الإنسان في فلسفة صدر المتالهين
بقلم: الشيخ عبد الحكيم الخزاعي
في كتابه المعاد من الحكمة المتعالية يعدد صدر المتالهين خواص الإنسان التي يختلف بها عن سائر الموجودات وقد يشارك بعضها في ذلك لكن هي عند الإنسان بصورة أرقى وأعلى
والسبب في هذا البحث هو التحقيق في حقيقة الإنسان المحشورة في الآخرة (اما الفصل الأول فقد اشتمل على خواص عدة للنفس ، وعلى رأسها درك المعاني الكلية وتصورها ، والتوصل إلى معرفة المجهولات التصورية والتصديقية ، وذلك بالكسب والنظر والفكر انطلاقا واعتمادا على معلومات حاصرة ، والاخص من هذا كله هو إتصال بعض النفوس بالعقل الفعال ، وذلك ليصبح عالما علميا مضاهيا للعالم العيني ، ولهذا المعنى دخالة في نحو حشر وعود الإنسان ، كما سوف يتجلى ذلك عند الدخول في صلب الموضوع ) شرح الأسفار السيد الحيدري. كتاب المعاد ص59
فهذه الخصائص تشكل حقيقة النفس الإنسانية وهي التي ستحشر ولهذه الخصائص دخالة كبيرة في ذلك فهي تشكل ملكات وجوهر النفس بالتالي تتجلى النفس في الآخرة على هيئتها.
وقد قسمها صدر المتالهين إلى ثلاثة أقسام (فهذه جملة من خواص الإنسان وصفاته ، بعضها بدنية ولكنها موجودة لبدن الإنسان بواسطة نفسه ، كالضحك والبكاء وامثالهما ، وبعضها نفسية تعرض من جهة البدن كالخوف والرجاء والخجل والحزن وغير ذلك ، وبعضها عقلية صرفة كالحكمة النظرية والعملية ، والإنسان يختص من بين سائر الموجودات فضلا على الحيوانات بجامعية هذه الصفات التي بعضها طبيعية وبعضها نفسانية وبعضها عقلية )([1])
ولنعدد هذه الخصائص ولنعبر عنها بلغة عصرية يفهمها القاريء بسهولة
أولا :خاصة النطق: اي انه حيوان ناطق بالمعنى النطق اللساني وليس النطق في المنطق حيث يراد به على أحد الرايين انه التفكير ، لذلك سيذكر الفيلسوف بعد ذلك خاصة الفكر ، والنطق هنا بمعنى الصوت الذي يوجد اللغة ، وسبب اللغة عند الفيلسوف الشيرازي هو (ان الانسان وسائل عيشه صناعية وكل من كانت وسائله كذلك يحتاج إلى مشاركة واجتماع وبالتالي يحتاج وسيلة تفهيم فتاتي اللغة ، وهذه نظرية من نظريات نشوء اللغة حيث ارجعها الفيلسوف إلى الاجتماع ، بينما هناك نظريات أخرى قد تمت دراستها في علم الأصول أو علوم اللغة مذكورة في محلها ، لكن هذه النظرية تقريبا هي الأكثر قبولا ، فالإنسان مدني بالطبع ويحتاج إلى الصناعات والتفهيم ولديه إمكان اللغة على نحو القوة فيخترع هو الألفاظ ولم يتم تلقينها إليه كما في نظرية التلقين الإلهي ، وهذا أيضا يفسر اختلاف اللغات وتعدد اللهجات بسبب تغير الظروف والأحوال .
والصوت عند ملا صدرا هو الأصلح في التفهيم من غيره مثل الكتابة أو الإشارة لأنه أوسع وأعمق وأكثر دلالة.
ثانيا :خاصة استنباط الصنائع العملية الغريبة :
وهذه الخاصة تعني التطور الإنساني في الصناعة والعمران واختراع العلوم العملية التي تعمر العمران والبنيان وهو الجانب العملي في البعد الإنساني ، فالإنسان موجود قابل لأن يطور ملكاته العملية ثم يغير العالم الخارجي من حوله ، ولو تأملنا هذا الأمر من الإنسان الأول انسان الغابة والكهف ثم الخيمة إلى إنسان ناطحات السحاب ، وهكذا باقي المصنوعات العملية في النقل والسلاح والغذاء ثم التكنولوجيا لرأينا أمرا عجبا ولعرفنا سر هذا الموجود الذي سخر الله له كل شيء ، بينما بقيت باقي الحيوانات حبيسية طبيعتها ولم تتطور ، ولم تتغير أو تتبدل بسبب عدم الإمكان اصلا لديها .
وهذا التطور الأنساني سلاح ذو حدين فيمكن ان يكون تحت معطيات الحكمة النظرية فلا يصطدم مع أصل فلسفة وجود الإنسان ، ويمكن أن ينقلب على الوجود الإنساني نفسه ، بحيث يهدد وجوده بالتالي تنقلب الصناعات بالضد من وجود الإنسان مثل الأسلحة النووية والكيماوية ومثل كثرة المصانع بحيث تهدد الغلاف الجوي مما يعرض الإنسان الانقراض.
جود الإنسان مثل الأسلحة النووية والكيماوية ومثل كثرة المصانع بحيث تهدد الخلاف الجوي مما يعرض الإنسان الانقراض.
ثالثا :انفعالات وليدة الإدراك مثل التعجب والضحك والضجر والبكاء :قال صدر المتالهين قدس ( ومن خواصه أيضا : انه يتبع ادراكه الأشياء النادرة حالة انفعالية تسمى بالتعجب ، ويتبعه الضحك ، ويتبع اداراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر ويتبعه البكاء )([2])
من المواضيع التي اولاها عناية الفلاسفة هو انفعالات النفس الإنسانية وهو شعبة من علم النفس بشقيه الفلسفي والتجريبي ، ولقد كتب الفيلسوف ديكارت كتاب أسماه (انفعالات النفس) ونحن هنا نرى سبق ملا صدرا في ذلك وهو وان أشار هنا إشارة ولم يبسط الكلام ، لكنه لديه مباحث كثيرة في النفس الإنسانية ، فالنفس مركز لجملة من الانفعالات المتضادة مثل الخوف والحزن والفرح والضحك والضجر والتعجب.
وهي خواص مختصة في الجانب النفسي من شخصية الإنسان وليس في الجانب العقلي أو المادي ، وهو نظر عميق في النفس الإنسانية فليس هي عقلية صرفة بل لها انفعالات وجدانية لا ترتبط بالجانب العقلي الصرف لدى الإنسان وبذلك تنفتح مدرسة صدر المتالهين على هذا الجانب المضمر المهم في النفسية الإنسانية.
وأول خاصية نفسية لديه هي خاصية التعجب ، الذي يقول عنه (انه اذا رأى شيئا لم يعرف سببه ، حصل له حالة مخصوصة في نفسه ، سماها التعجب )([3])
ونستطيع ان نعبر عنه بتعبير فلسفي حديث هو الدهشة الأولى التي تصيب الإنسان عند رؤية الأشياء بلا أسبابها وهو الذي يقود الإنسان إلى التساؤل والبحث والمعرفة ، وهي توجد عند الأطفال بكثرة وعلى الإنسان أن يحافظ عليها لكنه مع مرور الزمن يقتل في نفسه هذه الدهشة وهذا التعجب بسبب ألفه للأشياء أو ايجاده لتفسيرات ثقافية عامة موروثة تقنعه عن البحث والتساؤل والاستمرار في هذه الدهشة والأدب يساعد الإنسان على استعادة هذه الخاصية النفسية من الإدراك والانفعال والفلسفة تساعد على استعادته وتنميته.
