حول إنزال القرآن مفرقاً

بواسطة |   |   عدد القراءات : 1217
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

حول إنزال القرآن مفرقاً
شاءَ اللهُ الحكيمُ إِنزالَ الكتبِ السابقةِ جملةً واحدة، وشاءَ الحكيمُ
سبحانه أَنْ لا يكونَ إِنزالُ القرآنِ كذلك، ولذلك أَنزلَه مُفَرَّقاً مُنَجَّماً، واستمرَّ إِنزالُه مدة البعثة، التي كانت ثلاثةً وعشرين عاماً.
وقد أَثارَ الكفارُ السابقونَ اعتراضاً وإِشكالاً على ذلك، واقترحوا أَنْ
ينزلَ القرآنُ جملةً واحدة، كالكتبِ السابقة، وذَكَرَ اللهُ قولَهم ورَدَّ عليه في أَكثر من آية.

وأَعادَ الفادي المفترِي اعتراضَ السابقين، واعْتَبَرَه مَطْعَناً يوجَّهُ ضِدَّ
القرآن، ودَليلاً على أَنه ليسَ من عندِ الله.
وجعلَ اعتراضَه تحتَ عنوان: " الكلامُ المفَكَّك ".
أَيْ أَنَّ القرآنَ كلامٌ مُفَكَّك مُتقطع متفرِّق، لا يَجمعُه نظام أَو تناسُق، فهو
مُتَعارِض مُتَناقِض مع نفسِه، فما قالَه قبلَ عَشْرِ سنوات يُخالِفُه الآن، وما أَخبرَ عنه في الماضي يَتَراجَعُ عنه في الحاضر، وما أَباحَه سابقاً يتراجَع عنه لاحِقاً.
وهذا التعارضُ والاختلافُ دَليل على أَنه ليسَ من عندِ الله!!.
أَوردَ المفترِي قوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
تُشيرُ الآيةُ إِلى حقيقةِ إِنزالِ القرآنِ مُفَرَّقاً منجماً، على حسبِ الحوادثِ والأَسباب، وتُبينُ الحكمةَ من هذا الإِنزال، وهي أَنْ يقرَأَهُ
الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على الناسِ على مُكْثٍ وتَمَهُّل.
ثم ذَكَرَ المفترِي تَفسيرَ البيضاوي للآيَة، وتَلاعَبَ في كلامِه كعادتِه،
وقَدَّمَ وأَخَّرَ وحَذَفَ.
وأَوردَ قولَه تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) .
تَذْكُرُ الآيةُ اعتراضَ الكفارِ على إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً، وتَرُدُّ عليهم بالإِشارةِ إِلى حكمةِ ذلك التنزيل.
ثم ذَكَرَ المفترِي تفسيرَ البيضاوي للآية، الذي سَجَّلَ فيه لسِتَّ حِكَم تبدو
من ذلك، وقَدَّمَ وأَخَّرَ في ما ينقلُه كعادتِه.
ثم سَجَّلَ اعتراضَه الفاجرَ بقوله: " ونحنُ نسأل: كيفَ يكونُ القرآنُ
وحياً، وهو متقطِّغ مُفَرَّق، يأتي بعضُه في وَقْتٍ، ويتأخَّرُ بعضُهِ إِلى وقتٍ آخَر؟
لقد كانَ محمدٌ يَرتبكُ عندما كان العربُ أَو اليهودُ أَو النَّصارى يسأَلونَه،

