المباحث الإنسانية في علم الكلام الإسلامي
بقلم: الشيخ عبد الحكيم الخُزاعي
مما لا شك فيه ان لكل علم موضوع يدرسه ، وباختلاف المواضيع تختلف العلوم ، وقد شغلت مسألة موضوع علم الكلام عقول المتكلمين ، لذا كل يحدد موضوعه من حيث اتجاهه الفكري ، ولكن مما يتفق عليه في الغالب ان موضوعه يدور حول المسائل الإلهية بالمعنى الأخص ، اي وجود الله تعالى وصفاته وأفعاله وبتعبير أدق (أصول الدين )لأن علم الكلام إنما اُسس لأجل الدفاع عن العقيدة الإسلامية ولأجل تنوير العقول بالمعارف الإلهية ، ولكن هذه النقطة الأساسية يراها البعض منقصة وليست محمدة ، حيث يُقال ان علم الكلام اهمل الإنسان واهتم فقط بالاله ، اهتم باللاهوت واهمل الناسوت ، وقد سُجلت هذه القضية كاشكال على علم الكلام ، وقد دعى البعض لتأسيس علم كلام جديد قائم على محور الإنسان وليس الله ، حتى ترجع المكانة الإنسانية للإنسان الذي كرمه الله وقال عنه (ولقد كرمنا بني آدم )
وما نريد بحثه هنا بنحو الاختصار هو الرد على هذه المقولة باختصار والا يبقى التفصيل في محله
الجواب :
اولا : نحن يجب أن لا نتوقع من علم معين أن يتحدث عن غير قضاياه ، فلن تتحدث الكيمياء عن الفيزياء ، هكذا علم الكلام لن يتحدث عن أشياء لم يؤسس لها ، لذا الخلل في التصور عنه وليس فيه ، فهو علم يهتم بالعقيدة وليس بالإنسان ، وتبقى قضايا الإنسان مبثوثة في الفكر الإسلامي والتشريع.
ثانيا :لايوجد هناك تناقض بين الله والإنسان ، فالإنسان هو من أفعال الله وعلم الكلام يتحدث عن أفعاله كما عن ذاته ، واس المشكلة الإنسانية هي عدم فهمه للعقيدة الصحيحة من هنا تنشأ المشكلة الإنسانية .
ثالثا :نحن لانسلم أن علم الكلام هجر الإنسان كليا بل توجد مباحث مهمة ترتبط بالإنسان بحثها علم الكلام ولنبين ثلاثة أمور ترتبط بالإنسان ومصيره وفهم جوهره الذي هو مقدمة لوضع اي حقوق وواجبات من أهم الأمور التي تحدث عنها علم الكلام وهي ترتبط بالإنسان وهي كثيرة لكن اخترنا ثلاثة
1 :فهم الإنسان :فما هي حقيقة الإنسان ، هل هو موجود مادي أم روحي ، أم مركب منهما ، نجد هذا جليا واضحا في علم الكلام ، ولنذكر مثال ماذكره المحقق الطوسي حول هذه الحقيقة في كتابه (قواعد العقائد )قال قدس :في أقوال الناس في حقيقة الإنسان وأنّـها أيّ شيء هي ؟
اختلفوا في حقيقة الإنسان.فبعضهم قالوا: إنّ الإنسان هو هيكله المحسوس وبعضهم قالوا: هو أجزاء أصليّة داخلة في تركيب الإنسان لاتزيد بالنمو ولاتنقص بالذبول.
وقال النظام: هو جسم لطيف داخل في البدن سار في أعضائه.وإذا قطع منه عضو تقلّص ما فيه إلى باقي ذلك الجسم.وإذا قطع بحيث انقطع ذلك الجسم مات الإنسان.
وقال ابن الراوندي: هو جزء لايتجزّى في القلب.وبعضهم قالوا: هو الدّم.وبعضهم قالوا: هوالأخلاط الأربعة.وبعضهم قالوا: هو الروح، وهو جوهر مركّب من بخاريّة الأخلاط ولطيفها.مسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ والكبد، ومنها تنفذ في العروق والأعصاب إلى سائر الأعضاء.وجميع ذلك جواهر جسمانيّة.