رابعا : اداركه الحسن والقبح وقد عبر عنها صدر المتالهين ب (خاصة المشاركة المصلحية) قال :ومنها ان المشاركة المصلحية تقتضي المنع من بعض الأفعال والحث على بعضها ثم يقول هذه قد تنشأ عند بعض الحيوانات لكنها غريزية فطرية بينما الإنسان يدركها بعقله وأيضا هي من الثقافة العامة والتربية لذا نجده يقول في كتاب الحكمة المتعالية بحث المعاد (ثم ان الانسان يعتقد ذلك من حين صغره ويستمر نشؤه عليه ، فحينئذ يتأكد فيه اعتقاد وجوب الامتناع من أحدهما والأقدام على الآخر ، وركز في نفسه ذلك عناية من الله لأجل النظام ، فيسمى الأول قبيحا ، والثاني حسنا جميلا([4])
وهذه القضية تسمى الحسن والقبح العقليين وهي مدار خلاف بين المتكلمين حيث يرى الأشاعرة الحسن والقبح شرعيين بينما العدلية يرونهما عقليين
قال الشيخ جعفر سبحاني :ان المتكلمين من المسلمين قد خاضوا غمار هذه القاعدة وبحثوا فيها بحثا مبسوطا عجت به الكتب الكلامية ومع الاعتراف بذلك إلا أن القاعدة ليست من ابتكاراتهم ، بل سبقتهم فلاسفة الإغريق منذ وقت مبكر ، عند تقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية وبذلك صارت فلاسفة الإغريق سباقين في هذا المضمار ، وان لم يبلغوا في تفريع القاعدة وتشريحها المرتبة التي وصل إليها الإسلاميون .
وحصيلة البحث ان فلاسفة الإغريق تداولوا القاعدة لإثبات الكثير من القيم الأخلاقيةوالدفاع عنها ، وقالوا إن الصدق وأداء الأمانة ولزوم العمل بالميثاق واحترام حقوق الآخرين من القيم الأخلاقية يجب فعلها باعتبار حسن الجميع ، كما ان مقابلاتها يجب تركها لانها قبيحة.
وأما الإسلاميون فقد تداولوها لإثبات صفاته وأفعاله ، لأنه حكيم لا يعبث ، وعادل لا يجوز وبذلك اكتسبت القاعدة مكانة كلامية سامية وقد أشرنا في تعليقتنا على كشف المراد إلى تلك المسائل المبتنية عليها ، وهي كالتالي :11.لزوم معرفته تعالى عقلا
2.وجوب تنزيه فعله عن العبث.
3.لزوم تكليف العباد.
4.لزوم بعث الأنبياء.
5.لزوم النظر في برهان مدعي النبوة.
6.العلم بصدق مدعي النبوة.
7.الخاتمية واستمرار أحكام الشريعة.
8.ثبات الأصول الأخلاقية ودوامها.
9.لزوم الحكمة في البلاء والمصائب .
10.الله عادل لأيجوز([5])
نعم هناك جدل كبير بين الفلاسفة هل هذه القضية قبلية أم بعدية هل هي من العقليات الصرفة أم هي من الاعتبارات (المشاركة المصلحية التي تعد من خواص الإنسان من الاعتباريات التي تكون بعد الاجتماع لا قبله ، وقد ذهب إلى هذا جمع غفير من لعل الحكمة ، وذلك كالشيخ الرئيس والمحقق الطوسي ، وقطب الدين الرازي ، وعمر بن سهلان الساوي في البصائر النصيرية والمحقق الأصفهاني ، وكذلك تلميذه المظفر، ففالحسن والقبح عند هؤلاء جميعا من القضايا المشهورة لا اليقينية ، وذلك لأن المشهورات قضايا لا مطابق لها في الخارج بخلاف اليقينيات
بينما ذهب كل من المحقق اللاهيجي والحكيم السبزواري إلى أن التحسين والتقبيح من اليقينيات([6])
وهذا لايعني انهم اختلفوا في أنها عقلية وهذا ما نبه إليه المحقق سبحاني في كتاب الإلهيات من كون البعض يقول ان رأي الفلاسفة مثل رأي الأشاعرة ، بل هذا خطأ كبير فالفلاسفة يقولون هي عقلية لكن من أي نوع من أنواع العقليات هل هي بديهية يقينية أم مشهورة صلاحية تأديبية ، بينما الأشاعرة ذهبوا إلى كونها غير عقلية بالمرة بل هي شرعية ، وهذا فرق واضح بين .
نعم لو كانت هي تأديبية بعد الاجتماع فأكيد تتأثر بعض النتائج التي عددها الشيخ سبحاني ، مثل ثبات الأخلاق ، أما إذا كانت يقينية كما ذهب الفيلسوف ملا هادي السبزواري فإن النتائج تكون كاملة حيث أن اليقينيات ثابتة لا تتغير بتغير المجتمعات ، والبحث يطلب في مضانه.
وبالجملة الإنسان له خاصية إدراك الحسن والقبح لذا يضع القانون حتى يستقر الاجتماع ، وهذه القضية تتطور وتتكامل كلما تطور العقل الإنساني.
خامسا :خاصية الخجل والخوف والرجاء :وهي تلحق بالانفعلات النفسية قال صدر المتالهين :ومنها ان الانسان اذا حصل له شعورا بأن غيره اطلع على أنه أرتكب فعلا قبيحا فإنه يتبع ذلك الشعور حالة انفعالية في نفسه تسمى الخجالة .
ومنها انه قد ظن أن أمرا يحدث في المستقبل يضره فيعرض له الخوف أو ينفعه فيعرض له الرجاء.
ثم يبين ان الانسان بعقله ونفسه يدرك ذلك بينما سائر الحيوانات مدبرة غريزيا نوعيا وليس شخصيا
قال :وبالجملة ان الأفعال الحكمية والعقلية إنما تصدر من الإنسان من جهة نفسه الشخصية ومن سائر الحيوانات من جهة عقولها النوعية تدبيرا كليا ([7])
وهذه الانفعالات النفسية تنفع الإنسان نفعا كبيرا ، فالخجل الناتج من الحياء يجعل الإنسان يبتعد عن الرذائل سواء خجل من الله فيبتعد عن الذنوب والمعاصي الدينية أو خجل من الآخرين فلا يؤذيهم ويكون إنسانا صالحا ، نعم هي فضيلة تكون بين وسطين فقد يكون الخجل في جهة الإفراط فيخجل من كل شي لذا قيل الخجل قاتل للموهبة ، كمن يخجل من التحدث أمام الآخرين مع أنه قد يكون لديه معلومات أفضل منهم ، وقد يصل الإنسان إلى مستوى الخجل العام بحيث يخجل حتى من الظهور أمام الآخرين فتكون شخصيته انطوائية وقد درس علم النفس أنواع الشخصية من منفتحة أو انطوائية وادرج شدة الخجل في ضمن الأمراض النفسية ودعى للتعامل معها بجدية خصوصا من الأسرة التي قد تربي الطفل على ذلك .
وقد تقع هذه الخصلة في جانب التفريط بحيث يفرط بها ويتخلص منها فإذا لم يخجل من الله ارتكب الآثام والذنوب الكبيرة والصغيرة وتعدى حدود الله ، وإذا لم يخجل من أسرة أو مجتمع ارتكب كل شيء يشينه عندهم وبذلك يفقد كل احترام وخصوصية.
لذا نجد أن الشرع قد مدح الحياء والخجل وقد وردت روايات كثيرة حول ذلك قال النبي محمد ص (الحياء لاياتي إلا بخير )وقال (الحياء خير كله)وقال الإمام علي ع (الحياء سبب إلى كل جميل )وعنه أيضا (أعقل الناس أحياهم ) وقال ع (الحياء يصد عن فعل القبيح )([8])
0وهكذا صفة الخوف فهي أيضا صفة نافعة تقع تحت القوة الدافعة ر التي تساهم في حفظ الفرد ثم النوع من الخطر الخارجي الذي يهدده وبدونها يكون عرضة للزوال.
وهي أيضا تقع بين الإفراط والتفريط على قاعدة الفضيلة بين رذيلتين ، فأما يفرط في الخوف جدا بحيث يخاف من كل شي من الليل ومن الوحدة ومن الحشرات ومن الوهم ، ومن جميع الأشياء ، أو لايخاف شيئا فيكون متهورا.
والخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله تعالى وحده لاغير لأنه لامؤثر في الوجود إلا الله ، نعم يمتنع من الآخرين ليس خوفا على نفسه أحيانا بل حفظا للدين كما في قضية موسى عليه السلام حيث بين إلامام علي عليه السلام أن موسى لم يخف على نفسه بل خاف على الناس يرتدوا عن دينهم وغلبة الجهال.
