الحاجة إلى الدين بين علم الكلام القديم والجديد
بقلم : الشيخ عبد الحكيم الخُزاعي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطاهرين.
من المباحث المهمة في علم الكلام الجديد هو مبحث الحاجة إلى الدين ، وهو موضوع حيوي في ظل تصاعد البحث عن الحاجة إلى الدين في العصور الحديثة التي تطور فيها العلم وأصبح يوفر أغلب الحاجات الإنسانية بل يدعي الكثير انه أيضا يوفر بديلا عن الدين في علومه الإنسانية ويمنح الإنسان سلوى ومعنى بعيدا عن تفسير اللاهوت ، لذا كان واحدا من المباحث التي أهتم بها علم الكلام الجديد ليبين ماهية الدين في الحياة الإنسانية ويجيب عن هذه المسألة إجابة واضحة صريحة مثبتا فعالية الدين في كل عصر ولكل انسان خصوصا الإنسان الحديث لأنه يوفر قضايا لايمكن أن ينوب بها غيره لذا عبر عنه المرحوم الشيخ مرتضى مطهري انه (شمس لن تغيب )
وقد اهتم علم الكلام القديم بالمسالة اهتماما قليلا ولم يرد له بحثا خاصا واكتفى بالأدلة والاثباتات لأصل وجود الله والأديان وان كان هناك بحثا فرعيا يلقي الضوء نسبيا على هذا النقطة الحساسة ، حيث تناول علماء الكلام هذه القضية في مبحث النبوة عندما استدلوا على حسن البعثة ووجوبها في قبال من قال بعدم حسنها أساسا مثل البراهمة أو عدم وجوبها مثل الأشاعرة.
ماهي الحاجة إلى الدين في علم الكلام القديم
تناول علماء الكلام منذ القدم هذه القضية في مبحث فوائد بعثة الأنبياء ، فنجد ان الخواجة نصير الدين الطوسي يتناولها في كتابه تجريد الاعتقاد وغيره من علماء الكلام ويمكن إجمال هذه الفوائد بعدة نقاط كما ذُكرت في كتاب كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص323 مع التعليق عليها .
أولا :ان يعتضد العقل بالنقل فيما يدل عليه من الأحكام كوحدة الصانع وغيرها وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لايدل العقل عليه كالشرائع وغيرها من مسائل الأصول.
فالفائدة الأولى هي فائدة تاييدية إرشادية لحكم العقل وكذلك تأسيسية فيما لايدركه العقل ، فالعقل يدرك وجود الله عبر الدليل العقلي ويدرك قبح الظلم وحسن العدل فيؤسس لعلم الأخلاق والسياسة ويأتي الشرع مؤيدا له وفائدة التأييد كبيرة فقد يغفل العقل الإنساني وينسى فيأتي الشرع مذكرا لذا قال القرآن عن مهمة النبي انه مذكر وعن القرآن انه ذكرى ، وماذلك إلا لوجود أشياء أساسية في فطرة وعقل الإنسان منسية وهذا أيضا ما تحدث عنه الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة حيث ذكر ان فائدة بعثة الأنبياء هي التذكير :( "وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول).نهج البلاغة
هذه واحدة من منافع تأييد النقل للعقل والا هناك فوائد أخرى .
أما التأسيس الديني فإنه يكون في الشرائع التي لايدركها العقل المجرد كقضايا العبادات والمعاملات وقضايا الغيب وعالم الآخرة وغيرها من المسائل التي لا يستقل العقل الإنساني بها .
وهذه مسألة حساسة ترتبط في قضية علاقة العقل والنقل وهي مسألة خلافية فهناك من يرى النسبة بين العقل والنقل نسبة تباين وهناك من يراها نسبة تساوي وهناك من يراها نسبة عموم وخصوص من وجه وغيرها من النسب المتصورة وقد بحث العلماء هذه القضية في مبحث التحسين والتقبيح العقليين التي كانت مدار خلاف بين الأشاعرة والعدلية.
ثانيا:إزالة الخوف الحاصل للمكلف عند تصرفاته اذ قد علم بالدليل العقلي انه مملوك لغيره وان التصرف في ملك الغير بغير اذنه قبيحا فلولا البعثة لم يعلم حسن التصرفات.
