التفسير بالرأي
التفسير بالرأي
تضافرت الروايات على النهي عن التفسير بالرأي عن النبي والآل :.
روى الصدوق باسناده عن الإمام أمير المؤمنين ع قال : « قال رسول اللّه ص قال جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ».
وقال الإمام أمير المؤمنين ع : « إيّاك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء ».
وروى أبو جعفر الطبري ، باسناده عن ابن عباس ، عن النبي ص: « من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ».
أخرج الترمذي عن النبي ص قال : « اتّقوا الحديث إلاّما علمتم ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ».
إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول النهي عن التفسير بالرأي ، غير انّ الذي يجب التركيز عليه هو تحديد التفسير بالرأي ، فقد اختلفت كلمتهم في تفسير هذا الموضوع إلى أقوال:
أ. تفسير ما لا يدرك علمه إلاّ ببيان الرسول
يظهر من الطبري انّه يخصُّ التفسير بالرأي بتفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنص بيان الرسول ، ومن أظهر مصاديقه ، الآيات الواردة حول الفرائض كالصلاة والزكاة والحجّ حيث إنّ الأجزاء والشرائط والموانع رهن بيان الرسول ، يقول الطبري في ذلك الصدد :
وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنصّ بيان رسول اللّه ص أو بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحقّ فيه فمخطئ فيما كان ، من فعله بقيله فيه برأيه ، لأنّ إصابته ليست إصابة موقن أنّه محقّ وإنّما هو إصابة خارص وظانّ والقائل في دين اللّه بالظن قائل على اللّه ما لم يعلم ، وقد حرم اللّه جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قُلْ إِنّما حَرّمَ رَبّي الفَواحِش ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنْ وَالإِثْم وَالْبَغْي بِغَيْر الحَقّ وَأَنْ تُشركوا بِاللّه ما لَمْ يُنَزّل بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) فالقائل في تأويل كتاب اللّه الذي لا يُدرك علمه إلاّ ببيان رسول اللّه ص الذي جعل اللّه إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد اللّه به من معناه ، لأنّ القائل فيه بغير علم قائل على اللّه ما لا علم له به
الظاهر انّ ما ذكره من مصاديق التفسير بالرأي وليس التفسير بالرأي منحصراً به.
ويظهر من السيد الخوئي احتمال ذلك المعنى ، قال :
ويحتمل انّ معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة : مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة كان هذا من التفسير بالرأي
ب. إخضاع القرآن للعقيدة
إنّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يكون الرأي والعقيدة المسبقة هو الملاك للتفسير ، فالمفسّـر ـ مكان أن يتجرد عن الآراء المسبقة ويوطِّن نفسه على ما توحيه الآية حسب الأُصول والقواعد ـ يُخضع القرآن لعقيدته ، ويعرضه عليها. مع أنّ القرآن حجّة اللّه على خلقه وعهده إلى عباده فيجب أن يُحتكم إليه ويصدر عن حكمه لا بالعكس.
إنّ موقف المفسر من كلام اللّه موقف المتعلّم من المعلم ، وموقف مجتني الثمرة من الشجرة ، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم في أخذ ما يلقيه ، ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها ، غير انّ هذه الأدوار تنعكس حين التفسير بالرأي.
ومن هذه المقولة دعم أرباب الملل والنحل آرائهم و حججهم بالقرآن مع أنّ لهم آراء متضاربة ، والقرآن لا يعترف إلاّ بواحد منها ، وما ذلك لأنّهم يصدرون عن التفسير بالرأي ولا يحتكمون إلى القرآن بل ـ مكان عرض عقيدتهم على القرآن ـ يعرضون القرآن على العقيدة ويطبقونه عليها.
ج. تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة
تفسير القرآن بغير الأُصول والقواعد التي يتوقف التفسير عليها ، من مقولة
التفسير بالرأي ، فإنّ لتفسير كلّ كلام ـ إلهياً كان أم بشرياً ـ أُصولاً لا يعرف المراد من غيره إلاّ في ظلها ، وقد عرفت تلك المقدّمات عند البحث في ما يهمّ المفسّر.
وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي ، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين ، نذكر ما يلي :
قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( المتوفّى 671 هـ ) قال ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ :
إنّ النهي يحمل على أحد وجهين
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم ان ليس المراد من الآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه ، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية ، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي ، والنقل والسماع لابدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط ، ثمّ بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلاّ بالسماع كثيرة ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.
وقد اختار ابن عاشور ( المتوفّـى عام 1284 هـ ) هذا المعنى ، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين ، أيضاً وقال :
الأوّل : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه ، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.
الثاني : انّ المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم.
فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين :
الأوّل : أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله ، ففي ذلك الموقف ينظر المفسر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.
الثاني : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأُسلوب الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسر.
ويظهر من السيد الطباطبائي انّه خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام اللّه سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال :
إنّ الاضافة في قوله « برأيه » يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فانّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك انّه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازاً.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضه ببعض ، في حين انّه مفصول ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي 7.
فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدبَّرون القُرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْد غَير اللّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كَثيراً). فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.
وبعبارة أُخرى : إنّما نهى 7 عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله ع في الرواية الأُخرى : « من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ » فانّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق.