قال الشيخ النراقي في جامع السعادات :الخوف على نوعين :أحدهما مذموم بجميع أقسامه ، وهو الذي لم يكن من الله ومن صفاته المقتضية للهيبة والرعب ، ولا من معاصي العبد وجناياته ، بل يكون لغير ذلك من الأمور وهذا النوع من رذائل قوة الغضب من طرف التفريط ومن نتائج الجبن
ثانيهما محمود وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وجنايته ، وهو من فضائل القوة الغضبية ، إذ العاقلة تامر به وتحسنه ، فهو حاصل من انقيادها لها ([9])
.
ثم تأتي فضيلة الرجاء وهو توقع الخير وقد قيل عنه (هو ارتياح القلب لانتظار المحبوب ) وهو دافع للأمل وأيضا يقع بين فضيلتين بين إفراط وتفريط فقد يعيش الإنسان الرجاء فقط دون العمل ويعيش التمني والانتظار السلبي ، وقد يفقد الرجاء كليا فيكون يائسا عبوسا بلا أمل أو تطلع وفي كلا الحالتين يكون بلا عمل شدة الرجاء والانتظار تجعله كسولا وشدة اليأس تجعله بلا حركة وهذه أمراض أخلاقية خطيرة تصيب الإنسان وحده ، وقد درسها علم الأخلاق جيدا وهكذا علم النفس بشقيه الفلسفي والتجريبي.
الخاصية الخامسة :خاصة الرؤية في المستقبل :فالإنسان يمتلك رؤية مستقبلية تؤثر على قراراته الحالية فهو يقيس الأمور هل تؤثر عليه سلبا فلا يفعلها أو ايجابا فيقدم عليها .
وهذه القضية جدا مهمة وخطيرة بحيث نشأ علم خاص مختص بالمستقبل ، والبشرية تتقدم حينما ترصد ذلك وتجعل المستقبل في حسبانها على جميع المستويات ، بينما نجد الإنسان المتخلف والأمة المتخلفة تعيش الحاضر فقط بعقلية الماضي ، فلم ترصد للمستقبل شيئا ، ولاشك أن المستقبل لمن فكر به ووضع له الخطط الحقيقية وقد تضع بعض الدول خطة لخمسين سنة قادمة بينما تعيش أمة ما التخبط في الغد ، وهكذا الإنسان الفرد الذي لم يدرس مستقبله نراه يعيش التخبط والضياع ، بينما نجد ان القرآن الكريم يقول على الأنسان أن يهتم بذريته في الأموال ، ونجد انه يقول إن المستقبل للمستضعفين في الأرض والعاقبة للمتقين ، فهو يحث على الرؤية المستقبلية ، وهكذا النبي صلى عليه وآله كان يحفر بالخندق ويبشرهم بامتلاك ملك كسرى.
ولكن الإنسان قد يتكل على هذه المبشرات دون عمل وكد وسعي ، فيضيع الحاضر ولاشك انه دون حاضر لامستقبل فالتاريخ حلقات متسلسلة اذا ضاعت حلقة أثرت على باقي الحلقات
والإنسان له قدرة على النظر إلى الوراء وهو الماضي ، وقد يعيش الماضي كله دون الحاضر ، بينما القرآن الكريم يقول إن الماضي عبرة وقصة إنسانية نستفيد منها في الحاضر ، وقد يقطع صلته بالماضي كليا فيعيش بلا إرث وحضارة وأسس ، وله أيضا قدرة في النظر إلى الحاضر بموعظة وعبرة الماضي وأسس تقدم الحاضر ، وله رؤية مستقبلية عبر هذين النظرتين ، فهو ثلاثي النظر بالنسبة إلى الزمان دون إفراط وتفريط عندها ينجح ويكون إنسانا صالحا.