وهذه فائدة نفسية ترتبط برفع الخوف النفسي الحاصل من كون الإنسان يرى نفسه مملوكا لله تعالى وكل شي أيضا ملك لله فكيف يتصرف بنفسه والأشياء فتاتي الشريعة ويأتي الدين يحدد له التصرفات الصحيحة من غيرها عبر التكاليف الشرعية التي اباحت له الكثير ، وحرمت عليه القليل وكرهت له أشياء واوجبت له أشياء وحسنت له أشياء دون الوجوب ، وهذه هي الأحكام التكليفية الخمسة المبحوث عنها في علم الأصول ونجد جزئياتها في علم الفقه الإسلامي.
فإذا استند الإنسان إلى قانون السماء ارتفع الخوف منه وتصرف على نحو عدم الحرج وزال خوفه لأن المالك إذن له في ذلك وحدد له التصرفات.
ثالثا :ان بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضار لنا مثل كثير من السموم والحشائش والعقل لايدرك ذلك كله وفي البعثه تحصل هذه الفائدة.
وهذه نقطة حساسة فقد كان الإنسان القديم لايعرف الكثير من القضايا الضارة من النباتات وغيرها فيأتي الدين يعرفه ذلك فإن العقل لوحده لايعرف ذلك ، نعم انسان اليوم ببركة العلم اهتدى للكثير من هذه القضايا ، ولكنه أيضا لوحده لايكفي فهناك قضايا يرشد اليها الدين في منظومته المتكاملة بأعتباره نازلا ممن خلق السموات والأرض وهو الذي يعرف الضر والنفع ، وهذه المهمة هي مهمة حفظ وجود فلولا إرشاد وبيان الدين لتضرر الوجود الإنساني وتلاشى وقد حدثنا التأريخ كيف علم الأنبياء الناس هذه القضايا بل الكثير من الصنائع.
رابعا : الإنسان مدني بالطبع وهذه المدنية تقتضي التشارك والتغلب على الآخرين موجود في الطبائع البشرية فيحصل التنافر بين أفراد النوع الإنساني لذلك احتاج الى قانون عاصم قاهر ولا يمكن ذلك من قبل نفس الإنسان لأنه يستفيد من القانون لزيادة الاستئثار فلابد من أن يكون من الله تعالى فيكون ذلك عبر النبوة والإعجاز فيخفوهم وينذرهم ويحذرهم فيستقر بذلك النوع والنظام الإنساني ، فالحاجة إلى الدين حاجة اجتماعية ترجع إلى النظام.
خامسا :الناس متفاوتون في الإدراك فمنهم من يتصل بالأمور العالية كالانبياء والأئمة والأولياء وبعضهم ناقص في ذلك وفائدة الدين والنبوة تكميل الناقص منهم لذلك قال النبي صلى الله عليه وآله (إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق )
سادسا : ان الأنبياء يدعمون القوة الأخلاقية عبر الثواب والعقاب فينتظم الإنسان في أخلاقه في منزله ومدينته
هذه اهم الحاجات إلى الدين في علم الكلام القديم قد لخصناها من كتاب كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي وتلميذه الشارح جمال الدين الحسن يوسف الحلي قدس سرهما
وقدر اختلفوا في بعض القضايا كفوائد وحاجة إلى الدين مثل الحاجة إلى الدين في القضايا العلمية الصرفة مثل الطب والهندسة والغذاء والصنائع قال نصير الدين قدس في كتابه تلخيص المحصل والمحصل كتاب لفخر الرازي لخصه الخواجة نصير الدين الطوسي ورد عليه في صفحة 367 (
أما الفوائد البعثة التي عدها فنقول :ضرورة وجود الأنبياء لتكميل الأشخاص بالعقائدالحقة والأخلاق الفاضلة والأفعال المحمودة النافعة لهم في عاجلهم واجلهم وتكميل النوع باجتماعهم على الخير والفضيلة وتساعدهم في الأمور الدينية و سياسة الخارجين عن جادة الخير والصلاح وباقي الوجوه التي ذكرها فلبعضها زيادة في المنفعة وبعضها مما لا فائدة في ايراده،فإن الأنبياء لم يعلمونا الطب ولا طبايع الحشايش ولا طبايع درجات الفلك ولا رصد عطارد ولا اكثر الصناعات .)
فنجد ان المحقق الطوسي قد رفض نظرية الفخر في الاحتياج إلى الدين بالمطلق حتى في الطب والفلك والأغذية وغيرها من القضايا التي يمكن ان يتوصل اليها عبر العقل والعلم، وان كان قد قبلها تمليذه الحلي وذكرناها أعلاه.
وسنتحدث ان شاء الله تعالى لاحقا عن وجه الحاجة إلى الدين في علم الكلام الجديد .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين