الرؤية القريبة والبعيدة للأشياء واشكالية ادراك الواقع

بواسطة |   |   عدد القراءات : 1251
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
الرؤية القريبة والبعيدة للأشياء واشكالية ادراك الواقع

بقلم سماحة السيد فاضل الموسوي الجابري

 

        بسمه تعالى               

 

من الواضح عند المحققين من الفلاسفة والحكماء ان الواقع واحد لا يتعدد او يتغير عما هو عليه , فهو ذو لون واحد وشكل واحد في نفسه وفي نفس الامر . 

واما الذي يختلف فهو نظرتنا لذلك الواقع , فقد نراه بشكل معاكس او مختلف عما هو عليه فيختلف الواقع بالنسبة الينا لا بالنسبة الى نفسه, وبالتالي فان مقولة نسبية الواقع لا تحظى باي سند علمي وفق منهجية علم المعرفة والأبستمولوجيا , لان مدار ومعيار وجود الاشياء انما هو في تشخصها , فالشيء ما لم يتشخص لا يوجد, والوجود هو الذي يمثل هوية الشيء , فثبوت تلك الهوية وذلك التشخص للأشياء امر ضروري , لأنها حاكية عن ذاته , وسلب الشيء عن ذاته ولوازم ذاته مستحيل بحكم العقل , وبالمقابل فإن ثبوت الشيء لنفسه بنفس الضرورة بحكم العقل, فالواقع لا يمكن ان يكون نسبيا , والحقائق التي تشكل مصاديق ذلك الواقع كذلك , لان الواقع ما هو الا تلك الموجودات التي نسميها واقع ,أي مجموع تلك الاشياء , نعم يصدق الواقع بمعناه العام الكلي ولو بتحقق احد تلك المصاديق او الحقائق .  

اذا عرفت هذا نقول : الانسان قد يحتاج الى رؤية قريبة للأشياء , من خلالها يستطيع ادراك ادق الامور فيها , حيث تكون اجزاء او جزئيات الشيء ماثلة امام عينيه , فيعرف تفاصيلها بشكل كامل . ولكن هذه الرؤية – على الرغم من دقتها – فيها عيب من جهة اخرى , وهي ان مساحة المرئي فيها صغيرة جدا , فلا يمكن رؤية ما حولها من الاشياء , في حين ان الادراك الكامل للأشياء لا يمكن ان يحصل او يتحصل بمجرد ذلك , وانما يحتاج الى النظر الى ما حولها لكي تكتمل الصورة , وسبب ذلك واضح اذ ان الاشياء ترتبط ببعضها ولا يمكن ان تتجرد عنها بإخذها احادية , لان الوحدانية وان كانت مفيدة في معرفة اجزاء وجزئيات الشيء , الا انها لا تعطي التصور الكامل ما لم يتشخص موقع ذلك الشيء او تلك الحقيقة من بقية الاشياء والحقائق , أي النظر للشيء بالنسبة لغيره ومع غيره , لان الواقع لا يمكن ان يؤخذ مجزءا ومنفردا عن بقية الاشياء بسبب وجود الترابط بينه وبين الاشياء الاخرى , سواء على مستوى العلاقة الطولية الناتجة عن مبدء العلية والسببية او على مستوى العلاقة العرضية بين المماثل المقهوي او المماثل الوجودي او بنحو الشرط او الشطر أي الاجزاء والشرائط والمقدمات البعيدة والقريبة , بل اوسع من ذلك بالمنظور الدقيق . 

ولأجل تقريب الفكرة نضرب لذلك مثلا , فلو قطعنا ورقة من كتاب يحتوي على نظرية فلسفية او حقيقة علمية فان هذه الورقة يمكن ان يتعلق الادراك في محتواها لان فيها مجموعة من العبارات والجمل التي يحسن السكوت عليها , الا انها مقطوعة من سياق الكتاب التي هي جزء منه , وبالتالي لا يمكن فهم محتواها بشكل كامل ما لم اضعها في سياقها ومكانها الصحيح , ضرورة ان فهمها بشكل كامل وصحيح يتوقف على معرفة ما قبلها وما بعدها . 

وعليه نصل الى ان الرؤية القريبة لا تعطي دائما الصورة الحقيقية للواقع , ولا يمكن من خلالها صياغة رؤية معرفية أبستمولوجية كاملة .

واما الرؤية البعيدة للأشياء فهي تتكفل برؤية الشيء مع ما يحيط به من اشياء وتبين موقع ذلك الشيء منها , فهي كالصورة التي تؤخذ من الجو او عبر الاقمار الاصطناعية حيث تكون شاملة وتعطي نظرة واسعة للمحيط والمحاط على حد سواء , الا ان فيها عيبا هي الاخرى , وهو انها لا تعطي تفصيلات ورؤية شمولية لنفس الشيء المراد معرفته , فلا تحكي كل اجزاء او جزئيات الشيء – كما هو حال الرؤية القريبة – ولا شك بان النظر الى الشيء بشكل ظاهر وسطحي لا يبرز حقيقة الشيء ولا يبين ماهيته , وبالتالي لا يمكن صياغة رؤية معرفية تحكي عن الواقع بكل حيثياته استنادا الى تلك النظرة فحسب .

ومن هنا اذا أردنا ادراك الواقع بشكل صحيح وشمولي فلابد من ك تحصيل كلا الرؤيتين القريبة الفاحصة والبعيدة الشاملة على نحو الاجتماع , فمن خلالهما معا يمكن ادراك الواقع كما هو عليه, لان واقع الشيء سوف يكون واضحا في بعده التفصيلي والذاتي والداخلي وكذا في بعده الاجمالي والشمولي والخارجي .

ومن المهم ان نؤكد بان هذه القاعدة لا تختص بصورة دون صورة او بجانب دون جانب , وانما تشمل كل مجالات الحياة وكل الموجودات والحقائق , سواء مادية كانت او معنوية , فكرية نظرية او عملية حسية , علمية تطبيقية او انسانية تنظيرية . لان هذه القاعدة تنطبق على كل هذه المعطيات بنسبة واحدة بلا تفاوت او تغاير . 

نعم قد يكون التفاوت في الاهمية والاولوية , فكلما كانت تلك الماهية او القضية او الحقيقية مهمة للإنسان كان تطبيق هذه القاعدة ضروريا ومهما , ولا شك بان اولى تلك الامور التي يجب استجلاء معرفة واقعيتها وحقيقتها هو الانسان نفسه , حقيقته وذاته, روحه ونفسه ,جسده وقلبه, من اين جاء والى اين يقصد , من اوجده ولماذا اوجده , هل تقتصر حياته و وجودة على هذه الدنيا ام وراء هذه الدنيا حياة اخرى تختلف عنها جملة وتفصيلا , وهل ان شخصيته متقومة بهذا الجسد ام هي متقومة بنفسه وروحه , وما دوره ومهمته في هذه الحياة , وما هو موقعه من بقية الموجودات , هل هو موقع للجسد الصغير المتضائل في الصغر او موقع للنفس التي يمكن ان تتمدد لتسع كل الوجود , فيكون الوجود بالنسبة اليها صغيرا لا ان تكون هي صغيرة بالنسبة الى الوجود ؟؟

 الى غير ذلك من الامور التي يجب على الانسان ان يستجليها ويعرف واقعيتها , بنظرة ورؤية قريبة فاحصة ودقيقة , وبنظرة ورؤية بعيدة شاملة و واسعة .فتأمل كثيرا. 

 

السيد فاضل الموسوي الجابري 

النجف الاشرف

Powered by Vivvo CMS v4.7