ما هي مصادر القرآن البشرية؟
ما هي مصادر القرآن البشرية؟
يَرى الفادي المفترِي أَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، وِإنما أَخَذَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من مصادِرَ بشريةٍ حولَه! وزَعَمَ أَنَّ القرآنَ لا يَثبتُ أَمامَ التدبرِ والبحثِ والفحص.وقد دَعانا اللهُ أَنْ نتدبَّرَ القرآنَ لمعرفةِ تناسُقِه وصحَّحِه وصَوابِه، وخُلُوِّهِ عن
الخطأ والتناقضِ والاختلافِ والاضطراب، وذلك في قولِه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وعلق الفادي على الآية بقوله: " وهل يَحتملُ القرآنُ التدبُّرَ والفحصَ؟
وهل يَقبلُ المسلمونَ مبدأَ البحثِ للوقوفِ على حَقيقةِ القرآن؟..
لقد دَلَّت الأَبحاثُ أَنَّ محمداً أَخَذَ القرآنَ وشرائعَه من الصابئين، وعربِ الجاهلية، واليهودِ، والمسيحيين، وعن تَصَرُّفاتِه التي جعلَها سُنَّةً لغيرِه ".
هكذا إِذن! القرآنُ في نظرِ المفترِي لا يَصْمُدُ أَمامَ الفحصِ والبحثِ
والتدبُّر! وقد دَلَّت الأَبحاثُ على أَنَ القرآنَ بشريُّ المصدر، أَخَذَهُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الناس الذين حولَه، كالعربِ واليهودِ والصابئين..
ولم يُخْبرنا الفادي المفتري من هم الذينَ قاموا بتلك الأَبحاث، ولا كيفيةَ قيامِهم بها، ولا مكانَها وزمانَها ونتائجَها.
وللتَّدليلِ على دَعواهُ عَرَضَ نماذجَ من ما أَخَذَهُ محمدٌ عن كل من:
الصابئين والعربِ واليهودِ والنصارى وعاداتِه الشخصية! لِننظرْ في النماذجِ التي قَدَّمَها:
أولاً: ما أَخذه عن الصابئين:
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - اعتبرَ الصابئين أَصحابَ دينٍ سماوي، وأَدخلَهم الجنة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
وقال أَيضاً بنفسِ الفكرةِ في سورة البقرة (61) ، وسورة الحج (17) ...
هل هذه الآيةُ اعترافٌ بدينِ الصابئين، وتَقريرٌ أَنهم على حق، وأَنهم من
أَهلِ الجنة؟
إِنها تَذْكُرُ الصابئين مع اليهودِ والنصارى، فهل كُلُّ اليهودِ مؤمنون
في الجنة؟
وهل كُلُّ النصارى مؤمنونَ في الجنة؟
كلا.
لا يُعْتَبَرُ مؤمناً مَقْبولاً من الصابئين واليهودِ والنَّصارى إِلّا مَنْ اَمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالحاً!.
ومتى يكونُ الإِيمانُ بالله صَحيحاً كاملاً؟
لا يَكونُ صحيحاً مقبولاً إلا إذا آمنَ صاحبُه بكلِّ رسلِ اللهِ وأَنبيائِه، وبكلِّ كتبه، فمنْ لم يؤمنْ بنبوةِ رسولٍ من رسلِه لم يُقْبَلْ إِيمانُه كُلُّه، ومَنْ لم يُؤْمِنْ بأَحَدِ كُتُبه التي أَنزلَها على رسلِه لم يُقْبَلْ إِيمانُه كُلُّه..
فهل الصابئون واليهودُ والنصارى يؤمنونَ بكلِّ كُتُبِ الله ورسلِه؟
الجوابُ بالنفي!!.
لا يؤمنُ الصابئونَ بدينِ اليهودِ والنصارى والمسلمين، فهم كافرونَ
مُخَلَّدونَ في جهنم..
ولا يؤمنُ اليهودُ بدينِ النصارى، وينكرونَ رسالةَ عيسى وكتابَه الإِنجيلَ، كما يُنكرونَ رسالةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والقرآنَ المنزَّلَ عليه.
فهم كفارٌ لم يؤمنوا باللهِ حقّاً..