والمحصل : انّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر
على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة ، وكونه هو السنّة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن.
ومع انّه فصل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي ـ لم تفته الإشارة إلى القسم الاوّل في بعض كلماته قال :
يعرض المفسر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً ...
نموذج لكلّ من القسمين
ثمّ إنّ تأويلات الباطنية أو المتصوفة كلّها من قبيل القسم الأوّل ، وسيوافيك البحث عنها في موضعها ، ولتسليط الضوء نذكر مثالاً :
أثبتت الأُصول الفلسفية انّ الأصل هو الوجود وانّ الماهية أمر انتزاعي من حدّ الوجود والمنسوب إلى الجاعل هو الوجود ، غير أن تنزل الوجود لا ينفك عن عروض الحدود ، فالصادر من اللّه سبحانه هو الوجود غير المحدّد المنبسط على الماهيات.
هذا ما أثبتته الأُصول الفلسفية ، ثمّ إنّ العرفاء يدعمون تلك النظرية بالآية التالية :
يقول سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلى ربّكَ كَيْفَ مَدّ الظلّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلهُ ساكناً ثُمَّ جَعَلنا الشمس عليه دَليلاً )
ويفسرون مدّ الظل ببسط الوجود على الماهيات ، حتّى انّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي انّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي ، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته. مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه ، فإنّ الآية و ما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً ، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته ، إلى غير ذلك من الآيات ، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات؟!
ومن القسم الثاني ، أعني : تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح ، بل اعتماداً على ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة ، يقول سبحانه : ( وَما مَنَعْنا أَنْ نرسل بالآيات إِلاّ أن كذب بها الأَوّلُون وآتينا ثَمود الناقة مبصرة فظلمُوا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْويفاً ).
إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنّها وصف لموصوف محذوف أي : « وجعلنا الناقة آية مبصرة » فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.
الاجتهاد في فهم القرآن غير التفسير بالرأي
ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت ، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح ، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
فإنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له
بالتفسير بالرأي ، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والاخبار المأثورة ، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء ، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً ، مقبولاً في فهم الآية.
ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي ، ولأجل ذلك لم يزل كتاب اللّه طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس ، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض ، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية : المطابقية والتضمنية والالتزامية ، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني ، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق 7 في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة بقوله : « لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة
وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين ، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز ، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.
ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي ع في تفسير الآية.
روى ابن شهر آشوب في مناقبه ، قال : قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، و قال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي ع يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت ».
فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب :
( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم * فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة اللّه التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) (1) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. (2)
فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس ، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة اللّه سبحانه ، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.
تضافرت الروايات على النهي عن التفسير بالرأي عن النبي والآل :.
روى الصدوق باسناده عن الإمام أمير المؤمنين ع قال : « قال رسول اللّه ص قال جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ».
وقال الإمام أمير المؤمنين ع : « إيّاك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء ».
وروى أبو جعفر الطبري ، باسناده عن ابن عباس ، عن النبي ص: « من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ».
أخرج الترمذي عن النبي ص قال : « اتّقوا الحديث إلاّما علمتم ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ».
إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول النهي عن التفسير بالرأي ، غير انّ الذي يجب التركيز عليه هو تحديد التفسير بالرأي ، فقد اختلفت كلمتهم في تفسير هذا الموضوع إلى أقوال:
أ. تفسير ما لا يدرك علمه إلاّ ببيان الرسول
يظهر من الطبري انّه يخصُّ التفسير بالرأي بتفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنص بيان الرسول ، ومن أظهر مصاديقه ، الآيات الواردة حول الفرائض كالصلاة والزكاة والحجّ حيث إنّ الأجزاء والشرائط والموانع رهن بيان الرسول ، يقول الطبري في ذلك الصدد :
وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنصّ بيان رسول اللّه ص أو بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحقّ فيه فمخطئ فيما كان ، من فعله بقيله فيه برأيه ، لأنّ إصابته ليست إصابة موقن أنّه محقّ وإنّما هو إصابة خارص وظانّ والقائل في دين اللّه بالظن قائل على اللّه ما لم يعلم ، وقد حرم اللّه جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قُلْ إِنّما حَرّمَ رَبّي الفَواحِش ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنْ وَالإِثْم وَالْبَغْي بِغَيْر الحَقّ وَأَنْ تُشركوا بِاللّه ما لَمْ يُنَزّل بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) فالقائل في تأويل كتاب اللّه الذي لا يُدرك علمه إلاّ ببيان رسول اللّه ص الذي جعل اللّه إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد اللّه به من معناه ، لأنّ القائل فيه بغير علم قائل على اللّه ما لا علم له به
الظاهر انّ ما ذكره من مصاديق التفسير بالرأي وليس التفسير بالرأي منحصراً به.
ويظهر من السيد الخوئي احتمال ذلك المعنى ، قال :
ويحتمل انّ معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة : مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة كان هذا من التفسير بالرأي
ب. إخضاع القرآن للعقيدة
إنّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يكون الرأي والعقيدة المسبقة هو الملاك للتفسير ، فالمفسّـر ـ مكان أن يتجرد عن الآراء المسبقة ويوطِّن نفسه على ما توحيه الآية حسب الأُصول والقواعد ـ يُخضع القرآن لعقيدته ، ويعرضه عليها. مع أنّ القرآن حجّة اللّه على خلقه وعهده إلى عباده فيجب أن يُحتكم إليه ويصدر عن حكمه لا بالعكس.
