم فله تعريفه وموضوعه ومسائله وغايته.
أمّا التعريف فقد عرف بوجوه :
1. هو العلم الباحث عن تبيين دلالات الآيات القرآنية على مراد اللّه سبحانه.
وبعبارة أُخرى : إزالة الخفاء عن دلالة الآية على المعنى المقصود.
وهناك تعريفات أُخرى نشير إلى بعضها.
وعرّفه الزركشي بقوله : علم يعرف به فهم كتاب اللّه تعالى المنزل على نبيه محمّد 6 وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه.
وأمّا موضوعه فهو كلام اللّه سبحانه المسمّى بالقرآن الكريم.
وأّمّا مسائله فهي ما يستظهر من الآيات بما انّه مراده سبحانه.
وأمّا الغرض منه فهو الوقوف على مراده سبحانه في مجالي المعارف والمغازي والقصص واستنباط الأحكام الشرعية منه.
ثمّ إنّ الرأي السائد بين المسلمين انّ القرآن غير غني عن التفسير ، إمّا من جانب نفسه كتبيين معنى آية بأُختها ، أو تبيينه بكلام من نزل على قلبه.
يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون ) ولم يقل « لتقرأ » بل قال : ( لتُبيّن ) إشارة إلى أنّ القرآن يحتاج وراء قراءة النبي ، إلى تبيين ، فلو لم نقل أنّ جميع الآيات بحاجة إليه ، فلا أقل أنّ هناك قسماً منها يحتاج إليه بأحد الطريقين : تفسير الآية بالآية ، أو تفسيرها بكلام النبي ص.
والذي يكشف عن حاجة القرآن إلى التبيين أُمور ، نذكر منها ما يلي :
1. إنّ أسباب النزول ، للآيات القرآنية ، كقرائن حالية اعتمد المتكلم عليها في إلقاء كلامه بحيث لو قطع النظر عنها ، وقُصِّـر إلى نفس الآية ، لصارت الآية مجملة غير مفهومة ، ولو ضمّت إليها تكون واضحة شأن كل قرينة منفصلة عن الكلام ، وإن شئت لاحظ قوله سبحانه : ( وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أنْ
لا مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إلاّ إليهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لَيَتُوبوا إنّ اللّهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحيم )
ترى أنّ الآية تحكي عن أشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فعند ذلك يسأل الإنسان نفسه ، مَن هم هؤلاء الثلاثة؟ ولماذا تخلّفوا؟ ولأيّ سبب ضاقت الأرض والأنفس عليهم؟
وما المراد من هذا الضيق؟ ثم ماذا حدث حتى انقلبوا وظنّوا أنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتراكمة حول الآية ، لكن بالرجوع إلى أسباب النزول تتخذ الآية لنفسها معنى واضحاً لا إبهام فيه.
وهذا هو دور أسباب النزول في جميع الآيات ، فإنّه يُلقي ضوءاً على الآية ويوضح إبهامها ، فلا غنىً للمفسّر من الرجوع إلى أسباب النزول قبل تفسير الآية كما سيوافيك تفصيله في مؤهلات المفسر.
2. إنّ القرآن مشتمل على مجملات كالصلاة والصوم والحجّ لايفهم منها إلاّ معاني مجملة ، غير أنّ السنّة كافلة لشرحها ، فلاغنىً للمفسّر عن الرجوع إليها في تفسير المجملات.
3. إنّ القرآن يشتمل على آيات متشابهة غير واضحة المراد في بدء النظر ، وربما يكون المتبادر منها في بدء الأمر ، غير ما أراد اللّه سبحانه ، وإنّما يعلم المراد بإرجاعها إلى المحكمات حتى تفسّر بها ، غير أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور البدائي للآية لإيجاد الفتنة وتشويش الأذهان ويجعلونه تأويل الآية أي مرجعها وم آلها ، وأمّا الراسخون في العلم فيتّبعون مراده سبحانه بعدما يظهر من سائر الآيات التي هي أُم الكتاب.
قال سبحانه : ( مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمّا الّذِينَ في قُلوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلِه )
وعلى هذا لا غنى من تفسير المتشابهات بفضل المحكمات ، وهذا يرجع إلى تفسير القرآن نفسه بنفسه ، والآية بأُختها.
4. إنّ القرآن المجيد نزل نجوماً ، لغاية تثبيت قلب النبي طيلة عهد الرسالة.
قال سبحانه : ( وقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُملَةً واحِدةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلناهُ تَرتيلا ) فمقتضى النزول التدريجي تفرق الآيات الباحثة عن موضوع واحد في سور مختلفة ، ومن المعلوم أنّ القضاء في موضوع واحد يتوقف على جمع الآيات المربوطة به في مكان واحد حتى يستنطق بعضها ببعض ، ويستوضح بعضها ببعض آخر ، وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي المعروف : « القرآن يفسّر بعضه بعضاً »
وقال الإمام علي ع : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بصاحبه عن اللّه »
وفي كلامه ع ما يعرب عن كون الرسول ص هو المفسر الأوّل للقرآن الكريم يقول : « خلّف فيكم ( أي رسول اللّه ص ) كتابَ رَبِّكم ، مبيّناً حلالَه وحرامَه ، وفرائضَه ، وفضائلَه وناسخَه ومنسوخَه ، ورُخَصَه وَعَزَائمَه ، وخاصَّه
وعامَّه ، وعِبَره وأمثالَه ، ومُرسَلَه وَمَحْدوده ، ومُحْكَمه ومتشابهه ، مفسِّـراً مجمله ، ومبِّيناً غوامضه »
وهذه الوجوه ونظائرها تثبت أنّ القرآن لايستغني عن التفسير.