وأَحياناً كان يَحْتجُّ بأَنَّ جبريلَ تَأْخَّرَ بسببِ وُجودِ الكلاب! ".
إِنَّ هذا الفادي المفترِي، مثله مثل باقي الكفار، لا يعجبُه شيء في ما
يتعلَّقُ بالقرآن، لأَنَّ القرآنَ عندَه مُتَّهَم دائماً، ومُخْطِئ دائماً.
فلو أَنَّ اللهَ أَنزله دفعةً واحدةً لاعترضَ عليه هذا الفادي، وقال: إِنَّ محمداً أَخَذَهُ من التوراة، وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه دفعةً واحدةً مثل التوراة!.
وبما أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه منجَّماً مفرَّقاً، فقد اعترضَ الفادي على ذلك، وقالَ - كما قالَ كفارُ قريش -:
لماذا لم يُنزلْه عليه دفعةً واحدةً مثلَ التوراةِ والإِنجيل؟!
وهذا الاعتراضُ المستمِرُّ منه على القرآنِ دليلُ انحرافِ فكرِه، وسَوادِ قلبِه، واتِّباعِه لهواه، ورفضِه الاستجابة لمنطقِ الحق.
ونصَّ القرآنُ على حكمةِ إِنزالِه منجَّماً مفرَّقاً، وذَكَرَ المفسِّرون ومؤَلّفو
الكتبِ في علومِ القرآنِ الحِكَمَ العديدةَ من هذا التفريقِ في إِنزاله.
فاللهُ يقول: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
الحكمةُ هي أَنْ يقرَأَهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على الناس، وأَنْ يُعَلِّمَهم إِياه، ويُربيهم به، وهم أُمّيّون لا يُحسنونَ الكتابةَ والقراءة، فكان من الحكمةِ إِنزالُه مفرقاً، ليُحْسِنوا التعاملَ والتفاعلَ معه، وتنفيذَ أَحكامِه، وتربيةَ نفوسِهم به..
ومعلوم أَنه لا بُدَّ في التربيةِ والمجاهدةِ من المكثِ والتَّأَنّي والتمهُّلِ والتدرُّج، وهذا يتطلَّبُ التفريقَ والتنجيم.
واللهُ تعالى يقولُ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) .
الحكمةُ التي ذَكَرَتْها الآيةُ هي تَثبيتُ فُؤادِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بمواساتِه على ما يَجِدُ من حَرْبِ وتَكْذيبٍ وعِداء، ففي كُلِّ موقفٍ من مواقفِ مواجهتِه للكفار، يُنزلُ اللهُ عليَه آياتٍ جديدة، يُحَدِّثُه فيها عن ما جَرى لنبي قَبْلَه، أَو يُفَرِّحُه بأَنه معه، ويَدْعوهُ إِلى الصبرِ والثبات.

وقد ذَكَرَ العلماءُ حِكماً عديدةً من إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً، نَكتفي
بالإِشارةِ إِلى الحِكَمِ التي ذَكَرَها البيضاوي، ونَقَلَها عنه المفترِي رافضاً
لها:
1 - المساعَدَةُ على حِفْظِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - للآيات، لأَنه أُمِّىّ، فلو أُنزلَ عليه جملةً واحدة لَخُشِيَ أَنْ لا يَحْفَظَه.
2 - نُزولُه مُنَجَّماً بحسبِ الحوادثِ يساعِدُ على حُسْنِ فَهْمِ المؤمنين للآياتِ
وتدبُّرِها.
3 - استمرارُ تَحَدّي الكفار، ومطالبتهِم بالإِتيانِ بمثله، واستمرارُ إِظهارِ
عجْزِهم، وهذا يُؤَكِّدُ حقيقةَ كونِ القرآنِ من عندِ الله.
4 - تَثبيتُ فؤادِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وقلوبِ المؤمنين على الحق، في كُلّ دفعةٍ جديدةٍ من الآيات.
5 - تربيةُ المسلمين، فعندما تقع الحادثةُ تَنزلُ آياتٌ جديدةٌ تُعالجُها، وهذا ما
ثَبَتَ في علْمِ " أَسباب النزولِ "، الذي هو من أَهَمِّ عُلومِ القرآن.
6 - معرفةُ الحكمِ المتأَخِّرِ الناسخِ للحُكْمِ المنسوخِ المتَقَدّم.
والفادي غَبِيّ جاهِلٌ، لا يَعرفُ هذه الحِكَمَ من إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً، ولذلك اعتبرَهُ كَلاماً مُفَكَّكاً.
عِلْماً أَنَّ القرآنَ كُلَّه وحدةٌ موضوعيةٌ واحدة، تَقومُ على التناسقِ
والتناسبِ والترابط، فرغْمَ أَنَّ نُزولَه استمرَّ ثلاثةً وعشرين عاماً، إِلّا أَنّه
مُتَكامِلٌ مُتَرابط، لا تَرى فيه تَفَكُّكاً أَو انفِصالاً أَو اختِلافاً أَو اضطِراباً، وأَكَّدَ هذه الحقيقةَ قول اللهِ - عز وجل -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
ويَبدو التناسقُ والترابطُ في الوحداتِ التالية: كلماتُ الجملةِ القرآنية،