أَمّا النَّصارى فإِنهم لا يؤمنون باللهِ حَقّاً، لأَنهم لا يؤمنونَ أَنَّ القرآنَ كَلامُ الله، ولا أَنَّ محمداً هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
أَما نحنُ المسلمين فإِنَّنا وَحْدَنا الذين نؤمنُ باللهِ حَقّاً، ونُحققُ أَركانَ
الإِيمانِ كاملة، فإِننا نؤمنُ بكُل الرسلِ الذين أَرسلَهم الله، وفي مقدمتِهم موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ونؤمنُ بكلِّ الكتبِ التي أَنزلها الله، ومنها التوراةُ والإِنجيلُ والقرآن.
وعندما ننظرُ في الآيةِ موضوعِ الحديث، فإِننا نَراها تُقَدِّمُ لنا المسلمين
باعتبارِهم الأُمَّةَ التي حَقَّقت الإِيمانَ الصحيحَ الكامل، أَمّا الأُمَمُ الأُخرى فإِنَّ
الواحدةَ منها لا تُقْبَلُ إِلّا إِذا كانَ إِيمانُها مثْلَ إِيمانِ المسلمين.
قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) .
وتتكوَّنُ الآية ُ من جملتَيْن: الجملة الأُولى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
والمرادُ بالموصولِ وصلَتِه (الَّذِينَ آمَنُوا) المسلمون.
وخَبَرُ " إِنَّ " محذوف، والتقدير: إِنَّ المؤمنين مفلحون ...
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
والجملة الثانية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ..
فالواوُ في: (وَالَّذِينَ هَادُوا) حرفُ استئناف وليسَ حرفَ عَطْف.
(وَالَّذِينَ هَادُوا) مبتدأ.
(وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) معطوفٌ عليه.
والخَبَرُ هو: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
ومعنى هذه الجملةِ الاسمية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : المؤمنونَ من هذهِ الطوائف: اليهود والصابئين والنصارى، هم الذينَ آمَنوا بالله واليوم الآخر..
ولَنْ يَكونوا مؤمنين باللهِ حقّاً إِلّا إِذا آمَنوا بكلِّ كتبِه وخاتمِها القرآنِ، وآمَنوا بكلِّ رسلِ الله، وخاتمِهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وليسَ في هذه الآية ثناءٌ على الصابئين، وشهادةٌ لهم بأَنهم من أَهلِ
الجنة، كما زَعَمَ الفادي المفترِي (1) .
وكَذَبَ الفادي المفترِي عندما زَعَمَ أَنَّ الإِسلامَ أَخَذَ عقيدتَه عن
الصابئين! وذلك في قوله: " وقد نَقَلَ الإِسلامُ عنهم عقائدَهم، المعمولَ بها فيه إِلى الآن!! ".
ولم يَجِد المفترِي دَليلاً على دعواهُ الكبيرةِ الضالّة، إِلّا كَلاماً مُجْمَلاً
نقلَه من كتاب " بلوغ الأَرَب في أَحوالِ العرب " للآلوسي، ولم يُقَدِّم الآلوسي دَليلاً على كلامِه، واكتفى بادِّعاءِ أَنَّ للصابئةِ خمسَ صلواتٍ مثْلَ صلواتِ المسلمين، ويُصَلُّونَ على الجنازةِ مثلَ صلاةِ المسلمين عَلَيْها، ويصومون ثلاثينَ يوماً مثلَ المسلمين، ويتوجَّهون في صلاتهم نحو الكعبة، ويُحَرِّمونَ الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزير، ويُحَرِّمونَ زواجَ المحرمات من القريبات مثل المسلمين!!
وَهَبْ أَنَّ هذا الكلامَ صحيحٌ فهل مَعْناهُ أَنَّ الإِسلام أَخَذَ عنهم عقائِدَهم؟
إِنَّ " الصابئينَ " فرقةٌ صغيرةٌ قليلةُ العدد، لا يتجاوزُ عَدَدُ أَفرادِها بضعةَ آلاف، وهم مُقيمونَ في العراق، ولعلَّهم تَأَثَّروا بالإِسلام على مَدارِ التاريخِ الإِسلامي، فأَخذوا منه بَعْضَ أَحكامِه وتَشريعاتِه..
أَمّا أَنْ يكونَ الإِسلامُ هو الذي أَخَذَ
عنهم عقائِدَهم وأَحكامَهم، فهذا ادعاءٌ كبيرٌ ليس عليه دَليل.
وبهذا نَرى أَنَّ القرآنَ لم يَأخُذْ من الصابئين شيئاً، وأَنَّ الفادي كاذبٌ
مُفْتَرٍ عندما ادَّعى ذلك!!.
