حول عالم الجن
حول عالم الجن
تَحَدَّثَ القرآنُ عن عالَمِ الجِنّ، وأَخبرَ عن استماعِ نَفَرٍ من الجِنِّ القرآنَ
من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإيمانِهم به، ودخولِهم في الإِسلام.
قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) .
وقد خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ في حديثِه عن عالَمِ الجن، ونفى وجودَ
جِن مؤمنين، لأَنَّ عالَمَ الغيب عنْدَه إِما ملائكةٌ وإمّا شياطين، وأَثارَ حولَ
القرآنِ أَسئلةً تشكيكيةً.
قال: " ويُعَلِّمُنا الكتابُ المقَدسُ بوجودِ ملائكةٍ وشياطين، ولكنَّه لا يُعَلمُ بوجودِ الجِنّ، الذي يَقولُ المسلمونَ: إِنهم جنسٌ عاقلٌ بينَ الإِنسِ والشياطين، وإنهم لما سَمعوا القرآنَ آمَنوا به وبالله، وبَشَّروا الجِنَّ الآخَرين، وقالوا: إِنَ القرآنَ جاءَ من بعدِ موسى.
فلماذا لم يُسمع اللهُ الجِنَّ رسالةَ موسى وعيسى؟
ولماذا خَصَّ الجِنَّ بالقرآنِ وَحْدَه؟
ولماذا يَقولُ الجِنُّ: إِنَّ القرآنَ جاءَ من بعْدِ موسى؟
ولم يَقُلْ من بعدِ الزبورِ والإِنجيل، مع أَنَّ الإِنجيلَ أَقربُ إِليهم من عَهْدِ موسى؟
وكيف يَتَصَوَّرُ صاحبُ القرآنِ أَنَّ الجنَّ وهم أَرواحٌ يَتَزَوَّجونَ وَيَتَناسلونَ مع أَنهم يقولون: إِن إِبليسَ من الجن؟ ".
يَزعمُ الفادي أَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ لا يتحدَّثُ إِلا عن الملائكةِ
والشياطين، وهو لا يتحدثُ عن الشياطينِ وطبيعتِهم والمادةِ التي خُلِقوا منها، ويَنفي الفادي وجودَ عالَمِ الجِنّ، لأَنَّ الكتابَ المقَدّسَ لم يتحدثْ عنه.
وقد كانَ القرآنُ صريحاً في حديثِه عن الجِنّ، حيثُ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ
الجِنَّ قبلَ الإِنْس، وأَنَّه خَلَقَهم من مارِجِ من نار.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) .
وأَخْبَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المادَّةِ التي خُلِقَ منها كلّ من الملائكةِ والجِنِّ والإِنس: " خَلَقَ اللهُ الملائكةَ من نور، وخَلَقَ الجِنَّ من النار، وخَلَقَ آدَمَ مما وَصَفَ لكم ".
والمخلوقاتُ العاقلةُ في هدا الكونِ ثلاثةٌ هي: الملائكةُ والجِنُّ والإِنس.
وسُمَيَ الجِنُّ جِنّاً لأَنهم يَسْتَتِرون عن الإِنسِ ولا يَرونَهم.
قالَ تعالى عن إِبليسَ والجِنّ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) .
والشياطينُ ليسوا جِنْساً مستقلّاً كالإِنْس والجِن، وإنما وَصفٌ يُطْلَقُ على
الكافرين، سواء كانوا إِنساً أَو جِنّاً، فهناك شياطينُ الإِنس وهناك شياطينُ
الجن.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) ، وَوُصِفَ الكفارُ بأَنهم
شياطينُ لأَنهم مُتَمَرِّدونَ بَعيدونَ عن رحمةِ الله.
وإبليسُ شيطان لأَنه أَولُ كافر، وهو من الجِنِّ بنَصِّ القرآن.
قالَ تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) ، فهو جِنّيٌّ من حيثُ النَّسَب والجنس، وهو شيطان من حيثُ الوصف.
والجِنُّ مُكَلَّفون كالإِنس، لأَنهم عقلاءُ مثلُهم، ومنَحَهم اللهُ من وسائلِ
العلمِ والمعرفةِ والقدرة والإرادةِ ما أَهَّلَهم للمسؤوليةِ والتكليف.
وبعثَ اللهُ رسلاً للجِنِّ كما بَعَثَ رُسُلاً للإِنسِ، والراجحُ أَنَّ رُسُلَ الجِنِّ
من الجِن، لأَن اللهَ بعثَ كلَّ رسول بلسانِ قومِه، ليُبينَ لهم الدعوة، ويَفْهَموا عليه كلامَه.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
وأَخبرَنا اللهُ أَنه بعثَ للجنِّ رُسُلاً من الجنِّ.
قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) .
ولذلك لم يُبْعَثْ أَحَدٌ من الرسلِ السابقين المذكورين في القرآن إِلى
الجن، ولم يُبْعَثْ رسولاً للناسِ كافَّة، وإِنما بُعِثَ كُلٌّ منهم إِلى قومِه خاصّة،
يَنطبقُ هذا على نوحٍ وإِبراهيم، كما ينطبقُ على موسى وهارون، وعلى داودَ وسليمان، وعلى زكريا وعيسى - صلى الله عليهم وسلم -.
وخَصَّ الله أَفضلَ الخلقِ وأَشرفَهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - بخاصيةٍ، دالَّةٍ على فضْلِه على باقي الأَنبياءِ والمرسلين، فبعَثَه للناسِ كُلِّهم، على اختلافِ الزمانِ والمكان، حتى قيام الساعة، ونَسَخَ برسالتِه جميعَ الرسالاتِ السابقة.
وَوَرَدَ هذا صريحاً في أكثرَ من آية، منها قولُه تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) .
ولم يَبْعَثْهُ للإِنس كلّهم فقط، وإِنما بَعَثَه للإِنسِ والجِنِّ جَميعاً، وأَمَرَ
الجن بأَنْ يُؤمنوا به كالإِنس، واستجابَ فريقٌ منهم وآمَنوا به، وصاروا
مسلمين، والذين لم يَدْخُلوا في الإِسلامِ كافرون مخلَّدون في نار جهنم، ككفارِ الإِنس.
قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) .
ولذلك ساقَ اللهُ إِلى رسولِه نَفَراً من الجنّ، فسمعوا القرآنَ منه، وتأَثَّروا
به، وأَعلنوا إِيمانَهم وإسلامَهم، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) .
وقال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) .
بعدَ هذا التيانِ نَعرفُ سخافةَ وغباءَ الفادي الجاهلِ في اعتراضِه على
حديثِ القرآنِ عن الجن، وفي أَسئلتِه التشكيكيةِ التي أَثارَها حولَ الجِنّ وموسى وعيسى - عليهما السلام -، والجنِّ والتوراةِ والزبورِ والإِنجيل!! فلم يكونوا مكَلَّفين بالإِيمانِ بموسى وعيسى - عليهما السلام -، ولا الإِيمانِ بالكتبِ السابقةِ كالتوراةِ والإِنجيل، لأَنهم مأمورونَ بالإِيمانِ بالقرآنِ فقط.
وحديثُهم عن التوراةِ النازلةِ على موسى - عليه السلام - لا غَرابةَ فيه، وهو الذي أَشارَ له قولُه تعالى: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) .
فرغْمَ أَنَّ الجنَّ لم يكونوا مكَلَّفين بالتوراةِ وبموسى - عليه السلام -، إِلّا أَنهم كانوا يَعرفونَ أَنَّ اللهَ بعثَ موسى - عليه السلام - رسولاً، وأَنزلَ عليه التوراةَ، لأَنَّ الجنَّ يعلمونَ أَخبارَ الإِنسِ وأَحوالَهم، وأَخبرَهم رسلُهم من الجنِّ بهذه الأَخبارِ عن موسى والتوراة.
المهمُّ عندنا أَنَّ مرجعيّتَنا هو القرآن، وكلُّ ما وردَ فيه فهو حَق، نؤمنُ به
ونُصدِّقُه، لأَنه كلامُ اللهِ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يَدَيْه ولا من خلْفِه.