سادسا:خاصية التذكر :وهو استرجاع الصورة المحفوظة بعد زوالها من القوة العقلية ,قال صدر المتالهين رحمه الله (الذكر وهو ان الصورة المحفوظة اذا زالت عن القوة العقلية فاذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر )([10])
فالعقل الانساني قوة تحضر فيها قضايا اساسية ضرورية وفيها قضايا كسبية اما تزول فتحتاج الى كسب جديد او تقوم القوة التذكرية في تذكرة ,والسبب عند صدر المتالهين في غياب الصور العقلية هو الحس فان الانسان اذا عاش بحسه غابت عنه الصور العقلية لذا جعل الله له هذه القوة الرائعة لاجل التذكر ومن دونها لابد ان يعيش حياة كسبية للمعارف دائما وهذا يعقد حياته وتكون غير ممكنة , فالعقل خزين معرفي كبير يتم خزن المعارف فيه ثم يقول الانسان في تذكرها وهي تشمل حياته الفردية والاسرية والاجتماعية ,واكبر مرض يصيب الانسان هو فقدان الذاكرة ,وهناك امراض خطرة مثل الزهايمر يجعل الانسان بلا ذاكرة فيفقد حياته العقلية فيعيش حياة تعيسة بلا تذكر حتى لاقرب المقربين اليه ,بل حتى احتياجاته الخاصة .
وقد وقع جدال كبير بين بعض الفلاسفة حول اصل امكانية التذكر فالفخر الرازي ادعى عدم الامكان في ذلك وقد نقل دعواه صدر المتالهين ثم ناقشها نقاشا مستفيضا واثبت امكان ذلك ([11])
وقد اولت النصوص الدينية هذه القضية اهتماما خاصا وحذرت من بعض الامور التي تورث النسيان وحثت على بعض الامور التي تكسب الذلكرة وهكذا علم الطب حيث يعالج من جهته ببعض العقاقير وهكذا علم النفس ايضا .
سابعا:خاصية درك الكليات قال صدر المتالهين رحمه الله (ومنها اخص الخواص بالانسان :تصور المعاني الكلية المجردة عن المادة كل التجريد والتوصل الى معرفة المجهولات تصديقا وتصورا من المعلومات الحاضرة ([12])
وفي هذه الخاصة للانسان يشير الى اهم بعد فيه وهو البعد الفكري وتصور الامور الكلية المجردة فالانسان ليس حبيس التصورات المادية الضيقة والحواس فقط او هو بلا حركة فكرية تنتقل من المعلوم الى المجهول بل لديه قوة فكرية تجعله يعيش المعرفة الكلية الفلسفية والمنطقية ,(والفكر المصطلح العلمي المنطقي هو الحركة العقلية من المطالب الى المبادىئ ومن المبادئ الى المطالب واما الفكر عند الجمهور الناس فهو كل انتقال للنفس في المدركات الجزئية) ([13])
وقد اختلف الفلاسفة اختلافا كبيرا في قضية الفكر الانساني بسبب اختلافهم في حقيقة عقل الانسان ولهذا السبب تكون علم خاص انفصل عن الفلسفة وهو علم (نظرية المعرفة)يبحث في حقيقة الادراك الانساني وماهية العقل ومدركاته وكذلك في قيمة وموضوعية هذه المدركات ,وقد احتدم النزاع بين فلسفة حسية مادية تنكر المجردات العقلية وتراها ضربا من الوهم وبين فلسفة عقلية تنتقل من الحسي الى العقلي تمتد الى من ارسطو ثم الفلسفة الاسلامية ولا زال النقاش والجدل والبحث مستمرا حول ذلك وقد درس المنطق الارسطي هذه الكليات وراجعها الى خمسة كليات وهي اما ذاتية وهي ثلاثة (نوع ) و(جنس )و(فصل) او عرضي وهو اما عرض عام او خاص وهي الماهيات المتصورة في العقل الانساني ,وهكذا درست الفلسفة المفاهيم الكلية الفلسفية وليس المنطقية من قبيل مفهوم الوجود ومفهوم الوحدة ومفهوم ومفهوم العقل والنفس وهكذا باقي المفاهيم الفلسفية ةهذه مهمة الفلسفة دراسة الوجود دراسة كلية في قبال العلوم حيث تدرسه دراسة جزئية .