ثانياً: ما أَخَذَه عن عرب الجاهلية:
نَقَلَ الفادي المفترِي أَقوالاً عن بعضِ العلماءِ المسلمين عن أَحوالِ
العربِ الجاهليِّين الدينية، مثلِ الشهرستاني في المِلَلِ والنَحَل، والآلوسي في
نهايةِ الأَرب، وزَعَمَ أَنَّ الإِسلام جاءَ بها واعتَمَدَها، وأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَها عنهم، وبذلك صارَتْ حياةُ العربِ الجاهليةُ من مصادرِ القرآن، وهذا معناهُ أَنَّ القرآنَ من عندِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وليس من عندِ الله!!.
ومما نَقَلَه عن الشهرستاني والآلوسي عن أحوال العرب الدينيةِ في
الجاهليةِ: كانوا يُحَرّمونَ الجمعَ بين الأُختين، ويُحَرِّمونَ نِكاحَ زوجةِ الأَب،
ويَحُجّون ويَعْتَمرون، ويَطوفون ويَسعون، ويَغْتسِلون من الجنابة، ويقومونَ
بتقليمِ الأَظفار، ونَتْفِ الإِبْط، وحَلْقِ العانة، ويَقْطعون يَدَ السارقِ اليمنى..
وكانوا يَلتزمونَ بدينِ إِبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وكانوا يُوَحِّدونَ اللهَ ولا يُشركونَ به أَحَداً، ويُصَلّون ويَصومون ويُزَكّون ويَحُجّون، ثم طَرَأَ عليهم الشركُ بعد ذلك.
وليس غريباً أَنْ يَلتزمَ العربُ الجاهليّون بدينِ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ - عليهما السلام - فقد بَعَثَ اللهُ إِسماعيلَ رسولاً إِليهم - عليه السلام -، والبيتُ الذي بَناهُ إِبراهيمُ وإسماعيلُ - عليهما السلام - ما زالَ موجوداً بينهم، وقد كانوا مُوَحِّدينَ لله فترةً من الزمان، ثم طرأَ عليهم الشركُ بعد ذلك، عندما أَدخَل عمرُو بنُ لُحَيّ عبادةَ الأَصنامِ عليهم، ووضعَ الأَصنامَ في الكعبة، وحَتّى بعد شِرْكِهم بالله، بقيتْ فيهم بعضُ الأَحكامِ والقيمِ والأَعرافِ الصحيحة، التي أَخَذوها عن شريعةِ إِسماعيلَ - عليه السلام -.
وليس غريباً أَنْ يأتيَ الإِسلامُ بتلك الأَحكامِ والتشريعات، وأَنْ يكونَ
مُصَدِّقاً لها، لأَن اللهَ بعثَ إِسماعيل - عليه السلام - رسولاَ، كما بَعَثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، فالشريعةُ التي جاءَ بها إِسماعيلُ هي من عندِ الله، والشريعةُ التي جاء بها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هي من عندِ الله أَيضاً، والشرائعُ التي بَعَثَ اللهُ بها الرسلَ يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً، مع أَنَّ كُلَّ شريعةٍ قد تختصُّ بما لم يوجَدْ بالشرائعِ قبلَها.
وقد جاءَ عيسى مُصَدِّقاً لما جاءَ به موسى قبلَه، عليهما الصلاة والسلام،
قال تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
وجاءَ القرآنُ مُصَدِّقاً وموافقاً لما سَبَقَه من الكتبِ الربانية، فيما لم يُحَرَّفْ
منها، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
وكونُ القرآنِ مُصَدِّقاً للتوراةِ والإِنجيلِ ليس معناهُ أَنه أَخَذَ حَقائِقَه
وأَحكامَه منهما، ولا يقولُ هذا إِلَّا جاهل متحامل مثلُ هذا الفادي المفترِي.
وكونُ الإِسلامِ موافِقاً لشريعةِ إِسماعيل - عليه السلام - لا يَعني أَنَّ محمداً " - عليه السلام - أَخَذَ رسالتَه من العربِ الجاهليّين، كما قالَ هذا المفترِي، إِنما يَعني توافُقَ الرسالتَيْن والشريعتَيْن: رسالةِ إِسماعيلَ وشريعتِه، مع رسالةِ محمدٍ وشريعتِهِ، عليهما الصلاة والسلام، لأنهما من عند الله.