وجُمَلُ الآيةِ الطويلة، وآياتُ السورة، وسُورُ القرآنِ مجتمعة..
وهذا لا يوجَدُ في الكتبِ السابقة، التي حَرَّفَتْها أَيْدي البَشَر.
وقد اعتنى علماءُ ومفَسِّرونَ ببيانِ وإظهارِ التناسقِ بينَ آياتِ السورة، وفي
مقدمةِ هؤلاءِ الإِمامُ المفَسِّرُ البقاعيُّ في تفسيرِه " نَظْمُ الدُّرَر في تناسبِ الآيِ
والسور ".
وسيد قطب في تفسيرِه: " في ظلال القرآن ".
ويأتي بعد هذا المفترِي المجرمُ ليزعُمَ أَنَّ القرآنَ كَلامٌ مُفَكَّكٌ مُجَزَّأٌ،
ويَطرَحَ تَساؤُلَه الفاجرَ الدالَّ على خُبْثِه وجَهْلِه: " كيفَ يكونُ القرآنُ وَحْياً وهو منقطعٌ مُفَرَّقٌ، يأتي بعضُه في وَقْت، ويتأَخَّرُ بعضُه إِلى وَقْتٍ آخر؟ ".
وهو لا يتوقَّفُ عن الافتراءِ والكذبِ عندما يقولُ: " لقد كانَ محمَّدٌ
يَرتبكُ عندما يسأَلُه العَرَبُ أَو اليهودُ أَو النصارى، وأَحياناً كان يحتجّ بأَنَّ
جبريلَ تَأَخَّرَ بسببِ وُجودِ الكلاب ".
لم يَرتبِكْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرةً واحدة، عندما وُجّهَ له أَيُّ سؤال، ولم يَضطربْ ويتلعْثَم لأَنه لم يَعرف الجواب..
إِذا كانَ يَعرفُ جوابَ السؤالِ ذَكَرَه، وإذا لم يَعرف الجوابَ يَنتظرُ الجوابَ من الله، والانتظارُ ليسَ ارْتِباكاً أَو اضطراباً كما ادَّعى الجاهل، إِنما هو تأكيدٌ على حقيقةِ نبوتِه وتَلَقّيه الوحْيَ من الله.
وهذا موجودٌ في مبحثِ " نُزولِ القرآن "، واسْمُه: " ما نزلَ بعد طولِ
انتظار "، مثلُ إِنزالِ الآياتِ بشأنِ خولةَ بنتِ ثعلبة وزوجِها أَوسِ بن الصامت، وإنزالِ الآيات ِ ببراءَةِ عائشة - رضي الله عنها - بعدَ حديثِ الإِفْك، وإنزالِ الآياتِ بشأْنِ قصةِ أَصحاب الكهف وذي القرنين والروح، وهي موجودَةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ لا يتسعُ المَجالُ لذِكْرِها.
وأَمَّا أَنَّ جبريلَ لم يَنزلْ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لوجودِ كلبٍ عندهُ فهذه أُكذوبةٌ مضحكةٌ وروايةٌ باطلة، وَرَدَتْ في بعضِ الكتبِ التي لا تتحرّى الدِّقَّةَ والصحة، فتلَقفَها الفادي المجرمُ المفترِي وَرَدَّدَها..
وتَزعمُ الروايةُ الأُكذوبةُ أَنَّ جبريلَ تَوَقَّفَ لعدةِ أَسابيع عن النزولِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرآهُ في الطريقِ وسأَلَه عن سببِ توقُّفِه، وقال له: لماذا لم تَنْزِلْ عَلَيَّ فأَنا مشتاقٌ إِليك؟

فقالَ له: كيفَ أَنزلُ عليك وفي بيتك كَلْبٌ ميتٌ منذُ أَسابيع!
فأَخرجَ الرسولُ كَلْباً ميتاً تحتَ سريرِه، فنزلَ عليه جبريلُ فوراً بسورة الضحى، التي قال الله له فيها: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .
إِنَّ أَيَّ إِنسانٍ عاقلٍ يرفضُ هذا الهُراء، والمَثَلُ يقولُ: إِذا كان المتكلِّمُ
مجنوناً فلْيكن المستمعُ عاقلاً!!
فهلْ يُعْقَلُ أَنْ يَدْخُلَ كلبٌ بيتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا يَراه
هو أَو أَحَدٌ من أَهلِ بيتِه؟
ويَبْقى مختفياً تحتَ سريره؟
وهل يُعْقَلُ أَنْ يَموتَ الكلْبُ تحتَ سريره، وتبقى جُثَّتُه عدةَ أَسابيع، لم يُلاحِظْها أحد من أَهلِ بيتهِ؟
أَلم تَخرجْ منها الرائحةُ الكريهة؟
أَلم تَتَحَلَّلْ؟
أَلم يشمَّ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - رائحتَها وهو
نائمٌ على السرير، وهي متحللةٌ تحتَ السرير؟
يُريدُ المفترِي منّا أَنْ نُلغيَ عُقولَنا، وأَنْ نُصَدِّقَ هذا الهراءَ السخيف الذي قالَه، والذي يَصْدُقُ فيه كلامُ الشاعر:
هذا كَلامٌ لَهُ خَبيءٌ ... معْناهُ لَيْسَتْ لَنا عُقولُ

Powered by Vivvo CMS v4.7