وبعضهم قالوا: هوالمزاج المعتدل الإنسانيّ.وبعضهم قالوا: هو تخاطيط الأعصاب وتشكّل الإنسان الذي لايتغيّر من أوّل عمره إلى آخره.وبعضهم قالوا: هوالعرض المسمّى بالحياة.وجميع ذلك أعراض.والحكماء وجمع من المحقّقين من غيرهم قالوا: إنّه جوهر غير جسمانيّ لايمكن أن يشار إليه إشارةً حسّية.فهذه هي المذاهب، وبعضها ظاهر الفساد.
فنحن نرى هنا أكثر من نظرية في تحقيق حقيقة الإنسان ، فمنهم من جعله ماديا بل هو الدم فقط ، ومنهم من جعله مجردا وراء الجسد وهو الروح ، وهذا المبحث إنما يرتبط بالمعاد ، إذ التحقيق في حقيقة النفس الإنسانية يتوقف عليه إثبات المعاد بقسميه الروحي والبدني.
فنقول هنا اي اهتمام بالإنسان لا ينتهي من قضية حقيقة الإنسان ، قد ينتهي بالاهتمام بصورة مشوهة عن الإنسان كما هي النظرية المادية التي رأت الإنسان موجودا ماديا فقدمت له الحقوق التي ترتبط بهذا البعد فقط ، أو كما يقول الشهيد الصدر الأول ، هي تعالج مشكلته منذ الجلوس صباحا حتى أن ينام في السرير ووراء ذلك لايوجد اي تصور! !
2.المعرفة العقلية للإنسان :هل العقل يدرك أم لايدرك ، هل يدرك فقط مايبينه الشرع أم له إدراكات مستقلة عنه ، حيث ذهبت الأشاعرة إلى الأول وقالت ان التحسين والتقبيح شرعيين ، وذهبت العدلية إلى الثاني وقالوا العقل يدرك الحسن والقبح ، وأنهما إدراكات عقلية قبيلة ، اي قبل الشرع وهما أساس ادراك الشرع ، فمن خلال التحسين والتقبيح ندرك أن الله عادل حكيم ، إذن لايبعث الكذابين ولن يترك الناس سدى بلا تكليف ، وقد اثمرت هذه القضية قضايا كلامية ترتبط بأصول الدين ، بل والفقه والأخلاق ، انهاها الشيخ جعفر السبحاني إلى أكثر من عشرة ثمرات ، وهي قضية إنسانية ، بُحثت في علم الكلام منذ القدم واليوم تُعتبر مسألة مهمة في نظرية المعرفة ، وأيضا في فلسفة الدين
3.حرية الإنسان :من أهم المسائل القديمة والتي لن يكف عنها انسان يوما ما ، وتحدث فيها الدين والفلسفة والأدب وأغلب العلوم ، وكانت لعلم الكلام صولة وجولة ، انتهت بالحفاظ على حرية واختيار الإنسان لكن تحت قدرة الله (لاجبر ولاتفويض لكن أمر بين أمرين )بينما ذهبت الأشاعرة إلى نظرية الكسب وهي جبر مغلف وذهبت المجبرة إلى الجبر الصريح ، وذهبت المعتزلة إلى التفويض واستقلال الإنسان المطلق في فعله.
وبحث الحرية الإنسانية بحث مهم على صعيد المباحث الإنسانية ، فنجد في العصر الحديث من ينكر الإرادة الحرة كالجبرية ويقولون أن الإنسان أسير بيئته وجيناته وثقافة عصره ، أو هو مجبور للاقتصاد ، وهناك من قالت بالحرية المطلقة ، بينما نجد أن علم الكلام عالج هذه الإشكالية كثيرا وجعل الإنسان مسؤولا عن أعماله أمام الله والعدل.
فهذه القضايا الثلاث هي ممثل أمهات القضايا الإنسانية ، فهل ياترى نقول بعد ذلك أن علم الكلام اهمل الإنسان ، ونحن لاندعي انه تحدث عنه في كل الأشياء حيث قلنا في النقطة الأولى لا نتوقع من علم أن يتحدث عن غير موضوعه ، لكننا وجدنا انه تحدث عن جوهر القضايا الإنسانية
وبقت الكثير من المسائل المهمة ذات الطابع الفكري بل والسياسي مثل مسألة الإمامة ، وغيرها من المباحث المهمة في الإنسان.
نتمنى أن تكون لنا فرصة سانحة للحديث عنها مفصلا