ثالثاً: ما أخذه عن اليهود:
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ التوراةَ وأَسفارَ العهدِ القديمِ كانت أَحَدَ مصادرِ
القرآن، وأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ القصصَ الكثيرةَ التي سَجَّلَها في القرآنِ عن أَسفارِ العهدِ القديم!! وهذا يَعني أَنها كانَتْ بينَ يَدَيْه، يقرأُ فيها ويَختارُ منها، ويَنقلُ عنها، ويَنسبُها إِلى الله! وما كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قارئاً ولا ناقلاً ولا كاتباً.
وأَشارَ اللهُ إِلى أُمّيَّتِه الدالةِ على نبوَّتِه ورسالتِه، فقالَ تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) .
ولْنقرأْ دعوى الفادي الباطلة؟
قال: " في التوراةِ قصةُ آدمَ وقابيل وهابيلَ ونوحٍ وإِبراهيمَ وإِسماعيلَ وإِسحاقَ ولوطٍ ويوسفَ وموسى وفرعونَ وبني إِسرائيل والمَنِّ والسَّلوى والوصايا العشر والتّابوت، وشريعةِ العين بالعين والذبائح، وقصة الجواسيس وقورحَ وبلعامَ وجَدعونَ وصموئيلَ وشاولَ وداودَ وسليمانَ وإِيليا واليشعَ وأَيوب.
واقتطفَ القرآنُ من أَقوالِ دوادَ وأَشعياءَ وحزقيالَ ويونان وغيرهم.
وقال: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) ".
القَصَص المذكورةُ في القرآنِ أَخَذَها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من التوراة، في زعْمِ هذا المفتري، ودليلُه على هذه الدعوى وجودُ تلك القَصصِ في التوراةِ ووجودُها في القرآن، وهذا يعني أَنَّ الكتابَ المتأَخِّر أَخَذَها من الكتابِ المتَقَدِّم!!.
وعندما ننظرُ في حديثِ القرآنِ عن القصةِ من قَصَصِ السابقين وحديثِ
التوراةِ عنها فإِننا نجدُ فَرْقاً واضِحاً بين الحديثَيْن، ولا يَلْتَقيانِ إِلّا في ذكْرِ
عنوانِ القِصَّةِ ومُجْمَلِها، ولكنَّهما يَختلفانِ في التفاصيل، ويَظهرُ هذا في كلِّ
قصةٍ ذَكَرَها القرآن، كقصةِ آدمَ وقصةِ نوحِ وقصةِ إبراهيمَ وقصةِ يوسف وقصة موسى!.
والفادي نفسُه اعترفَ بالفَرْقِ بين حديثِ القرآنِ وحديثِ التوراةِ عن
قَصَصِ السابقين، واعتبرَ هذا الفرقَ دليلاً على وُقوعِ الأَخطاءِ التاريخيةِ في
القرآن، وسَبَقَ أَنْ ناقَشْناه في تلك الادِّعاءات.
وعجيبٌ موقفُ هذا الفادي وفهمُه الأَعوج، فإِذا وافَقَ القرآنُ التوراةَ في
حديثِه عن قَصصَ السابقين قال: أَخَذَ محمدٌ القرآنَ عن التوراة، ونَقَلَ ما فيها!
وإِذا خالَفَ القرآنُ التوراةَ في بعضِ التفاصيل قال: أَخطأَ القرآنُ في حديثِه لأَنه خالَفَ التوراة!! المهمّ أَنَّ القرآنَ عندهُ متَّهَمٌ على كلِّ حال، سواءٌ وافَقَ التوراةَ أَو خالَفَها!.
إِنَّ وجودَ فروقٍ بينَ حديثِ القرآن وحديثِ التوراةِ عن قَصَصِ السابقين
دليلٌ على أَنَّ القرآنَ وحيٌّ من عند الله، ولو كانَ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَنَقَلَ كُلَّ ما وَجَدَهُ أَمامَه، سواء كانَ خَطَأً أَوْ صَواباً.
وأَشارَ القرآنُ إِلى هذهِ الحقيقة، واعتبرَ ذِكْرَ أَحداثِ القصةِ في القرآنِ
دليلاً على أَنه من عندِ الله.
قال تعالى في خاتمةِ قصةِ نوح في سورةِ هود:
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) .
وقالَ في خاتمةِ قصةِ يوسف: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) .
