العلم عند الصادق عليه السلام
بقلم : الشيخ عبد الحكيم الخُزاعي
لو رسمنا خارطة العلم عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لكانت خارطة متكاملة في نوعية العلم وأيضا في المتلقي للعلم وهذا ما سنبينه مختصرا في هذه النقاط القليلة
اولاً: ماهية العلم : لم يختص الإمام الصادق ع في العلوم الدينية والتي توضع تحت مسمى ( العلوم الإنسانية ) اليوم ، بل امتد الأمر إلى العلوم التي تصنف تحت مسمى ( العلوم التجريبية ) ومن أراد أن يطلع على هذه الحقيقة فعليه مثلا مراجعة كتاب ( الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب ) حيث بين الكتاب اهتمام الإمام عليه السلام في شتى العلوم ، ولم يهتم فقط بعلوم الدين ، بل وظف بعض العلوم لإثبات التوحيد ، فمثلا توحيد المفضل ، هو إثبات للتوحيد من خلال البدن الإنساني ، وهذا بحث مهم يرتبط في قضية تلاقح العلوم وعلاقة الدين بباقي العلوم ، ويكفي في هذه النقطة الإشارة إلى تلميذه ( جابر بن حيان ) الذي تخصص في الكيمياء ، ونحن هنا لانريد أن نقول أن الإمام عليه السلام كان عمله وشغله الشاغل هذه العلوم ، وليس هي عقدة نقص نريد من خلالها إثبات ان العلم التقني التجريبي موجودا في الإسلام لأجل التعويض النفسي كما يتهمنا خصومنا في هذه القضية ، بل نريد أن نقول أن مصطلح ( جامعة الإمام الصادق ) الذي أطلقه الكثير على فترة الإمام الصادق ع هو مصطلح صحيح جدا ، فقد تنوعت هذه الجامعة في علومها ، وهذا يجعلنا نراجع أنفسنا كثيرا على مستوى الحوزات والمعاهد الدينية بل على مستوى الجامعات الحكومية فأين نحن اليوم من علوم عصرنا ؟
ثانيا ً: لمن العلم ؟ الجامعة اليوم إنما يغترف من نمير علمها الجميع فهي لا تنتمي لجهة أو طائفة أو عرق أو قومية ، ومن يطالع التأريخ يجد هذه القضية واضحة في مدرسة وجامعة الإمام عليه السلام ، فهو لم يكن مذهبيا في العلم بل يعطي علومه للجميع ولم يكن يوقف علمه على خاصة تلامذته وان كان يريد ان يركز مدرسة أجداده الطاهرين ، لكنها مدرسة الإسلام المنفتح على الجميع ، لذا كان أئمة المذاهب يدرسون تحت منبره الشريف فهذا ابو حنيفة النعمان يقول ( لولا السنتان لهلك النعمان ) قال مالك بن أنس إمام المالكية: «وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً»، ويقول في كلمة أخرى: «ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد) وهكذا باقي أئمة المذاهب والحديث ، فهو صاحب مدرسة علمية متكاملة رصينة لم تنغلق على نفسها بل تخرج منها علماء المسلمين من كافة المذاهب الإسلامية .
ثالثا ً: الحوار العلمي : لم يكن الإمام عليه السلام يحاور أبناء المذاهب الإسلامية فقط بل انفتح حواره على الآخر بكافة أنواعه حتى شمل الملحدين واللاادرية ، وكانوا يدخلون عليه ولايجدون حرجا في أن يكلموه في ما يعتقدون ، كان يسمع لهم ثم يجيب ويحاور بعملية وانفتاح كامل ولقد صور لنا التأريخ ذلك بدقة
وكان من هؤلاء الثلاثة عبد الكريم بن أبي العوجاء، وهو من الملاحدة المشهورين الذي اعترف بدسه الأحاديث الكاذبة على أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله).
وكان ابن أبي العوجاء في بداية أمره موحداً مؤمناً حسن السيرة والسلوك يتردد على مدرسة الحسن البصري، فلما انحرف عن التوحيد، اعتزل حوزة الحسن البصري.
وانتهى أمره بالقتل لأنه ملحد، قتله محمد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور العباسي.
كان ابن أبي العوجاء يوماً هو وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق، وأومأ بيده إلى موضع الطواف. ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، أما الباقون فرعاع وبهائم.
فقال ابن أبي العوجاء: وكيف أوجب هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟.
فقال: لأني رأيت عنده ما لم اره عندهم.
فقال أبن أبي العوجاء: لا بد من اختبار ما قلت فيه منه.
فقال ابن القفع: لا تفعل، فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك.
فقال: ليس ذا رأيك، لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في احلالك إياه هذا المحل الذي وصفت.
فقال ابن المقفع: أما إذا توسمت علي، فقم إليه وتحفظ من الذل، ولا تثن عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال.
فقام أبن أبي العوجاء إلى الصادق (عليه السلام) فلما رجع منه قال: ويلك يا أبن المقفع، ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً، ويتروح إذا شاء باطناً، فهو هذا.
فقال له: كيف ذلك؟
فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده أحد غيري، ابتداني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون وليس هو كما تقولون، فقد استويتم وهم.
فقلت: يرحمك الله، وأي شيء نقول، وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد.
فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحد، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون يأن للسماء إلهاً وإنها عمران، وأنتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها أحد.
قال: فأغتنمتها منه، فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف فيه اثنان. ولم يحتجب عنهم، ويرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟
فقال لي: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشوك بعد أن لم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إنابتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجاؤك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك.
وما زال يعد علي قدرته التي هي في التي لا أدفعها، حتى ظننت انه سيظهر فيما بيني وبينه.
والخلاصة كانت جامعة الإمام عليه السلام جامعة متكاملة من حيث نوعية العلم وهي اسلامية وأيضا إنسانية عامة
والحمد لله رب العالمين