وهذه اشرف خاصية للانسان وهو الادراك وسر الخلافة الانسانية ومنها ينطلق الانسان الى التكامل في جميع صنوف المعرفة والا بقي حبيس الادراكات الجزئية كالحيوان ولما تطور وتقدم (فمعلومك التصوري والتصديقي من الكليات نور يسعى بين يدي عقلك يرشدك الى حقائق كليات اخرى مجهولة,واحكام مشتركة بين الجزئيات ,فكمال النفس في سباحة بحار الكليات وغوصها وسياحة ديار المرسلات ودوسها ,بل الجزئي المادي كسراب في الفلا فالجزئي (كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه) واما الكلي فدائم مجرد ([14])
فهذه الادراكات الكلية هي العلم الحقيقي وهي الثوابت وبها تتم المعرفة اما الجزئي فغير ثابت متحرك متحول وليس مجردا نعم هو بالتجرد يكون كليا ويجرده الانسان ليصل الى الانواع الكلية ,وفي قبال هذه المعرفة وهذه النظرية توجد نظرية تنكر ذلك وتقول المعرفة غير ثابتة والكليات هي نوع من الاوهام والمخلوقات الذهنية ,(ماظنك بمن يعامل المتحول معالمة الثابت ويعامل السائل معاملة الصلب يقال لمثل هذا الشخص :انه ماهوي تمتلكه (نزعة الماهية)فجعل ينظر الى كل شئ على انه (مثول) لطبيعة مححدة ثابتة مسيجة كتيمة لاتمتزج بغيرها ولاتلتئم بسواها ([15])
ثامنا :خاصة الاتصال بالعقل الفعال يقول صدر المتالهين رحمه الله عن اخص خواص الانسان (واخص من هذا كله هو اتصال بعض النفوس الانسانية بالعالم الالهي بحيث يفني عن ذاته ويبقى ببقائه ,وحينئذ يكون الحق سمعه وبصره ويده ورجله ,وهناك التخلق باخلاق الله تعالى )([16])
وقد قسم الفلاسفة العقل الى اقسام وذكر المصنف منها قسما وهو العقل الفعال وقد ذكروا ان العقل اما بالقوة والاستعداد او بالفعل وحتى يصل الى الفعلية لابد له من مراحل يطويها وهي اربعة (العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد) وقد تكلم عنها الفيلسوف ابن سينا في اغلب كتبه والعقل الفعال هو غير العقل بالفعل اذ العقل الفعال هو كما يعرفه الكندي اذ يقسم العقول الى اربعة اقسام منها العقل الذي هو بالفعل اي ليس فيه اي جنبة قوة وهو الله او العقل الاول وهو علة جميع العقول والمعقولات في الوجود ([17])
وصدر المتالهين يجعل الاتصال بهذا العقل لبعض النفوس وليس للجميع لذا جعله اخص من باقي الخواص حتى الادراك للكليات , وهو يكون عبر منهج محدد يمر بمراحل تكون سبب للفناء وهي اربعة مراحل
1.تجلية :وتتم بامتثال احكام الشريعة
2.تخلية:وتتم من خلال التخلص من رذائل الاخلاق
3.تحلية :وهي الاتصاف بفضائل الاخلاق بعد خلو النفس من رذائل الاخلاق فالفضائل بمثابة الحلي التي تتزين بها المراة .
4.الفناء وهو فناء استهلاك وليس فناء هلاك ([18])
والفناء يكون بتبديل الصفات اليشرية بالصفات الالهية دون الذات ,فكلما ارتفعت صفة من صفاتها قامت صفة الهية مقامها ,فيكون الحق سمعه ويصره كما نطق به الحديث ويتصرف في الوجود بما اراد الله ([19])
وهذه الخاصة تاتي بعد مرحلة الفكر وادراك الكليات فتلك خاصة فكرية عقلية وهذه خاصة عمليةترتبط بالجهاد الاكبر وهي مرحلة العرفان العملي بعد النظري بينما ادراك الكليات يساعد عليها علم المنطق في ادراك المفاهيم المنطقية وهكذا الفلسفة في ادراك المفاهيم الفلسفية والعقل الفعال فيه اعيان الوجود وكله بالفعل وهو الذي اذا اتحد به الانسان اصبح مدركا لحقائق الوجود بالكلية .
بهذا نخلص مما اردنا من خاصة النفس الانسانية التي تختلف مع باقي النفوس ,وراينا كيف تنتقل من طور الى طور حتى تصل الى مرحلة الفعلية والتجرد اذ النفس عند صدر المتالهين مادية الحدوث مجردة البقاء وبتجردها تبقى وتحشر منعمة اما اذا سيطر عليها الوهم والحس ولم تتكامل تبقى معذبة وشقية والحمد لله رب العالمين .