وقالَ في حديثِه عن قصةِ موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
ومن مُغالطاتِ الفادي المفترِي أَنه أَرادَ أَنْ يَجعلَ القرآنَ نفسَه شاهداً
على أَنه مأخوذٌ من التوراة، فَذَكَرَ قولَه تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ، شاهداً على ذلك.
قَطَعَ الآيةَ عن سياقِها ليُسيءَ الاستدلالَ بها، وهي واردةٌ في سياقِ آياتٍ
تتحدَّثُ عن مصدرِ القرآن، وتَجزمُ بأَنه من عندِ الله.
قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) .
وليس معنى قوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أَنَّ مادةَ هذا القرآن مأخوذةٌ من
زُبُرِ الأَوَّلين، وكتبِ الأَنبياءِ السابقين، كالتوراةِ والزبور والإِنجيل، ولكن
معناها أَنَّ القرآنَ مُصَدِّقٌ للكتبِ الربانيةِ السابقة، المنزَّلَةِ على الأَنبياءِ السابقين،
وموافقٌ لها في ما قَدَّمَتْه من حقائقَ عقيديةٍ وأَخلاقيةٍ وعلمية.
رابعاً: ما أخذه عن النصارى:
زَعَمَ الفادي أَنَّ الإِنجيلَ كان أَحَدَ المصادرِ التي أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - منه مادَّةَ القرآن! وقالَ في زعمه: " أَخَذَ القرآنُ عن الإِنجيلِ قصةَ بشارةِ الملاكِ لزكريا عن يوحَنّا، وقصةَ بشارةِ المَلاكِ لمريمَ العذراءِ عن ميلادِ المسيح، وعن اسمِه الكريمِ كلمةِ الله، وعن مَسْحِه بالروحِ القُدُس وتعاليمِه، ومعجزاتِه من حيثُ شفاءُ الأَبرص، وتفتيحُ عينِ الأَعمى، وإِقامةُ الموتى، ورفضُ اليهودِ له، وموتُه، وارتفاعُه للسماء، وشهادةُ الرسلِ والكنيسةِ والقساوسة..
واقتطفَ من أَقوالِ بولس الرسول من رسائِلِه لأَهْلِ رومية وكورنثوس وغلاطية وفيلبي وتسالونيكي والعبرانيين..
واقتطفَ من أَقوالِ يعقوب الرسول وبولس الرسول ويوحَنا الرائي.. ".
وما قلناهُ في المبحثِ السابقِ نقولُه هنا، فالقرآنُ موافقٌ للإِنجيلِ الحَقِّ
الذي أَنزلَه اللهُ على عيسى - عليه السلام -، ومُصدِّقٌ له، لأَنَّ الاثنينِ من عندِ الله، وكُتُبُ اللهِ يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، وتتوافقُ فيما تَعرضُه من معلوماتٍ وأَخبارٍ وحقائق.
صَدَّق القرآنُ الإِنجيلَ في الإِخبارِ عن بشارةِ زكريا بيحيى - عليهما السلام -، وعن نَذْرِ أُمِّ مريمَ وولادتِها لها، وعن بشَارةِ مريمَ بعيسى، ومجيءِ جبريلَ - عليه السلام - لها، وعن حملِها بعيسى وولادَتِه، وعن كونِ عيسى - عليه السلام - عبدَ اللهِ ورسولَه، وعن آياتِه التي آتاهُ اللهُ إِياها، وعن دعوتِه لبني إِسرائيل، وعداوتِهم له، ومحاولتِهم صلْبَه، وإِنجاءِ اللهِ له، وعن تبشيرِه بالنبيِّ الخاتمِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم.
ومع كونِ القرآنِ مُصدِّقاً للإنجيل في هذه الموضوعات، إِلّا أَنَّ هناكَ
فروقاً بين القرآنِ والأَناجيلِ الموجودةِ في ذكْرِ بعضِ التفصيلات، ولعلَّ السببَ
في ذلك هو تَحريفُ النصارى لأَناجيلِهم، وإِضافةُ كلامِهم إِلى كلامِ الله فيها، وتَسَرُّبُ الخطأ إِليها، ولذلك لا يُتابِعُها القرآنُ في تلك الأَخطاء!!.
