هل في القرآن من كلام الآخرين؟
هل في القرآن من كلام الآخرين؟
خَصَّصَ الفادي المفترِي الجاهلُ هذا المبحثَ من كتابه لاتِّهامِ القرآنِ بأَنَّه
من تأليفِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه نَقَلَه عن كلامِ الآخرين، من العربِ واليهودِ والنَّصارى والفرسِ وغيرهم، فهو أَساطيرُ الأَوَّلين اكْتَتَبها.
ولْننظرْ في اتِّهاماتِه التي أَوردَها تحتَ عنوانِ " الكلام المنقول "، لنرى
سَخافَتَها وتَفاهَتَها، وجَهْلَ مَنْ أَطْلَقوها.
سَجَّل في بدايةِ اتهاماتِه قولَه تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) .
ثم علق على الآيتَيْن تَعْليقاً فاجِراً قبيحاً، قال: "تدلُّ هذه الآية ُ على أَنَّ
محمداً قال: إِنَّ القرآنَ نَزَلَ عليه وَحْياً مِن الله ...
ولكنَّ مُعاصريه لم يَجِدوا في ما جاءَ به شيئاً جَديداً، فقالوا: إِنَّه جاءَ بأساطيرِ الأَولين، التي كانَ يَسمعُها، وكَتَبَها قرآناً.
فهي ليستْ وَحْياً!
لقد اقتبسَ محمدٌ أَشعارَ امرئ القيس، وأَقوالَ عمرَ بن الخطاب، وكُتُبَ جُهّالِ اليهودِ والمسيحيين، وكُتُبَ الفرسِ، وكُتُبَ الحنفاءِ، وغيرهم ... ".
هكذا بجملةٍ فاجرةٍ يُلْغي هذا الفاجرُ الوحيَ والنبوةَ والرسالة، ويَعتمدُ
اتهاماتِ الكفرةِ الفجرةِ السابقين، التي ذَكَرَها القرآن، ثم نَقَضَها وَرَدَّها، لكنه لكُفْرِه وفُجورهِ لا يَقْبَلُ رَدَّ القرآنِ عليها.
قالَ الكفارُ عن آياتِ القرآن: هيَ أَساطيرُ الأَوَّلين، وقَصصُ السابقين
وأَخبارُهم، طلبَ محمدٌ من الكُتّابِ أَنْ يكْتُبوها له، فَفَعَلوا وقَدَّموها له،
وصارَتْ تُملى عليه في الصباحِ والمساء، فأَخَذَها منهم، وزعَمَ أَنها جاءَتْه
وحياً من عندِ الله، وليس في المسألةِ وَحْيٌ ولا نبوَّة!!.
وَرَدَّ اللهُ على هذا الاتهامِ بتقريرِ حقيقةِ الوحي، وتَأكيدِ أَنَّ القرآنَ
كَلامُ الله - عز وجل - (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
واللهُ يَعلمُ السِّرَّ ويَعلمُ الجهر، لكنه ذَكَرَ هنا السِّرَّ دونَ الجهر، لأَنَّ إِنزالَ القرآنِ عن طريقِ جبريل - عليه السلام -، كان بطريقةٍ غيبيةٍ خفيَّةٍ سِرِّيَّة.
والفادي الحاقدُ أَغفلَ عامداً كلامَ اللهِ الذي رَدَّ على اتِّهامِ الكفار، وأَبْقى
كلامَهم مُعْتَمِداً له.
ومن أَكاذيبهِ الصارخةِ المتهافتةِ قولُه عن الكفار: " ولكنَّ مُعاصِريه لم
يَجِدوا في ما جاءَ به شَيْئاً جديداً ".
أَيْ أَنَّ القرآنَ تكرارٌ لما قالَه السابقون، وتَرديدٌ لكلامِهم، وليس فيه أَيُّ شيء جديد! علماً أَنَّ القرآنَ لم يتأَثَّرْ بما كانَ حولَه من معارفَ وثقافاتٍ وخرافات، وكُلُّ ما أَتى به فهو جَديد، لم يُسْبَقْ إِليه.
أولاً: ماذا أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من امرئ القيس؟ :
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بعضَ كلامِ الشاعرِ الجاهليِّ المشهورِ " امرئِ القَيْس "، وسَجَّلَه في القرآن، ونَسَبَه إِلى الله، وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه! وقَدَّمَ الغبيُّ دليلاً على دعْواه وزعْمِه أَبياتٍ ركيكة، ادَّعى أَنها لامرئ القيس، مع أَنها ليستْ له، وإِنما هي في غايةِ الضعفِ والركاكة، وشعْرُ امرئ القيس في غايةِ الفصاحةِ والبلاغة.