إنّ موقف المفسر من كلام اللّه موقف المتعلّم من المعلم ، وموقف مجتني الثمرة من الشجرة ، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم في أخذ ما يلقيه ، ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها ، غير انّ هذه الأدوار تنعكس حين التفسير بالرأي.
ومن هذه المقولة دعم أرباب الملل والنحل آرائهم و حججهم بالقرآن مع أنّ لهم آراء متضاربة ، والقرآن لا يعترف إلاّ بواحد منها ، وما ذلك لأنّهم يصدرون عن التفسير بالرأي ولا يحتكمون إلى القرآن بل ـ مكان عرض عقيدتهم على القرآن ـ يعرضون القرآن على العقيدة ويطبقونه عليها.
ج. تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة
تفسير القرآن بغير الأُصول والقواعد التي يتوقف التفسير عليها ، من مقولة
التفسير بالرأي ، فإنّ لتفسير كلّ كلام ـ إلهياً كان أم بشرياً ـ أُصولاً لا يعرف المراد من غيره إلاّ في ظلها ، وقد عرفت تلك المقدّمات عند البحث في ما يهمّ المفسّر.
وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي ، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين ، نذكر ما يلي :
قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( المتوفّى 671 هـ ) قال ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ :
إنّ النهي يحمل على أحد وجهين
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم ان ليس المراد من الآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه ، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية ، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي ، والنقل والسماع لابدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط ، ثمّ بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلاّ بالسماع كثيرة ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.
وقد اختار ابن عاشور ( المتوفّـى عام 1284 هـ ) هذا المعنى ، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين ، أيضاً وقال :
الأوّل : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه ، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.
الثاني : انّ المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم.
فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين :
الأوّل : أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله ، ففي ذلك الموقف ينظر المفسر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.
الثاني : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأُسلوب الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسر.
ويظهر من السيد الطباطبائي انّه خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام اللّه سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال :
إنّ الاضافة في قوله « برأيه » يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فانّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك انّه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازاً.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضه ببعض ، في حين انّه مفصول ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي ع.
فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدبَّرون القُرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْد غَير اللّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كَثيراً). فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.
وبعبارة أُخرى : إنّما نهى ع عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله ع في الرواية الأُخرى : « من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ » فانّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق.
والمحصل : انّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر
على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة ، وكونه هو السنّة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن.
ومع انّه فصل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي ـ لم تفته الإشارة إلى القسم الاوّل في بعض كلماته قال :
يعرض المفسر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً ...
نموذج لكلّ من القسمين
ثمّ إنّ تأويلات الباطنية أو المتصوفة كلّها من قبيل القسم الأوّل ، وسيوافيك البحث عنها في موضعها ، ولتسليط الضوء نذكر مثالاً :
أثبتت الأُصول الفلسفية انّ الأصل هو الوجود وانّ الماهية أمر انتزاعي من حدّ الوجود والمنسوب إلى الجاعل هو الوجود ، غير أن تنزل الوجود لا ينفك عن عروض الحدود ، فالصادر من اللّه سبحانه هو الوجود غير المحدّد المنبسط على الماهيات.
هذا ما أثبتته الأُصول الفلسفية ، ثمّ إنّ العرفاء يدعمون تلك النظرية بالآية التالية :
يقول سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلى ربّكَ كَيْفَ مَدّ الظلّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلهُ ساكناً ثُمَّ جَعَلنا الشمس عليه دَليلاً )
ويفسرون مدّ الظل ببسط الوجود على الماهيات ، حتّى انّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي انّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي ، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته. مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه ، فإنّ الآية و ما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً ، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته ، إلى غير ذلك من الآيات ، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات؟!
ومن القسم الثاني ، أعني : تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح ، بل اعتماداً على ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة ، يقول سبحانه : ( وَما مَنَعْنا أَنْ نرسل بالآيات إِلاّ أن كذب بها الأَوّلُون وآتينا ثَمود الناقة مبصرة فظلمُوا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْويفاً ).
إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنّها وصف لموصوف محذوف أي : « وجعلنا الناقة آية مبصرة » فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.
الاجتهاد في فهم القرآن غير التفسير بالرأي
ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت ، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح ، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
فإنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له
بالتفسير بالرأي ، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والاخبار المأثورة ، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء ، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً ، مقبولاً في فهم الآية.
ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي ، ولأجل ذلك لم يزل كتاب اللّه طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس ، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض ، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية : المطابقية والتضمنية والالتزامية ، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني ، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق ع في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة بقوله : « لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة
وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين ، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز ، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.
ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي ع في تفسير الآية.
روى ابن شهر آشوب في مناقبه ، قال : قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، و قال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي ع يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت ».
فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب :
( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم * فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة اللّه التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.
فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس ، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة اللّه سبحانه ، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.