ووجودُ هذه الفروقِ بين القرآنِ والأَناجيلِ دليلٌ على أَنَّ القرآنَ وَحْيٌ من
عندِ الله، فلو أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مادَّتَه من الأَناجيلِ لأَخَذَ كُلَّ ما فيها، سواء كان خَطَأً أَو صواباً! وهذا أَمْرٌ يعترفُ به كلُّ مُنْصفٍ محايد، يُفكرُ بعقلِه ويَبحثُ عن الحق!!.
خامساً: ما أخذه من تصرفاته:
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - مَلَأَ القرآنَ بأَخبارِه وسيرتِه وتصرفاتِه وأَعمالِه.
قال: " يَحوي القرآنُ الكثيرَ من أَحوالِ محمدٍ الشخصية، التي جعلَها
سُنَّةً لأَتْباعِه، فَذَكَرَ فيه غزواتِه وحوادثَ زوجاتِه، عائشة وزينب وخديجة ومارية القبطية وحفصة وأم هانئ وغيرهن..
ودَوَّنَ ما أَصابَه من أَثَرِ السِّحْرِ وتعوُّذاتِه منه، وسَجَّلَ بعضَ أَقوالِ الصحابة، وقالَ: إِنها تنزيلُ الحكيم العليم!! ".
إِنَّ مزاعمَ الفادي باطلةٌ تافهة، فالقرآنُ ليس " سيرةً ذاتيةً " لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، سَجَّلَ فيها تفاصيلَ حياتِه ودقائقَ أَعمالِه، وليس كتابَ " مذكَّرات "، دَوَّنَ فيها كلَّ ما جرى له، كما يفعلُ الذين يكتبونَ مُذَكَّراتِ حياتِهم!! وإِنَّ الحديثَ عن حياةِ الرسولِ الخاصةِ - صلى الله عليه وسلم - قليلٌ في القرآن.
فقد حَزِنَ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً لموتِ زوجِه خديجةَ - رضي الله عنها - قبلَ الهجرة، حتى سُمِّيَ ذلك العامُ عامَ الحزن، وحَزِنَ لموتِ ابنِه
إِبراهيمَ بعد الهجرة..
ولم يَتحدث القرآنُ عن موتِهما، ولا عَنْ حُزْنِ الرسولِ - عليه السلام -، ولو كان القرآنُ من تأليفِه لوجَدْنا فيه صفحاتٍ في رثائِهما ونعيِهما ومشاعرِه تجاههما!.
أَمّا حديثُ القرآنِ عن جهادِ الرسولِ - عليه السلام - لأَعدائِه فهذا لا غرابةَ فيه.
فقد تَحَدَّثَ القرآنُ عن دعوةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتبليغِه، وعن موقفِ أَعدائِه المشركين
والمنافقينَ واليهودِ منه، وعن مواجهتِهم له، ومحاولاتِهم القضاءَ عليه وعلى
دعوتِه، وعن جهادِه لهم وانتصارِه عليهم، وجَعَلَ ذلك كُلَّه عِبرةً وعِظَةً لأَصْحابِه الذين عاشوا معه، والمؤمنينَ الذين سيأتونَ من بعدِه، ولذلك قال تعالى في تعقيبِه على أَحداثِ إِجلاءِ بني النضير: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) .
إِنَّ القرآنَ كتابُ تعليمٍ وتوجيه، وكتابُ هدايةٍ وبَيان، وكتابُ تربيةٍ
وتزكية، وكتابُ تشريعٍ وتكليف، وكتابُ جهادٍ ومواجهة، وحَفقَ القرآنُ هذه المقاصدَ الحيةَ بمختلفِ الوسائلِ والأَساليب، ومنها ذِكْرُ أَحوالِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأَحوالِ أَصحابِه وأَحوالِ أَعدائِه، وجعلَ ذلك وسيلةً لبيانِ فضْلِ اللهِ على المسلمين، ومعيتِه لهم، وحفظِه لهم ورعايتهم، وتوجيهِهِم إِلى محبةِ اللهِ وذكْرِهِ وشكره.
وقد أَخطأَ الفادي المفترِي عندما عَدَّ أُمَّ هانئ - رضي الله عنها - ضمنَ أَزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أَنه لم يتزوَّجْها.
وكَذَبَ كِذْبَةً فاجرةً عندما ادّعى أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - سَجَّلَ في القرآنِ بعضَ أَقوالِ الصحابة، زاعِماً أَنها وحيٌ من اللهِ إِليه! ونتحدّاهُ
أَنْ يُثبِتَ هذا الافتراء!!.