ولْنقرأْ هذا الشعرَ الركيكَ، الذي صاغَه شاعِرٌ متأَخِّر، ونَسَبَه الفادي
الجاهلُ إِلى امرئ القيس:
دَنَت السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرْ ... عَنْ غَزالٍ صادَ قَلْبي ونَفَرْ
أَحْوَرٌ قَدْ حِرْتُ في أَوْصافِهِ ... ناعِسُ الطَّرْفِ بِعَيْنَيْهِ حَوَرْ
مَرَّ يَوْمَ العيدِ بي في زينةٍ ... فَرَماني فَتَعاطى فَعَقَرْ
بِسِهامٍ مِنْ لِحاظٍ فاتِكٍ ... فَرَّ عَنّي كَهَشيمِ المُحْتَظِرْ
وَإِذا ما غابَ عَنِّي ساعَةً ... كانَت السَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرّ
كَتَبَ الحُسْنُ على وَجْنَتِهِ ... بِرَحيقِ المِسْكِ سَطْراً مُخْتَصَرْ
عادَةُ الأَقْمارِ تَسْري في الدُّجى ... فَرَأَيْتُ اللَّيْلَ يَسْري بالقَمَرْ
بالضُّحى وَاللَّيْلِ مِنْ طُرَّتِهِ ... فَرْقُهُ ذا النَّورِكَمْ شَيءٌ زَهَرْ
قُلْتُ إِذْ شَقَّ العِذارُ خَدَّهُ ... دَنَت السّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرْ
ليسَ مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي أَخَذَ بعضَ جُمَلِ هذه القصيدة، وَوَضَعَها في القرآن، كما ادَّعى الفادي الجاهل، وإِنما الشَاعِرُ الضعيفُ الركيكُ المتأَخِّر - الذي لم أَعرف اسْمَه - هو الذي حاكى القرآنَ كَلامَ الله، واقْتَبسَ من القرآنِ بعضَ جُمَلِه، زَيَّنَ بها قَصيدَتَه.
وديوانُ الشاعرِ الجاهليِّ البليغِ امرئ القيسِ مَطْبوعٌ مُتَداوَل، ونَتَحَدّى
الفادي الجاهلَ أَو أَيَّ واحدٍ من أَهْلِ مِلَّتِه أَنْ يُرينا هذه القصيدةَ الركيكةَ في
ديوانِ امرئِ القيس! فافتراءُ الفادي المفترِي لا يَثْبُتُ أَمامَ البحثِ العلمي.
أَخَذَ الشاعرُ المتأخِّرُ من سورةِ القمرِ قولَه تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فافتتَحَ بها قصيدَتَه، كما خَتَمَها بها في الشطرِ الثاني من بيتِه
الأَخير، مع بعضِ التحوير.
حيثُ قال: دَنت الساعةُ وانشقَّ القمر.
كما أَخَذَ من السورة قولَه تعالى: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ،
ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الثالث: فرماني فتعاطى فعقر.
وأَخَذَ من السورةِ قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ، ووَضَعه في الشطرِ الثاني من البيتِ الرابع: فَرَّ عَنّي
كهشيمِ المحتَظِر.
وأَخَذَ من السورةِ قولَه تعالى: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الخامس: كانت الساعةُ أَدهى وأَمَرّ.
وأخذ من سورة الضحى قوله تعالى: وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) . ووضعه في الشطر الأول من البيت الثامن: بالضحى والليل من طُرَّتِه..
وذَكَرَ الفادي المفترِي بَيْتَيْنِ آخَرَيْن، لا يَختلفانِ عن الأَبياتِ السابقةِ في
الركاكةِ والضَّعف، والغَزَلِ الساقط، نَسَبَهما لامرئ القيس أَيْضاً، وزَعَمَ أَنَ
محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ منهما كلاماً في القرآن.
وهما: أَقْبَلَ وَالعُشّاق مِنْ حَوْلِهِ ... كأَنَّهم من كلِّ حَدْبِ يَنْسِلونْ
وَجاءَ يَوْمَ العيدِ في زينَتِه ... لِمِثْلِ ذا فَلْيَعْمَلَِ العامِلونْ
وما قلناهُ عن الأَبياتِ السابقةِ نقولُه هنا، ويَبدو أَنهما لنفسِ ناظمِ الأَبياتِ
السابقة، حاكى القرآنَ، وأَخَذَ منه بعضَ كلامِه، وَوَظَّفَهُ بوَقاحَةٍ للغزل بعشيقِه والثناءِ عليه.
أَخَذَ من سورةِ الأَنبياءِ قولَه تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) .
ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الأَول: كأَنهم من كلِّ حَدَبٍ ينسلون.
وأَخَذَ من سورةِ الصافاتِ قولَه تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ..
وَوَضَعَه في الشطرِ الثاني من بيته الثاني.