سؤال وإجابة
أمّا السؤال : فربما يتصور أنّ حاجة القرآن إلى التفسير ينافي قوله سبحانه : ( وَلَقَد يَسَّرنا القرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِر )
ونظيره قوله سبحانه في موارد مختلفة : ( بِلسان عَربىّ مُبين ) فإنَّ تَوصيف القرآن باليسر وَكَونِه بِلسان عَرَبي مُبين يهدفان إلى غناه عن أيّ إيضاح وتبيين؟
وأمّا الإجابة : فإنّ وصفه باليسر ، أو بأنّه نزل بلغة عربية واضحة يهدفان إلى أمر آخر ، وهو أنّ القرآن ليس ككلمات الكهنة المركّبة من الأسجاع والكلمات الغريبة ، ولامن قبيل الأحاجي والألغاز ، وإنّما هو كتاب سهل واضح ، من أراد فهمه ، فالطريق مفتوح أمامه ؛ وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلّف في علم الرياضيات أو في الفيزياء أو الكيمياء فيقول : أُلّف الكتاب بلغة واضحة وتعابير سهلة ، فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلِّم ليوضح له المطالب ويفسر له القواعد.
ولأجل ذلك قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أُثر عن النبي أو الصحابة والتابعين أو أئمة أهل البيت : في مجال كشف المراد وتبيين الآيات ، ولم تكن الآيات المتقدّمة رادعة لهم عن القيام بهذا الجهد الكبير.
نعم إنّ المفسّرين في الأجيال المتلاحقة ارتووا من ذلك المنهل العذب ( القرآن ) ولكلِّ طائفة منهم منهاج في الاستفادة من القرآن والاستضاءة بأنواره ، فالمنهل واحد والمنهاج مختلف : ( لِكُلّ جَعَلنا مِنُكم شِرعةً وَمِنهاجاً )
القرآن وآفاقه اللامتناهية
يتميّز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية بآفاقه اللامتناهية كما عبّـر عن ذلك خاتم الأنبياء ص وقال :
« ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له تخوم ، وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه »
وقد عبّـر عنه سيد الأُوصياء ع ، بقوله :
« وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لايدرك قعره ـ إلى أن قال : ـ وبحر لا ينزفه المستنزِفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون »
ولأجل ذلك صار القرآن الكريم ، النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه إلاّ معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الأُولى من التوصّل إلى مكامنه الخفية وأغواره البعيدة.
والمترقّب من الكتاب العزيز النازل من عند اللّه الجليل ، هو ذاك وهو كلام من لا تتصور لوجوده وصفاته نهاية ، فيناسب أن يكون فعله مشابهاً لوصفه ، ووصفه حاكياً عن ذاته ، وبالتالي يكون القرآن مرجع الأجيال وملجأ البشرية في جميع العصور.
ولما ارتحل النبي الأكرم ص ، والتحق بالرفيق الأعلى ، وقف المسلمون على أنّ فهم القرآن وإفهامه يتوقف على تدوين علوم تسهل التعرّف على القرآن الكريم ، ولأجل ذلك قاموا بعملين ضخمين في مجال القرآن :
الأوّل : تأسيس علوم الصرف والنحو واللغة والاشتقاق وما شابهها ، لتسهيل التعرّف على مفاهيم ومعاني القرآن الكريم أوّلاً ، والسنّة النبوية ثانياً ، وإن كانت تقع في طريق أهداف أُخرى أيضاً لكن الغاية القصوى من القيام بتأسيسها وتدوينها ، هو فهم القرآن وإفهامه.
الثاني : وضع تفاسير لمختلف الأجيال حسب الأذواق المختلفة لاستجلاء مداليله ، ومن هنا لانجد في التاريخ مثيلاً للقرآن الكريم من حيث شدّة اهتمام أتباعه به ، وحرصهم على ضبطه ، وقراءته ، وتجويده ، وتفسيره ، وتبيينه.
وقد ضبط تاريخ التفسير أسماء ما ينوف على ألفين ومائتي تفسير وعند المقايسة يختص ربع هذا العدد بالشيعة الإمامية
هذا ما توصّل إلى إحصائه المحقّقون من طريق الفهارس ومراجعة المكتبات
عدا ما فاتهم ذكره مما ضاع في الحوادث المؤسفة كالحرق والغرق والغارة.
وعلى ضوء هذا يصعب جداً الإحاطة بعدد التفاسير وأسمائها وخصوصياتها طيلة أربعة عشر قرناً حسب اختلاف بيئاتهم وقابلياتهم وأذواقهم.