حول الكلمات الغريبة في القرآن
حول الكلمات الغريبة في القرآن
وَجَّهَ الفادي المفترِي انتقادَه لوجودِ كلماتٍ غريبةٍ في القرآن، وقال: " في
القرآنِ كثيرٌ من الكلماتِ الغريبة، وهاكُم جَدْولاً ببعضِها ".
وبعدَ أَنْ سجلَ عشرينَ كلمةً منها، ذَكَرَ موقفَ عمرَ بنِ الخطاب وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - من هذه الكلمات، قال: " قَرَأَ عمرُ بنُ الخطابِ على المنبر: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) .
فقال: هذه الفاكهةُ قد عرفْناها، فما الأَبُّ؟
ثم رجعَ إِلى نفسه فقال: إِنَّ هذا لهو التكلفُ يا عمر..
وقالَ ابنُ عباس: لا أَعرفُ غِسْلينَ وحَناناً وأَوّاه والرَّقيم "
وختمَ كلامَه بسؤالِه الخبيث: " ونحن نسأل: أَليستْ هذه الأَلفاظُ الغريبةُ
مخالِفةً للذوقِ السليمِ في فَنِّ الإِنشاء؟! ".
ولنقضِ شبهاتِه ودحضِ افتراءاتِه نُقررُ أَنَّ الكلماتِ الغريبةَ في القرآنِ
كلماتٌ عربيةٌ أَصيلة، لها أُصول وجُذورٌ عربية فصيحة، وليستْ كلماتٍ
أَعجميةً أَو معرَّبة، ووجْهُ غرابتِها هو نُدرةُ استعمالِها في الأَساليبِ العربية،
ونُدرةُ دورانِها على أَلسنةِ وأَقلامِ العرب، مما جعلَها شبهَ مهجورةِ
الاستعمال، فغابَ عن الذهنِ العربيِّ المعنى المباشِرُ لها، مما تَطَلَّبَ العودةَ
إِلى القواميسِ والمعاجم لمعرفةِ معناها..
فهي ليستْ غريبةً على اللغةِ العربية في جذورِها واشتقاقاتِها، ولكنها غريبة على الثقافةِ العربية عند المتكلمينَ العرب، وإِذا جازَ توجيهُ اللومِ فإِنه لا يُوَجَّهُ إِلى القرآنِ الذي استعملَها، وإِنما يُوَجَّهُ إِلى القُرّاءِ والكُتّابِ والمثَقَّفينَ العرب، لأَنهم لم يَرْتَقوا إِلى مستوى البلاغةِ القرآنية..
وأَنت لا تَلومُ السامي في ارتقائِه، وإِنما تلومُ الذي لا يرتقي إِلى مستواه.
ثم إِنَّ غرابةَ معاني تلك الكلماتِ، تَزولُ بالعودةِ إِلى كتبِ التفسيرِ
المختصرة، ومَنْ أَرادَ التوسُّعَ والاستزادةَ فيمكنُه ذلك، بالعودةِ إِلى كتبِ
القواميسِ والمعاجم.
ويَكفي لمعرفةِ المعاني السريعةِ لهذه الكلماتِ وغيرِها اصطحابُ كتابِ " كلمات القرآن: تفسير وبيان " لحسنين مخلوف - رحمه الله -..
وقد طُبعَ هذا الكتابُ عدةَ طَبْعاتٍ على هامشِ المصحف، ويمكنُ لقارئ القرآنِ أَن يَنظرَ إِلى هامشِ الصفحةِ من القرآنِ، ليَعرفَ معنى الكلمةِ الغريبةِ في الآية.
وبهذا لم تَعُدْ تلك الكلماتُ الغريبةُ غريبةً، لا على القارئِ العادي للقرآن، ولا على الباحث في معاني وتفسيرِ القرآنِ!!.
إِننا نَعتبرُ وُجودَ هذه الكلماتِ الغريبةِ في القرآن شهادَةً للقرآنِ في
بلاغتِه وسُمُوّه وإِعجازِه، وجَمالاً جَديداً يُضافُ إِلى مظاهرِ جَمالِه في
أَساليبِ بيانِه، وهي ليستْ مخالِفةً للذوقِ السليمِ في فنِّ الإِنشاءِ كما زَعَمَ
الفادي الجاهل.
والروايةُ عن عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - في موقفِه من " الأَبِّ " في القرآنِ صحيحة، لكنَّ الفادي الجاهلَ لم يَعرفْ مَعْناها، فأَساءَ توظيفَها ضدَّ القرآن.
إِنَّ عمرَ - رضي الله عنه - عربيٌّ فصيح، وهو يَعرِفُ معنى " الأَبِّ " في اللغة، ويَعرفُ معناها في الآية: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، ويَعلمُ أَنها مذكورو في مقابلِ الفاكهةِ المخصَّصةِ للإنسان، فهي طعامٌ للأَنعام.
ووجْهُ تَرَدُّدِه ولومِه لنفسِه أَنه أَرادَ أَنْ يُحددَ أَصنافَ الأَبِّ، من أَيِّ أَنواعِ النباتِ هو؟
فكأَنه يقول: عَرَفْنا الفاكهةَ، التي منها الزيتونُ والأَعنابُ والرمانُ والتمر، فما هو الأَبُّ الذي تأكله الأَنعام؟
هل هو " البَرسيمُ والفَصَّةُ"؟
وهل هناك أَسماءٌ غيرها؟
ثم تراجَعَ وقال: إِنَّ هذا لهو التكلُّفُ يا عمر.
فالتكلُّفُ ليسَ في محاولةِ معرفةِ معنى الأَبّ، لأَنه يَعرفُ معناه، ولكنَّه
في محاولةِ تحديدِ أَنواعِه وأَصنافِه وأَسمائِه.
أَما الروايةُ المنسوبةُ إِلى ابنِ عباس - رضي الله عنهما -: "لا أَعرفُ معنى غسلين وحناناً وأواه والرقيم " فهي ليسَتْ صحيحة، وهي مطعونٌ فيها، وتَتعارضُ مع علمِ ابنِ عباس - رضي الله عنهما - بمعاني القرآن، الذي كانَ أَعلمَ الصحابةِ بالقرآن، وقد استجابَ اللهُ دعاءَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له: " اللهمَّ فَقهْهُ في الدينِ وعَلِّمْهُ التأويل ".
وهو الصحابيُّ الذي حازَ لَقَبَ: (حَبْرُ الأُمَّة وتُرجمانُ القرآن) .
وما من كلمةٍ من كلماتِ القرآن إلا وكانَ يَعرفُ معناها الدَّقيقَ،
وكانَ يحفظُ الشواهدَ عليها من الشعرِ العربيّ الجاهليّ.
وقد امتحنَه زَعيمُ الخوارجِ نافعُ بنُ الأَزرق، وسأَله عن معنى حوالي مئةِ كلمةٍ غريبةٍ في القرآن، وعندما كانَ يُجيبُهْ كانَ يطالبه بالشاهد الشعري، فيقول له: " وهل تعرف العرب ذلك من كلامها؟ "، فكان ابنُ عباس يُقَدمُ له المطلوب.
وقد جَمعتْ تلك الأَسئلةَ والأَجوبةَ والشواهدَ الشعريةَ الدكتورةُ عائشةُ
عبد الرحمن - بنتُ الشاطئ - في كتابها: " إِعجازُ القرآن البياني ومسائل
نافعِ بنِ الأَزرق " ...
والذي عنده هذا العلمُ لا يَقول: لا أَعرفُ معنى كذا في القرآن!.